«أدب الصحراء».. يواجه توحـُّش المدينة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

كتب: حسن حافظ

«الصحراء جنة الأنبياء والشعراء.. إليها يفر كل من يترك وراءه الدنيا لكى يجد نفسه، وفيها تورق الأنفس الذابلة وتزهر الروح»، هكذا كتب الروائى الكبير بهاء طاهر عن الصحراء فى روايته «واحة الغروب»، ملخصًا حالة عشق أدبى للصحراء وعالمها عند قطاع عريض من كبار المبدعين فى أنحاء العالم.
عوالم الصحراء المدهشة والصمت الذى لف المكان والوحدة التى تعم كل شيء جعلت للصحراء سحرها الذى لا يقاوم وأداة لإعادة محاكمة المدينة فضلا عن محاولة البحث عن معنى للوجود الإنساني، فرغم ضجيج المدن ونمط الحياة السريع الذى يكتنف العالم حاليا، لا يزال أدب الصحراء حاضرا بقوة كأدة من أدوات الهروب من توحش المدينة وبحثا عن التوازن المفقود فى حياة البشر.

أبدع العرب فى خلق عوالم الصحراء الأدبية، فالشعر العربى قبل الإسلام يدور كله فى بيئة صحراوية، التى تساعد على تركيز المشاعر والتصريح بها فى واقعية مبنية على الوضوح والصفاء، لذا كُتب لهذه الأشعار الخلود، فلا تزال أشعار أمرؤ القيس وعنترة والنابغة والأعشى تُلقى على أسماع الناس حتى يومنا هذا، لما فيها من حكمة وعمق بمعرفة النفس البشرية وفرتها بيئة الصحراء التى تساعد على التأمل والتفكر والتدبر فى الكون الذى تنفتح عليه الصحراء فى كل ليلة.

والاعتقاد السائد بأن الرواية ابنة المدينة، لأن تفاصيل الحياة المعقدة والتفاوت الطبقى والصراع على الحياة كلها تتواجد فى المدينة بصخبها، لكن الكثير من الأدباء استطاعوا تقديم روايات حديثة صحراوية لها خصوصيتها وصخبها الخاص وتفاصيلها المعقدة التى لا تتوقف أمام الرمال الممتدة على مد الأفق، بل تغوص فى مجتمعات الصحراء وتكشف التنوع الخاص بها من ناحية، ومن ناحية أخرى استخدم الكثير من المبدعين الصحراء كساحة ومنصة لمهاجمة توحش المدينة وكشف فسادها وعيوبها.

ربما يكون النص الغربى الأشهر عن الصحراء هو رواية (الخيميائى) للروائى البرازيلى باولو كويلو، الذى نشرها عام 1988، وهى رواية رمزية فى المقام الأول، لكنه قدم عالم الصحراء بكل ما فيه من تفاصيل غنية، لكنها لا تخفى عن المعنى الرمزى الذى يتخفى خلف رحلة الراعى الإسبانى الذى يجوب الصحراء الكبرى صوب مصر للحصول على الكنز، وهنا نجد التطبيق الحى لمقولة إن «الكنز فى الرحلة»، فالراعى الإسبانى يعيد اكتشاف نفسه ويجد كنزه الحقيقى داخل ذاته التى يعيد اكتشافها خلال الرحلة من جديد وبصورة غير مسبوقة فضلا عن أنه يجد حب حياته فى صورة فاطمة بنت الصحراء، التى يقرر الارتباط بها.

وترجم رواية (الخيميائى) إلى العربية الأديب الكبير بهاء طاهر تحت عنوان (ساحر الصحراء)، إذ وقع طاهر فى عشق عالم الصحراء الروائى منذ بداية مشروعه الأدبى، ويعد واحدا من أهم الروائيين العرب الذين كتبوا روايات عن الصحراء وفيها، فبصورة واضحة لدينا عمله الذى حصل به على جائزة البوكر العربية، رواية (واحة الغروب)، إذ تتحول الصحراء عنده إلى ساحة للباحثين عن ذواتهم من مختلف الاتجاهات والمسارات والقوميات، فالجميع يعيد اكتشاف نفسه من جديد فى رحلة السفر عبر الصحراء، ولا يشكل الوصول إلى الواحة إلا الوصول إلى واحة النفس البشرية بعد المرور بصحراء التجارب التى تحرق النفس وتعيد صياغتها وإظهار جوهرها، كما تفعل النار فى الذهب، وقد استخدم طاهر الصحراء فى أكثر من عمل روائى له بأشكال مختلفة بما فى ذلك روايته الشهيرة (خالتى صفية والدير).

