إيرينى سمير حكيم تكتب: كيف تخلق عالماً سينمائياً من الصمت؟

مشهد من فيلم «شادر السمك»
مشهد من فيلم «شادر السمك»

ينتهى الفيلم بمشهد موت كما بدأ بمشهد موت، معطياً للمشاهد دعوة فلسفية للتفكير فى منطقه فى الحياة من خلال رمزياتها

يصف النص فى العمل السينمائى الكثير من المشاعر، لدى أبطال العمل ويُعبِّر عن انفعالات القائمين عليه، كما يعبر عن حقائق تشترك فى دواخلهم مع ما يجسدونه من شخصيات.
أما استخدام تعابير الوجه وإيماءات الجسد، مع قافية النغمات الموسيقية فقط بدون نص فهو يعكس أكثر بكثير مما تستطيع الألسنة الإشارة إليه فى مكنونات الشخصية، وبين سطور الأحداث، وتحوُّل مساراتها الدرامية. 


لكن استخدام تلك العناصر الدرامية يلزمه وجود عناصر خاصة من المواهب، لتُقدَم بإتقان خاص وظائفها، وتضفى على العمل جودة تأثيرها، وتُشعر المُتلقى بأنه يشاهد سينما مميزة، وفى العمل السينمائى الذى سأتحدث عنه هنا تم استخدام هذه الأدوات بلباقة إخراجية شديدة، استطاعت أن تقوم بتحقيق هذا التأثير الأدائى البليغ بفن تعبير صامت، وسأقصر حديثى على المشهد الأخير من فيلم شادر السمك
تعود أهمية مشهد النهاية من الفيلم إلى إبداع المخرج على عبد الخالق الذى رحل عن عالمنا قبل أيام فى توظيف الأشخاص مع الأشياء لينصهروا فى رمزية المشهد السينمائى، حيث نجد أن للأشياء نفس قدر أهمية الأشخاص فى تكوين الحدث الدرامى، كما أن لكل شخص أهميته الخاصة سواء كان بطلاً أو كومبارساً، وبالتالى تساوت جودة التوظيف البصرى بين جميع معطيات المشهد على حد سواء. 

ولقد تضافرت كل عناصر العمل من أداء تمثيلى وموسيقى وإخراج، لتعطى للمشاهد انطباعات رمزية أكثر عمقاً، وبُعداً أكثر دلالة على معانٍ هامة ينتهى إليها العمل، ليظل تأثيرها ممتداً فى ذهن وروح المشاهد إلى ما بعد الانتهاء من مشاهدته.


ويعتبر هذا المشهد تمثيلاً صامتاً، ومن أهم المشاهد التعبيرية فى السينما المصرية، أبدع فى تصميمه المخرج على عبد الخالق؛ حيث بدأه بزاوية سفلية للكاميرا تتركز على وجه (المعلِّم «أحمد» كبير معلمين الشادر وقتها– الشخصية التى يقوم بتجسيدها الفنان أحمد زكى)، الذى يتهكَّم بنظراته على جميع من فى الشادر.

واضعاً فى فمه سيجاراً لا يلمسه بيديه اللتين فى زاوية تالية للكاميرا تظهران وهما فى جيوب جاكت بذلتهِ، لا يأبه بدخانها مستهيناً بنارها، متفحصاً سكون كبار الشادر مستصغراً إياهم، يراهم هادئين متوارين فى جحورهم منتظرين مقدم سيدهم.


وقد لعبت الدكاكين رمزية عالية المعنى على طول الفيلم، فهى بمثابة عروش لكل «معلم» من معلمى شادر السمك، أو كأنَّها كراسى سُلطة، من خلالها تم التحكم فى الصراعات داخل الشادر على النفوذ والمال، وأخيراً فمن داخل هذه الدكاكين، نفَذوا حكم الإعدام الجماعى على «المعلِّم أحمد».


ومن جمال استخدام وتوظيف الأشياء من المخرج فى المشهد النهائى، نجد كيف سلَّط الكاميرا على كل «معلِّم»، وهو بداخل دكانه ينظر بغضب مكتوم كأنَّه النقطة، التى أنهت جمل التهديدات فى المشاهد السابقة.

