عبد الهادي عباس يكتب : عاش فى «مأساة» الصوفى و «ألم» الشاعر! «الحُزن» رفيقًا لمشوار صلاح عبدالصبور

صلاح عبدالصبور
صلاح عبدالصبور

- انتقل النص «الصلاحى» من الذاتية الفردانية إلى الجماعية الحياتية، ومن بث آهات الشاعر المُغرم إلى تأوهات الشارع الذى يمر بلحظاتٍ سياسيةٍ موَّارة

- حمل شعر صلاح عبد الصبور على كتفيه مهمة التعبير عن نماذج بشرية مخضَّبة بالأسى اللافح لآلام المقهورين والفقراء من الناس فى بلاده

- «الحلاج» ليس مجرد قناع صوفى.. وإنما هو شاعر ومصلح اجتماعى يحمل أمانة الكلمة ومسئوليتها الجسيمة

- اعترف صلاح عبد الصبور بأن «مأساة الحلاج» عبرت عن قضية خلاصه الشخصى بعد معاناته من حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصره وتزاحم الأسئلة فى خاطره ازدحاما مضطربا

- المسرحية تُحاول المواءمة بين أزمة المثقف المقهور حُزنا على أوضاع وطنه الاجتماعية والمحاولة لبث بعض الأمل فى النفوس

كتب: عبد الهادي عباس


كان صلاح عبد الصبور، والذين معه، الحلقة التى عبَّرت عن تطلعات الجمهور العربى وأبانت عن شكاواهم من الواقع المنشغل بآفات السياسة المتقلبة والاستعمار البغيض، وهو ما استدعى شكلا شعريا يتفق والآمال المرجوة للجمهور، بعيدًا عن ثبات وتكرار النموذج القديم غير المتجدد الدائر فى فلك النَّظم المُعارضاتى والمُناسباتى، ولهذا فقد انتقل النص من الذاتية الفردانية إلى الجماعية الحياتية، ومن بث آهات الشاعر المُغرم إلى تأوهات الشارع الذى يمر بلحظاتٍ سياسيةٍ موَّارة زلزلت كيانه وزادت قلقه على مستقبل أمته وهوية وجودها القومي؛ وقد كان من الضرورى أن يكشف النص الشعرى الجديد عن مخبوءات هذه المشاعر اللاهبة للشعراء الشباب الذين يرون أنهم الأحق بالتعبير عن الجماهير، وأن يطرح- فى الوقت نفسه- أفكاره الجديدة المُدابرة للاتجاه القديم، خاصة مع بدايات ثورة 23 يوليو 1952م، وهى الثورة التى أحدثت حراكا كبيرا فى مياه الحياة الاجتماعية والسياسية الراكدة فى الوطن العربى كله، واستيقظت معها الأحلام العربية الرانية إلى إحياء الأفكار القومية العربية والدفاع عن المصير العربى المشترك.
 

نستطيع بكل أريحية أن نضع نص الشاعر صلاح عبد الصبور فى مكانةٍ فريدةٍ تليق به على رأس الجيل الأول لشعراء قصيدة التفعيلة المصريين والعرب على السواء؛ فقد حمل نصه الشعرى والمسرحى وشائج دالةً على مذهبه الشعرى المتفرد فى الشكل والمضمون، كما حمل نماذج بشرية مخضَّبة بالأسى اللافح لآلام المقهورين والفقراء من الناس فى بلاده، إذ كان هذا الجيل يُمثل القطاف الأول لبذور الواقعية الزاحفة على قمم الحياة الأدبية العربية، المكومة للكلاسيكية الهامدة والرومانتيكية الباردة إلى هامش النص الحياتى المكتوب والمعاش.

ولد صلاح عبد الصبور فى 3 مايو 1931م بمدينة الزقازيق، محافظة الشرقية، وفيها تلقى تعليمه الأولى حيث بدأ فى مطالعة الأعمال الإبداعية لجيل الرواد؛ ثم حصل على شهادة الثقافة والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة التى تخرج فى قسم اللغة العربية بها عام 1951م؛ وخلال هذه الفترة بدأ يتعرف على المجتمع الأدبى، ثم عمل بالتدريس فور تخرجه ولكنه عدل عنه إلى الصحافة ثم عمل بهيئة الكتاب التى تولى رئاستها.


تنوعت المصادر التى تأثر بها إبداع صلاح عبد الصبور: من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربى، مرورا بسير وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب، مثل: الحلاج وبشر الحافى، اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته فى بعض القصائد والمسرحيات؛ كما استفاد صلاح عبد الصبور من منجزات الشعر الرمزى الفرنسى والألمانى عند: بودلير وريلكه، والشعر الفلسفى الإنجليزى، عند: جون دون وييتس وكيتس وت. س. إليوت بصفة خاصة، ولم يضع عبد الصبور فرصة إقامته بالهند مستشارا ثقافيا لسفارة بلاده، بل أفاد خلالها من كنوز الفلسفات الهندية.   


 أبرز دواوينه
- الناس فى بلادى (1957م)؛ وهو أول ديوان لصلاح عبد الصبور، كما كان أول ديوان (للشعر الحديث، أو الشعر الحر، أو شعر التفعيلة) يهز الحياة الأدبية المصرية؛ كما لفت الديوان أنظار القراء لاستخدامه مفردات الحياة اليومية الشائعة، وثنائية السخرية والمأساة، وامتزاج الحس السياسى والفلسفى بموقف اجتماعى واضح.


أقول لكم (1961م).
أحلام الفارس القديم (1964م).
تأملات فى زمن جريح (1970م).
شجر الليل (1974م).
الإبحار فى الذاكرة (1977م).  
ومن أعماله المسرحية:
مأساة الحلاج (1964م).
مسافر ليل (1969).
ليلى والمجنون (1971م).
الأميرة تنتظر (1969م).
بعد أن يموت الملك (1975م).
كما أن له عددا كبيرا من الكتب النقدية والمقالات الصحفية والسيرة الذاتية المنشورة، منها: (حياتى فى الشعر)، و(أصوات العصر)، و(رحلة الضمير المصرى)، و(على مشارف الخمسين).


وفى علاقته بالسياسة: «كان صلاح فى بداية حياته متعاطفا مع الإخوان المسلمين، لكنه أخذ يقترب فى أوائل الخمسينيات من الشيوعيين متأثرا بما كان للماركسية آنذاك من جاذبية شديدة ولمعان فاتن عند كثيرين من الشباب المثقفين والأدباء والفنانين يساعد فى انتشارها بينهم تأجج الحركة الوطنية وظهور الوعى الطبقى.

وزيادة على ما ساد أروقة الجامعة المصرية من تيار عقلانى، كانت محاضرات طه حسين وأمين الخولى تزيده قوة وتدفقا، ولهذين الأستاذين يدين صلاح بجانب كبير من ثقافته. وفى هذا الإطار- علاقته بالماركسية والشيوعيين- استطاع أن يفتك نفسه شاعرا من أسْر التقاليد الشعرية القديمة ويخطو خطوات واسعة نحو التجديد».  


بين الحزن والألم
يؤكد الكثير من نقاد نص صلاح عبد الصبور أنه شاعر حزين، بينما يعترف هو أنه شاعر متألم؛ ونراه يقول: «يصفنى نقادى بأننى حزين، ويديننى بعضهم بحزنى، طالبا إبعادى عن مدينة المستقبل السعيدة، بدعوى أننى أفسد أحلامها وأمانيها، بما أبدوه من بذور الشك فى قدرتها على تجاوز واقعها المزدهر (فى رأيه) إلى مستقبل أزهر»؛ ثم يُضيف بعدها بعدة صفحات.

وبعدما يُهاجم كل مَن لا يؤمنون بالكيان المُستقل للفن، مُستعرضا عَلاقة المذاهب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالفن: «لست شاعرا حزينا ولكنى شاعر متألم.. وذلك لأن الكون لا يعجبنى، ولأنى أحمل بين جوانحي- كما قال شللي- شهوة لإصلاح العالم» ؛ والحقيقة أن الألم مظهر من مظاهر الحزن البادى فى تلافيف نصوص الشاعر كما هو بادٍ فى ظاهره.  


وربما يكون الشعور بالحزن أبرز تجليات النص الشعرى عند الشاعر صلاح عبد الصبور، بحيث يمثل ركيزة رئيسية فى نقطة التبئير بين تقاطعات الدفقات الأفقية للموسيقى الشعرية وتجاويف الدلالة الرأسية للتراكيب الأسلوبية، فلا يمكن للدارس تجاوز تلك الظاهرة التى تتنوع تشكيلاتها وتنداح طوال نص صلاح عبد الصبور بحيث تتغول لتصبح موضوعات ثابتة وواضحة عنده، وهو: «حزن إنسانى لا فردى، يتصل بتصور صلاح لوضع الإنسان فى هذا الكون».. وتندرج تلك الظاهرة في: 
الحزن والاغتراب
صلاح عبد الصبور دائم الشعور بالاغتراب المكانى باعتباره نوعا من الحزن العام الذى يغلف حياته كلها، وكأنه حاطب ليل يسعى لإدراك حقيقة الأشياء ودقائق الأمور فلا يجد غير العتمة وأضابير الظلام المخيفة فينكمش ثانية على نفسه يجتر معاناته فى أسى لاعج لا يتورك عن إبدائه كل حين فى دفقات شعرية أقرب إلى نفثات المصدور: «وتمتزج هذه المعاناة بالقلق والتوتر والحزن والخوف والسأم والرغبة فى إدراك المجهول الذى يُحقق الانعتاق من كل أحاسيس الغربة والضياع». 


فى ديوانه الأول: (الناس فى بلادى) ظهر قلق الشاعر على وطنه الذى لم يعد يعرفه، وكأن عين الشاعر أصبحت كاميرا تصويرية لاقطة فاضحة لأشكال الضياع، وهو ما يُسبب حزنا كبيرا للشاعر:
الناس فى بلادى جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء فى ذؤابة المطر
وضحكهم يئز كاللهيب فى الحطب
خطاهمو تريد أن تسوخ فى التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم بشر.


هذه لوحة شعرية آيسة من خير الإنسان، لكنها أيضًا تعتذر له: (لكنهم بشر)، وكأن هذه الخطايا التى ذكرها الشاعر منطقية تماما ومتوافقة مع جِبلة الإنسان.. وكل هذا يكشف عن دخيلة الشاعر الملتاثة من أفعال البشر، كما يكشف هذا الرسوخ التركيبى (الجملة الاسمية المتكررة)، ثم الانتقال إلى الأفعال المضارعة الدالة على الحال والاستقبال، أن رادءة الثابت أصبحت مستمرة ومتحركة بصورة آلية؛ ولا يخفى ما تعنيه (ياء) الملكية فى (بلادى) من أن القضية مرتبطة بالوطن، والحزن قومى وجودى وليس فرديا شخصيا.. ثم ينتقل إلى صورة أخرى للناس فى بلاده:
وطيبون حين يملكون قبضتى نقود
ومؤمنون بالقدر
وعند باب قريتى يجلس عمى مصطفى
وهو يحب (المصطفى)
وهو يقضى ساعة بين الأصيل والمساء
وحوله الرجال واجمون
يحكى لهم حكاية.. تجربة الحياة
حكاية تثير فى النفوس لوعة العدم


هذه صورة أخرى مقابلة للصورة السابقة، وهى تكشف نوعا آخر من الناس يُحب الحكايات (الدينية) القديمة التى تُخدر العقول عن الواقع الفعلى إلى واقع آخر من الخيال يُصيب النفوس بالوجوم، ويبدو أن هذا هو ما كل ما يستطيع فعله هؤلاء البائسون القابعون خلف حكايات الماضى الفائت، الغافلون عن الواقع المُتردى للوطن.