وبعد اقتراب الكاميرا على كل منهم يُغلَق الدكان من أعلى لأسفل، ولا تكشف الكاميرا يد أو وجه غالقه، وبعد تنفيذ حكم الإعدام تُفتح هذه الدكاكين واحدة تلو الأخرى من أسفل لأعلى لتُظهِر وجه كل منهم مبتسماً راضياً.



لقد استخدم عبد الخالق حركة أبواب الدكاكين كأنَّها حركة إصبع الأمر والنهى من كل «معلِّم» منهم، بالإشارة لصبيانهم، حتى يقتلوا هذا الزعيم غير المحبوب، تعبيراً عن قدرتهم على إهلاكه، بتجمعهم، وعَقد نيتهم على التخلص منه، مع خدمة صبيانهم التى توفر لهم تنفيذ رغباتهم بعيداً عن تلويث أيديهم بدمه.


يأخذك المشهد إلى رمزية أخرى، فبعد صراع «المعلِّم أحمد» الطويل مع السُلطة، انتهى الأمر بطمع أهوج، يشبه محاولة سمكة لأن تصبح حوتاً، فما كان منهم إلا أن تعاملوا مع هذه السمكة كصيادين، اقتنصوها برصاص خادميهم، وابتلعوها ككتيبة إعدام من حيتان!


وكان لهذا المشهد العظيم توظيفٌ رائعٌ من عبد الخالق للموسيقى التى ظهرت مُصاحبة للتمثيل الصامت، فصممت جزءاً من تكوين هذا المشهد، اكتفى المخرج فى لحظات أخرى منه بصوت أبواب الدكاكين.

وصوت طلقات الأعيرة النارية المنتقمة من هذا المتمرد، لتُكمل عزف التأثير النغمى للموسيقى التصويرية فى هذا المشهد الخاص، وفيه لا يشعر المشاهد بانقطاع الموسيقى بل وكأنَّها نغمات متتالية متماشية تماماً مع الأحداث والمشاعر.


ويستكمل المخرج الموسيقى مرة أخرى ناهياً المشهد بتصاعد الدخان وزحف الدماء فى أرجاء الشادر، ولكن تلك المرة ليس دخان سيجار هذا المتعجرف، إنَّما دخان الأسلحة النارية التى اخترقت طلقاتها جسده، مع تعالى التوزيع الموسيقى الذى يصل لذروة الإحساس فيه عند اندماج أداء الآهات للكورال معه، على نغمات نفس المقطع الموسيقى، تحسُراً وتشفياً فى هذا الإنسان البائس الذى يُعبِّر عن شريحة كبيرة جداً من البشر.


ويحقق بذلك المخرج وكذلك المؤلف رمزية شادر السمك التى تشير إلى الدنيا ونوعيات السمك بنوعيات البشر فيها، ورحلة إنسان يعبر عن القدر الأكبر من النفس الانسانية، وكيف تلوث بالطمع بعد أن بدأ مشوار نضجه بالحب والشهامة، وكان الفساد فى الجزء الثانى من رحلته هو مأمنه، والذى وجد أنَّه ضمان استمراره، وتحقيق شغف شهوته فى الحياة.


ينتهى الفيلم بمشهد موت كما بدأ بمشهد موت، معطياً للمشاهد دعوة فلسفية للتفكير فى منطقه فى الحياة من خلال رمزياتها فى الفيلم، مقارنة مع معطياتها للإنسان فى الواقع. 


وكان استخدام تكنيك التمثيل الصامت ليكون هو مشهد النهاية، لفيلم رمزى فى الأساس، اختياراً يستحق أن يوصف بالذكاء، لأنَّه بالتأكيد فرصة أكبر لتأمل المُشاهِد، ورسالة أقوى من أى نص لمُخاطبة مشاعره وذهنه، بعد أن أُنهَك بمدة الفيلم، ليعطى المخرج أفضل وأقوى صورة، للتأثير على المتفرج، بطريقة تحمل حنكة فنية وحكمة إنسانية، تفيده فى الحياة. 

اقرأ ايضا | نبيلة عبيد تتذكر أجمل أدوارها «شادر السمك»..فيديو