ويظهر من خلال النسق الدلالى (واجمون) كيف أن هؤلاء الناس مجرد متلقين صامتين، غير فاعلين، وهذا السكون مُناهض للحركة الخارجية، وهذه الحياة العدمية لا تقل فسادا عن الصورة الأولى؛ وهذا ما تبرزه المفارقة: بين المدينة فى الصورة الأولى: (الحركة الفاسدة).

والريف فى الصورة الثانية: (سكون فاسد)/ والاعتذار الكاذب فى (لكنهم بشر) فى الصورة الأولى، و(لوعة العدم) فى الصورة الثانية.. وهذه المزاوجة بين الصورتين المتقابلتين فى الظاهر تكشف عن حالة من التوتر والقلق الوجودى على مستقبل الناس فى بلاد الشاعر.


وفى ديوانه التالى (أقول لكم) تتدرج اللغة علوا، وتبرز رويدا نغمة الرفض الثورى التى تكشف غطاءها عن حالة فكرية جديدة للشاعر أضحت تئز دافعة إلى الانعتاق من أسْر مجتمع جاهلى، نازف، يضيع فيه الحق دونما سبب:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك!
فتحسس رأسك!
ويبدو جليا هنا تأثر الشاعر بإليوت فى قصيدته (الأرض الخراب) التى تنعى طغيان البشر وتسلطهم؛ كما أن هذا الشعور بالاغتراب الحزين فى النص الشعرى لصلاح عبد الصبور لم يكن موقوفا عليه وحده بقدر ما كان ظاهرة واضحة وسمة بارزة فى الشعر الحديث نضحت بها دواوين شعرائه.

وما هو إلا انعكاس للأوضاع الاجتماعية والسياسية القلقة للأمة العربية كلها فى ذلك الوقت؛ فالاغتراب- بحق- كما أوضحه أحد علماء الاجتماع: «ظاهرة اجتماعية تحوى جوانب ثلاثة، تتمثل فى الجوانب الثقافية، والجوانب الاجتماعية، والجوانب الشخصية»؛ وقد توافرت هذه الشروط الثلاثة فى نص صلاح عبد الصبور.


الليل عنوانا للحزن
فى ديوان (الناس فى بلادي) كان حزن الشاعر فطريا، غير ذهنى، يتأثر بمشاهدات الواقع والتاريخ، وهو يعترف صراحة بحزنه:
يا صاحبى إنى حزين
طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهى الصباح
وأتى المساء
فى غرفتى دلف المساء
والحزن يولد فى المساء لأنه حزن ضرير
حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم
حزن صموت
والصمت لا يعنى الرضاء بأن أمنية تموت
وبأن أياما تفوت
وبأن مرفقنا وهن
وبأن ريحا من عفن
مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت.


الظواهر التركيبية ناضحة بكل أدوات الحزن، بدءا من جملة الخطاب الافتتاحى (يا صاحبى)، والجملة الاسمية الدالة على الثبات والرسوخ التى تليها: (إنى حزين)؛ وهو اعتراف باكر جدا له إحالاته التراثية المرتبطة بفواتح الشعر الجاهلى: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل).

وهذه التراكيب التى تبرز دلالاتها متوافقة مع الإيقاع الكامل (متفاعلن) متبادلين أدوار التتابع وصدع التتابع، بما يضفى طاقة إيحائية إلى موسيقى النص ويبرز المفارقات: (المساء- الصباح/ ابتسمت- الحزن)، وكذلك إيقاعات التكرار في: (الصباح- المساء- الحزن).

وكلها دلالات تضفى مزيدا من التوتر والقلق المتأرجحين بين دلالات الضياء والعتمة/ النور والظلام، حيث ينتصر (الحزن) على نفس الشاعر ويحوله إلى نتيجة البداية (إنى حزين)، وهى النتيجة التى تسبق الأسباب، وهو نوع من تشويق القارئ.


وبهذا يصبح الليل من أبرز أشكال الحزن فى نص صلاح عبد الصبور بكل ما يثيره من أشجان وظنون وذكريات ومخاوف حبيسة فى أعماق الذات الشاعرة- كما يقول د. محمد فتوح- وهو: «إما مصدر مباشر لهذا الحزن كما يتضح فى قصيدته: (رحلة فى الليل):
الليل يا صديقتى ينفضنى بلا ضمير
ويطلق الظنون فى فراشى الصغير
ويثقل الفؤاد بالسواد
ورحلة الضياع فى بحر الحداد
وإما مسرح لحدث يبتعث هذا الحزن ويستثيره».      
(مأساة الحلاج).. نموذجا للحزن المقهور.


يمثل مسرح صلاح عبد الصبور محطة مهمة فى مسيرة تطور المسرح الشعرى العربى، إذ تعد مسرحياته الخمس حلقة وصل بين مسرح شوقى وعزيز أباظة من قبله، ومسرح محمد إبراهيم أبى سنة وفاروق جويدة من بعده، صحيح أن عبد الرحمن الشرقاوى كان رافدا آخر للمسرح الشعرى فى تلك الفترة، لكن نصوصه الشعرية لا تلحق بانطلاقة عبد الصبور، إذ كانت أكثر مُباشرة، تماما كما يقصر شعره عن شعره.

والفارق أن صلاح كان رائدا لباب الشعر الحر مع السياب ونازك، كما كان أكثر عُمقًا، إضافة إلى ملكات فردية أخرى لم تكن متواجدة فى غيره، وإن كنا لا نغفل التأثير العام للأحداث العالمية والمحلية فى نفسيات شعراء ذلك الزمن المتقلب برياح التغيير الاجتماعى والسياسى والمبلبل للأفئدة المرهفة لشعراء الصحوة الوطنية والقومية.

ولكل هذه العوامل صداها البارز فى شعر صلاح عبد الصبور ومسرحه، وتكاد ألا توجد مسرحية من مسرحياته لا تتحدث عن هذا القلق المجتمعى، حتى مسرحية (ليلى والمجنون) والتى تتباين بشدة فى التناول والأرضية المسرحية مع (مجنون ليلى) لشوقي.


ونستطيع أن نقول إن مسرح صلاح عبد الصبور تجمعه كلمة المأساة الحزينة والألم المُمض، فأبطال رواياته المسرحية مهزومون مقهورون، ولكنهم- فى الوقت نفسه- يواجهون عنت (الجلادين/ الزمن) فى صبر وقوة تحمُّل وكأنه نوعٌ من التضحية أو التطهير الواجب لاستقامة الحياة؛ ولكنه يعنى- بطريقةٍ أخرى- انتصار الشر على الخير والواقع على المبدأ. 


أما عن التدرج فى التفاعل مع التقنيات المسرحية عند عبد الصبور فإن هناك ظاهرة لافتة تبدو جلية فى البدايات وهى قلة الشخصيات، وقد ظهرت خاصة في: (مسافر ليل- 1969م)، و: (الأميرة تنتظر- 1969م)، لكن مكانة المونولوج الطويل تظل واضحة فى مسرحه كله؛ وعن هذا الملحظ يؤكد د. مدحت الجيار أن: «ذلك نتيجة للتأثير القصيدى الذى لم يستطع أن يتخلص منه، لذلك نراه متخذا حيلا تقنية تبرر هذه الأحاديث الطويلة، كما فى حديث الحلاج عن نفسه».  

  
لماذا قناع الحلاج؟
تعددت تعريفات القناع بين النقاد، إذ كان المتنفس للضغط الذى أذكته العوامل السياسية والاجتماعية فى الوطن العربى، الأمر الذى وضع المواطن العربى، والشعراء خاصة، فى مواجهة مجموعة ضخمة ومتراكمة من التناقضات الحياتية، مما دفعه إلى الخروج عن دائرة المألوف والتمرد على قيم الثبات والجمود التى ترزح تحتها أمته القومية، فكانت القصيدة الشعرية.

والمسرحية الشعرية، المُلتحد الذى يأوى إليه الشاعر العربى الذى استخدم التقنع باعتباره إحدى أدوات الترميز الفنى للتعبير غير المباشر عن رأيه فى الأوضاع السياسية والثقافية للأمة التى يعيش فيها؛ ومن ثم كان يأتى التقنع بشخصية من شخصيات التاريخ حيث يتلبسها وينطق بصوتها وينطلق منها نحو ذاته، معبرا بالتقنع بها عن مكنونات نفسه، مبيحًا- عن طريق التقنع بتلك الشخصية- عن أسراره إلى المتلقي؛ حتى صارت تقنية القناع مظهرا من مظاهر الحداثة فى الشعر العربى الحديث.


وإذا كان تعريف القناع لغة هو: «ما تغطى به المرأة رأسها، أو ما تقنع به المرأة رأسها»؛ فإن الأدباء يعرفونه بأنه: «الاسم الذى يتحدث من خلاله الشاعر نفسه متجردا عن ذاتيته، أى أن الشاعر يعمد إلى خلق وجود مستقل عن ذاته لينأى بشعره عن الغنائية والرومانسية التى تردَّى أكثر الشعر العربى فيها».

ويقول عنه أحد كبار النقاد إنه: «يمثل شخصية تاريخية- فى الغالب- يختبئ الشاعر وراءها ليعبر عن موقف يريده، أو ليحاكم نقائص العصر الحديث»؛ ويرى ناقد آخر أن القناع: «رمز يتخذه الشاعر العربى المعاصر ليضفى على صوته نبرة موضوعية شبه محايدة تنأى به عن التدفق المباشر للذات». والقصيدة التى تقوم على تقنية القناع: «لا يمكن أن تخلو من الحاضر ومعضلاته، كما لا تخلو من الماضى ومواقفه الإنسانية الخالدة».   


ويعتقد بعض النقاد أن مثل هذه الأدوات التى يستخدمها الشاعر تزيد من غموض شعره، وكأن الغموض أصبح مطلبا بذاته عند الشاعر المعاصر يتوسل إليه بكل الأدوات المتاحة؛ بينما البعض الآخر يرى أن: «طبيعة الرؤية الحديثة هى المصدر الحقيقى لما يشكوه البعض من غموض الشعر الحديث، فليس التلاعب بالأوزان أو اللغة أو الصور هو السر الكامن وراء هذا الغموض، وإنما هى الرؤية المأساوية القاتمة فى جوهرها العميق، هى التى تصوغ هذا الشعر على نحو شديد الغموض والتعقيد».


ويفرق د. عز الدين إسماعيل بين الغموض والإبهام، ويؤكد أن الغموض موجود فى شعرنا القديم، إذ يقول: «فالغموض- إذن- ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد، وإنما هو خاصية مشتركة بين القديم والجديد على السواء، وكل ما فى الأمر هو أن الغموض قد صار ظاهرة واضحة فى الشعر الجديد تدعونا إلى التأمل؛ فلا يمكن أن تكون المسألة- فى هذا الشعر- عدولا متعمدا عن الوضوح إلى الغموض، ولا يمكن أن تكون- كذلك- مجرد رغبة من الشعراء فى إرضاء ذواتهم عن طريق إغاظة متلقى الشعر بوضعه فى إطار من الطلاسم التى تعيى على الفهم».


وهنا لا بد أن يتبادر سؤال ملحاح: لماذا استخدم الشاعر صلاح عبد الصبور قناع الحلاج تحديدًا دون غيره من الأقنعة التى قد تبدو أكثر مُلاءمة للشاعر؟ وما عَلاقة التجربة الشعرية لصلاح عبد الصبور بالتجربة الروحية للحلاج أو للصوفية عمومًا؟
ولنجيب عن هذين السؤالين علينا أن نُدرك أعماق الارتباط الوجدانى للشاعر بالأفكار الصوفية باعتبارها أداةً للترقى الروحى ووسيلة للعلو الذهنى، خاصة أن هذا الارتباط ضاربٌ بجذوره فى شخصية الشاعر وبواكير صِباه حين كانت تُنازعه نفسه إلى خوض الرحلة الوجدانية، فضلا عن عميق إيمانه بأن التجربتين الصوفية والشعرية تنزعان عن قوسٍ واحدةٍ وتهدفان إلى غايةٍ واحدةٍ وهى إصلاح الكون المُتدثر بخطاياه، المُوغل فى آثامه.

وإعادته إلى صفائه الأوليِّ: «والواقع أن الصوفية هم أول مَن أشار إلى أن التجربة الروحية شبيهة بالرحلة، وهم الذين جعلوا من سعيهم وراء الحقيقة سَفرًا مُضنيًا مليئًا بالمفاجآت والمخاوف فى طريقٍ موحشٍ طويلٍ، قد ينتهى بسالكه إلى النهاية السعيدة، إن وفق الله وأراد».


والحلاج لم يكن قناعا عند صلاح عبد الصبور وحده، وإنما كان مُلهمًا لكثير من شعراء العصر الحديث، حيث كتب عنه الشاعر على أحمد سعيد (أدونيس) قصيدته (مرثية للحلاج) ضمن ديوانه (أغانى مهيار الدمشقى)، وكتب عنه الشاعر جميل صدقى الزهاوى قصيدته الطويلة (ثورة فى الجحيم)، وكتب الشاعر عبد الوهاب البياتى عنه قصيدته (عذاب الحلاج) ضمن ديوانه (سِفر الفقر والثورة).

وهكذا نرى أن قناع الحلاج أو اتخاذه تكأة لبث الأفكار الثورية الاجتماعية للدفاع عن الفقراء التى ارتبطت بالبعث السياسى فى تلك الفترة كان مناط توجه عام عند شعراء التفعيلة باعتبار هذا التوجه الشعرى الجديد كان ثورة أيضًا على تقاليد القصيدة العربية القديمة.


ورغم هذا فإن مسرحية صلاح عبد الصبور تبقى فريدة فى إبراز الجانب الاجتماعى لشخصية الحلاج المناصرة للفقراء والباحثة عن تغيير حقيقى فى الأخلاق الاجتماعية قبل حتى التغيير السياسى، فهو يربط الثورة الحقيقية بالناس وليس بعامل خارجى.

ولهذا نراه لا يُركز على خلافاته وأفكاره السياسية المُختلف عليها أصلا بين المؤرخين، وهل كان داعية فاطميا أو لا، وهو ما أسهم فى تركيز الهدف المسرحى على غرض مُحددٍ للشاعر، مما أدى إلى تكامل العمل المسرحى وتضامنه.


والحلاج/ البطل المسرحى، ليس مجرد قناع صوفى عند صلاح عبد الصبور، وإنما هو شاعر ومصلح اجتماعى يحمل أمانة الكلمة ومسئوليتها الجسيمة؛ وإذا تمثلت سقطته الكبرى فى الكشف عن علاقته بمحبوبه والزهو بذلك، الأمر الذى أباح لهم دمه):
رعاك الله يا ولدى، لماذا تستثير شجاي
وتجعلنى أبوح بسر ما أعطى
ألا تعلم أن العشق سر بين محبوبين
هو النجوى التى إن أعلنت سقطت مروءتنا
لأنا حينما جاد لنا المحبوب بالوصل تنعمنا
دخلنا الستر، أطعمنا، أشربنا
وراقصنا وأرقصنا، وغنينا وغنينا
وكوشفنا وكاشفنا، وعوهدنا وعاهدنا
فلما أقبل الصبح تفرقنا،
تعاهدنا بأن أكتم حتى أنطوى فى القبر 


 فإن العلاقة بين السيف والكلمة لا تزال آثاره مميتة عند الشاعر الحديث؛ ولا بأس بعد ذلك إن اعتقدنا أن الحلاج إنما كان ذات الشاعر نفسه، فقد اعترف صلاح عبد الصبور بأن المسرحية لا تتحدث عن الحلاج إلا بناء وشكلا: «أما القضية التى تطرحها فقد كانت قضية خلاصى الشخصي؛ فقد كنت أعانى حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا، وكانت الأسئلة تزدحم فى خاطرى ازدحاما مضطربا، وكنتُ أسأل نفسى السؤال الذى سأله الحلاج لنفسه: ماذا أفعل؟».  


عن المسرح الشعرى
ينتصر عدد كبير من الشعراء للنص الشعرى المسرحى ويرونه النموذج الأوفى من النثر، ومن هؤلاء الشاعر صلاح عبد الصبور؛ وليس المقصود بالشعر مجرد النظم وإلا فهناك مسرحيات نثرية قد تغدو أكثر شعرية منه، وإنما المقصود الشعر الذى تظهر فيه ملامح الشاعر ودفقات شعوره: «لأن الشاعر فى إطار المسرحية يجد نفسه أكثر التزاما بجوهر الملامح التراثية للشخصية التى يستخدمها حيث لا يتناولها مستقلة.

 

وإنما يتناولها فى إطار علاقاتها المتشابكة بسواها من الشخصيات وهى فى الغالب علاقات تاريخية معروفة يصعب على الشاعر كثيرا أن يحور فى جوهرها، وتحتاج إلى براعة مضاعفة حتى يتمكن الشاعر من أن يضفى عليها الملامح المعاصرة التى يريد تحميلها لها».


(مأساة الحلاج) أول مسرحية شعرية لصلاح عبد الصبور، رغم اعترافه بمحاولات سابقة تأثر فيها بشكسبير لكنه لم يقتنع بها، خاصة مسرحيته عن الثورة الجزائرية، لتبقى (مأساة الحلاج) هى المحاولة الحقيقية الأولى للشاعر، حيث تناول فيها صلاح عبد الصبور شخصية المنصور بن حسين الحلاج المتصوف الذى عاش فى منتصف القرن الثالث للهجرة.. وتتكون المسرحية من فصلين سماهما عبد الصبور جزئين. الجزء الأول: (الكلمة) والجزء الثاني: (الموت)؛ وهى ذات أبعاد سياسية كأغلب أعمال الشاعر، إذ تدرس العلاقة بين السلطة المتحالفة مع الدين والمعارضة.

وكما تطرقت لمحنة العقل؛ وأدرجها النقاد فى مدرسة المسرح الذهنى، ورغم ذلك لم يسقط صلاح عبد الصبور الجانب الشعرى فجاءت المسرحية مزدانة بالصور الشعرية ثرية بالموسيقى. أهم ما ميز هذه المسرحية التى نشرت عام 1966م هى نبوءتها بهزيمة 67 إذ مثلت صوتا خارجا عن السرب فى مرحلة كان فيها الأدب العربى يعيش أحلامه القومية مع المد الناصرى وكانت الرموز السائدة هى تموز وأساطير البعث الفرعونية والفينيقية والبابلية، فكان عبد الصبور الوجه الآخر من هذه الموجة الثقافية من خلال شخصية الحلاج.


هيكل المسرحية
الشخصيات: (الحلاج- الشبلى- إبراهيم)/ (أبو عمر- ابن سليمان- ابن سريج)/ ثم عدة نماذج بشرية: (الفلاح- التاجر- الواعظ- الصوفي- الحارس- الحاجب- كبير الشرطة- المبعوث- السجين الأول- السجين الثاني- الأعرج- الأحدب- الأبرص)، ثم مجموعات بشرية: (مجموعة من الفقراء- مجموعة أخرى من الصوفية).


 المناظر: تدور المناظر كلها فى مدينة بغداد، وتتغير من الساحة الرئيسية فى المدينة، إلى بيت الحلاج، إلى غرفة السجن، ثم إلى قاعة المحكمة المنصوبة فى ساحة بغداد. 


 تنقسم المسرحية إلى قسمين ذوى دلالة واضحة كاشفة عن أزمة الشاعر نفسه:
القسم الأول: والذى سماه الشاعر (الجزء الأول: الكلمة)، وهو يضم ثلاثة مناظر.
القسم الثاني: وسماه الشاعر (الجزء الثانى: الموت)، ويضم منظرين اثنين، لتصبح المسرحية جزئين وخمسة مناظر؛ ولا تخفى دلالة هذا التقسيم الذى مثل إشكالية كبيرة للشاعر فى حياته الفكرية، إذ كانت ثنائية: الكلمة/ السيف، محل ابتلاء كبير لشعراء ومفكرى تلك الفترة التاريخية من عمر الوطن مع التحولات الكبيرة التى أصابت مصر بعد ثورة 52 والصراعات فيما بين ضباطها والاتجاه نحو طريق واحد فى تناول الحياة السياسية.

وهو ما خيب آمال المفكرين والشعراء وظهر ذلك واضحًا فى الأعمال التى تنبأت بهزيمة 67.. ولهذا يمكننا القول بكل أريحية إن (مأساة الحلاج) هى مأساة جيل كامل كانت هذه المسرحية لسانه المبين عن واقعه الضاغط؛ كما يمكننا القول إنه رغم انتصار السيف.

وفى نهاية المأساة، فإن (الكلمة) كانت زاعقة ومرعبة ومقلقة للحكام، وهو ما يراه صلاح عبد الصبور إحدى المهام الرئيسية للداعية أو الصوفى أو الفنان؛ وهو ما نقلناه من قبل عن كتابه (حياتى فى الشعر) من أنه يرى أن مهمته، أو مهمة الفن عموما، هى (إصلاح العالم)، وهو ما نراه ناضحا فى كل دواوين صلاح عبد الصبور.


التنوع الموسيقى
ومن ناحية الموسيقى فقد استخدم الشاعر أربعة أنواع من التفاعيل:
 تفعيلة الرجز: (مستفعلن)- تفعيلة الوافر: (مفاعلتن)- تفعيلة المتقارب: (فعولن)- تفعيلة المتدارك: (فعلن)؛ بكل ما يدخل على هذه التفاعيل من زحافات وعلل حتى الشاذة.
وهذا التنوع الموسيقى أتاح للشاعر مندوحة الكشف عن نفسية شخصيات المسرحية بصورة كبيرة دونما نبوّ فى الموسيقى أو شذوذ فى ترتيب الأحداث؛ إضافة إلى أن شعر التفعيلة ذو طبيعة (حرة) فى استخدام التفاعيل؛ ولهذا لا نجد بعض القلق العروضى الذى قد نجده فى مسرحيات شوقى أو عزيز أباظة حين يتم التناوب بين الأبحر فى الحوار الواحد، وهو ما يُحدث صدعا فى متابعة المتلقى للحوار.


حزن «وجودى»!
تتلفع المسرحية بالحزن الوجودى على واقعٍ مجتمعى مزرٍ باحثٍ عن بطل أسطورى قادرٍ على التغيير، وتبدأ من النهاية المؤسفة، حيث يظهر الحلاج مصلوبا، ولكن هذه النهاية لم تكن كافية لإغلاق رسالته أو تكميم كلمته، فتبدأ التساؤلات والحكايات عن أسباب قتله وقصته مع قاتليه، ثم يتلوه نوع من الاعترافات المتتابعة التى تتطهر جماعيا حين تعترف بالإسهام بقتله، وهو ما يزرع الأمل فى النفوس ببقاء كلمات الحلاج التى قُتل من أجلها بين الأضلاع وفى الأفواه، وهو ما يشى بالأمل المقبل بإثمارها فى ثورة لهؤلاء الفقراء تُعيد العدل إلى نصابه.


فى المنظر الأول من الجزء الأول يفتتح الشاعر المشهد بمأساةٍ بائسةٍ لشيخ عجوز مصلوب على جذع شجرة حزينة، وهو يرمز إلى إهانة بالغة للمواطن حتى فى الموت، ثم تظهر أخلاق المجتمع الشوهاء حين تُحاول النماذج البشرية التى تؤلف أغلبية هذا المجتمع: (الفلاح- التاجر- الواعظ) من استغلال هذا العجوز المصلوب:
الفلاح: هل تعرف لم قتلوه؟
أو مَن قتله؟
التاجر: هل أعرف علم الغيب؟
اسأل مولانا الواعظ!
الفلاح: هل تعرف يا مولانا؟
الواعظ: لا.. فلنسأل أحد المارة!
التاجر: نعم، فقد يكون أمره حكاية طريفة أقصها
لزوجتى حين أعود فى المساء
فهى تحب أطباق الحديث فى موائد السماء.
الفلاح: أما أنا، فإننى فضولى بطبعى..
كأننى قعيد بلهاء..
وكلما نويت أن أكف عن فضولى 
يغلبنى طبعى على تطبعى.
الواعظ: وحبذا لو كان فى حكايته
موعظة وعبرة..
فإن ذهنى مجدب عن ابتكار قصة ملائمة
تشد لهفة الجمهور.


هذا الحوار الثرى، الكاشف، يحمل رموزا ودلالات ناقدة لهذا المجتمع المتشرذم، الذى تتغلب فيه المصلحة الشخصية على كل الأخلاق والقيم الإنسانية، وتصبح الاستفادة من مأساة شيخ عجوز يتدلى من جذع شجرة بائسة شيئا طبيعيا لا يأباه الذوق ولا يمجُّه الطبع أو يرفضه الشرع، إذ يرجو الواعظ أن تكون قصة هذا القتيل مادة لعمله الوعظى فى يوم الجمعة لاجتذاب الجمهور.

وهو نفاقٌ يكشف عن نفس سقيمة تهتم بالمظهر الخارجى الشكلى دون البحث عن عمق روح الرسالة الدعوية: (ذهنى مجدب.. تشد لهفة الجمهور)، وهو انتقاد لتلك النماذج البشرية التى تتخلى عن واجبها الإصلاحى مُخادعة لنفسها وللناس؛ وهذه الروح السائمة فى متاهات النفاق الشكلى هى مهمة المؤلف الأولى فى (إصلاح العالم)، وبهذا يصبح الحلاج معادلا للمؤلف نفسه؛ وبهذا نستطيع أن نقول مع فؤاد دوارة إننا: «أمام استهلال بوليسى.

ويعتمد على الإثارة والتشويق، فأمامنا قتيل، وأكثر من قاتل ينسب الجريمة لنفسه، وهذا الاستهلال تقليدى أفادت منه بعض المآسى العظيمة، وينتهى المنظر الأول دون أن نعرف القاتل الحقيقى، ومن ثم يزداد حرصنا على متابعة بقية الأحداث». 


وبعد هذا الفضول من هذه النماذج تنحل العقدة الافتتاحية للمشهد الأول عند إجابة المجموعة التى تقابلهم بأن هذا المصلوب (أحد الفقراء)، وبهذا تظهر دلائل الألم الحزين منذ بدايات النص المسرحي؛ ولهذا نستطيع القول إن صلاح عبد الصبور شاعر: «يحمل فى ذاته قيما حقيقية أفتقد وجودها، أحس بمسئوليته فى حمل عبء البحث عن وسيلة تضمنها فكر الإنسان وسلوكه، والفن هو الطريق، والشعر خيمة نور لأصحاب القلوب المفكرة».


وإذا كانت العقدة الرئيسية تتمثل فى الكشف والإباحة بالسر فإن ذلك يستوجب التطهير الذاتى والاعتراف بالذنب، ومن ثم الرضا بالعقاب؛ ففى الوقت الذى يتلمس فيه (الشرطي) الذرائع من كلمات (الحلاج) المُبهمة لسجنه، نجد أن (الصوفي) يدافع عنه؛ ولكن الحلاج يعود ليعترفَ بالذنب الذى لا يفهم منه الشرطى سوى مرادفه العقابى، وكأنه موجه بذلك:
الحلاج: لا، يا أصحابي
لا تلقوا بالا لي
أستودعكم كلماتى
عودوا.. عودوا..
ودعونى حتى تنفذ فى بدنى 
لتؤدبني
ألفاظ عتاب المحبوب النارية
الأبرص: «لأحد الصوفية»
ماذا قال؟
الصوفى: ما زال بحال الوجد..
يتحدث من قلبه.
الشرطى: يا قوم
الشيخ أقر بجرمه
فدعوه يمضى ليؤدب
يا شيخ..
هل أقررت بجرمك؟
الحلاج: هذا حق يا ولدى..
فلقد أجرمت بحقه
إذ أفشيت السر.
الشرطي: أسمعتم!
الحلاج: عاقبنى يا محبوبى، إنى بحت وخنت العهد،
لا تغفر لى، فلقد ضاق القلب عن الوجد
لكن، عاقبنى كعقاب الخصم خصيمه،
لا كعقاب المحبوب حبيبه.


ورغم أن هذا الاعتراف نوع من التطهير الذاتى كضرورة قدرية، فإن هناك عوامل أخرى ساعدت فى هذه النهاية الحزينة، كان أحد أطرافها (المجموعة) الذى قبضوا الثمن ليقولوا أى شيء دونما فهم، لتكشف المسرحية أن الجماهير ظالمة مظلومة/ قاتلة مقتولة فى الوقت نفسه، وأنها كثيرا ما تُسبب بجهلها وجوعها الضرر لمن يبذل دمه من أجلها، وتدافع عن جلادها وحاكمها رغم اعترافها بسوئه وفساده وظلمه.. ثم تجلس على «كرسى الاعتراف» لتنخلع من جريمتها بالاعتراف بها:
المجموعة: صفونا.. صفا.. صفا
الأجهر صوتا والأطول
وضعوه فى الصف الأول
ذو الصوت الخافت والمتوانى
وضعوه فى الصف الثانى
أعطوا كلا منا دينارا من ذهب قانى
براقا لم تلمسه كف من قبل
قالوا: صيحوا.. زنديق كافر
صحنا: زنديق.. كافر
قالوا: صيحوا فليقتل إنا نحمل دمه فى رقبتنا
فليقتل، إنا نحمل دمه فى رقبتنا
قالوا: امضوا فمضينا.            

      
وفى حين يبرز الموقف المتآمر لعضوى المحاكمة: أبو عمر وابن سليمان، اللذين صورهما المؤلف تصويرا هازلا ولئيما وبائعا لهيبة القضاء وعدله استجابة للحاكم، حتى إنهما قد قررا الحكم قبل المحاكمة ودفاع المتهم؛ يبرز دور رائع للقاضى الثالث (ابن سريج) الذى يتخذ موقفا فقهيا رائعا حين يرفض التفتيش فى عقيدة المتهم:
أبو عمر: صمتا، هذا كفر بين!
ابن سريج: بل هذا حال من أحوال الصوفية
لا يدخل فى تقدير محاكمنا
أمر بين العبد وربه
لا يقضى فيه إلا الله
لنسائله عن تهمة تحريض العامة
فلهذا أوقفه السلطان هنا.


ثم يستقيل من المحكمة حين يجد خلطا وتلفيقا ومحاكمة شخص عن معنى إيمانه بالتفتيش فى نواياه وقلبه وضميره عن عقيدته؛ وبهذا يصبح ابن سريج رمزا لبقاء الخير والعدل فى القضاء رغم ضعفه وقلة حيلته فى بعض العصور؛ فالمسرحية تُحاول المواءمة بين أزمة المثقف المقهور حُزنا على أوضاع وطنه الاجتماعية والمحاولة لبث بعض الأمل فى النفوس؛ ولهذا فإننا نستطيع القول إن المسرحية لا تهدف إلى رواية قصة حياة تقليدية للحلاج،

وإنما: «تُقدم جوهر هذه الحياة، وختامها الذى يعكس صورة المثقف فى أى عصر يتسم بالقسوة والقهر والاستغلال والعنف من جانب السلطة، والفقر والإحساس بالمعاناة بين الناس، ويُحاول المثقف أن يُقاوم كل هذا بكلماته لكنه لا يُفلح، ولا يملك إلا أن يُسلم رأسه لسيف الجلاد ليروى بدمائه أفكاره عسى أن تؤثر- هذه الأفكار وتلك الكلمات- فى أناس يعرفونها ويعرفون قصته بعد ذلك».


وإذا كنا قد أشرنا من قبل إلى تأثر صلاح عبد الصبور بالشاعر الإنجليزى ت. س. إليوت، فإن د. عبد الحميد شيحة يشير إلى أن هذا التأثر امتد إلى تشابهٍ واضحٍ بين (مأساة الحلاج) ومسرحية إليوت (جريمة قتل فى الكاتدرائية).

ويرى أن: «الحدث فى كل من المسرحيتيْن يتركز على مسرحة حالتيْن مُتناقضتيْن من حالات الوعى لدى بطليْ المسرحيتيْن بدلا من التركيز على سلوكهما وأفعالهما، أى أن الحدث يقوم على تصوير صراع ذهنى حاد أكثر من كونه صراعا ظاهريا يعتمد على الفعل ورد الفعل».


 وهذا الصراع الذهنى نابعٌ من النظرة الصوفية العميقة للبطل الذى يرى أن التضحية ضرورة قدرية لا وزَر منها ولا مُلتحد عنها، وهو ما أراه فعلا سلبيا إلى حد كبير لا يخدم النظرة الشاملة للمؤلف، فكلمة الحق تحتاج دائمًا إلى قوة تحميها وإلا تُصبح أفكارًا طوباوية لا تؤثر إلا فى خواص المثقفين، ومن ثم لا تصنع موجة ثورية قادرة على التأثير الآنى، وهو ما حدث مع الحلاج نفسه الذى كان ذا نفسٍ موارةٍ قلقةٍ تخضع كثيرًا للمنولوج الداخلي/ الإفهام الذاتى، الذى تم اتخاذه ذريعة لقتله رغم أنه مجرد سبب ظاهرى:
يا رب
لو لم أُسجن، أُضرب، وأُعذب
كيف يقينى عندئذ أنك ترعى عهد الحب
لكنى الآن تيقنتُ يقين القلب
أنك تنظر لى، ترعاني..
ما زالت تستعظمنى عينك
ما زلتَ ترانى أخلص عشاقك
عين الله عليّ
وهداياه موصولة
وطرائف نعمته مبذولة
فهنيئًا لى
فهنيئًا لى.


 وهذه اللغة الحلاجية- وإن لم تكن مفهومة بصورة كبيرة للعامة- فإنها كانت مؤثرة فى وجدانهم بصورة كبيرة، ولكنه تأثير السكران فى السكران، أى التأثير الهادئ الباحث عن الأمان العقلى والإيمان القلبى دونما (فعل) حقيقى نحو التغيير.


 وتبقى بعد ذلك الإشارة إلى أن لغة المسرحية جاءت رائقة متوازنة جيدة الصياغة، تمتاز بكثافة الشعر وعمق دلالاته، وإن اقتربت من النثرية فى بعض الأحايين، لكنها تبقى ثرية موحية بعدما أضفت عليها طبيعة الموضوع الصوفى عمقًا داخليا.