اقرأ أيضًا

أمينة النقاش تكتب: فى حوار نادر نجيب محفوظ: أدين الإرهاب لا المنجزات فى ثورة

وسبق صبرى موسى الجميع عندما قدم الصحراء فى عمله الروائى الفذ (فساد الأمكنة) الذى نُشر كاملا عام 1973، وهو عمل ضمن له ريادة فى أدب الصحراء فى العصر الحديث على مستوى مصر والعالم العربى، فالنص يعد الأول على مستوى الرواية المصرية الذى تدور أحداثه بالكامل فى الصحراء، ليكسر احتكار المدينة والريف للرواية المصرية منذ نشأتها، وقدم من خلال بطل الرواية الرحالة الإيطالى الذى قرر الاستقرار فى الصحراء الشرقية تجربة شديدة الخصوبة عن الصحراء المصرية بما فيها من حياة قبلية وتنوع مدهش وقدرة على تكثيف الرمز لقول كل شيء فى الرواية بصورة تفوق تقنيات الكتابة عن المدينة أو الريف، ومن هنا كان السبب فى المكانة البارزة التى تحتلها رواية صبرى موسى، الذى استبقها بتسجيل زيارته للصحراء الشرقية فى كتابه (فى الصحراء) وهو كتاب يقع ضمن أدب الرحلات وصدر عام 1964، وعلى كل حال ترك صبرى موسى علامة أساسية على أدب الصحراء، وترك تأثيره فى جميع من كتب روايات الصحراء فى مصر والعالم العربى من بعده.

وكتب العديد من الروائيين المصريين روايات تدور فى الصحراء مثل أشرف الخمايسى وروايته (منافى الرب)، كما نجد أن الروائية ميرال الطحاوى، التى تنتمى إلى بيئة بدوية فى الأساس تخصص معظم إنتاجها الروائى لعوالم الصحراء التى برعت فى تصويرها، خصوصا ما يتعلق بتفاصيل الحياة اليومية والعادات والتقاليد التى تقمع المرأة وواقع الحياة فى بيئة بدوية على هامش حياة البشر، كما فعلت فى روايتها (الخباء)، ثم فى روايتها (نقرات الظباء)، وقد رسخت وجودها فى حقل دراسات أدب الصحراء عبر حصولها على شهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة عن الرسالة المعنونة بـ(جماليات التشكيل الفنى فى رواية الصحراء.. المقدس وأشكاله فى المخيلة الرعوية»، لتكون أحد أكثر الأصوات النسائية تميزا فى مساحة رواية الصحراء على الساحة المصرية.

وإذا انتقلنا إلى الساحة العربية، نجد الكثير من التجارب المهمة على صعيد روايات الصحـــراء، فالــروائــى الســـعودى عبدالرحمن منيف يعد أحد أهم من كتبوا عن الصحراء فى أعماله الروائية، فإذا تجاوزنا عمله الفذ خماسية (مدن الملح)، التى ترصد التحولات الاجتماعية فى المجتمع السعودى البدوى، فقد قدم رواية صحراوية نموذجية فى عمله (النهايات)، وقد خصص الناقد شاكر النابلسى دراسة نقدية عن روايات منيف أطلق عليها (مدار الصحراء)، إيمانا بأن معظم روايات منيف تدور حول صحراء النفس العربية، أى بالمعنى الواسع للصحراء الذى لا يتوقف عند المعنى الواقعى بل يحلق فى سماء الرمز ليشتبك مع الكثير من المعانى التى تعكس حالة حزن عميقة لحال العرب كأمة.

كذلك يعد الروائى الليبى إبراهيم الكونى، أحد أهم من كتبوا عن الصحراء فى الرواية العربية، فالصحراء حاضرة وبقوة فى أعمال الكونى الروائية الكبرى، مثل رواية (المجوس)، كما يقدم عوالم الصحراء الكبرى المدهشة فى ملحمته الروائية رباعية (الخسوف)، التى تروى سيرة ثلاثة أجيال لأبناء قبيلة الطوارق وهى القبيلة التى تنتشر فى الصحراء الكبرى، من مصر شرقا إلى موريتانيا غربا، ليمزج بين التاريخ والحاضر، ويناقش قضايا المجتمعات العربية مع الاهتمام بتكريس وجود الصحراء كأحد أبطال النص الروائى، ولم يكتفِ الكونى بهذه الأعمال الأيقونية بل إنه أنتج نحو 50 نصا ما بين روائية وقصة وكتب فكرية تدور كلها حول الصحراء وعالمها المدهش.

بعد كل هذه الأعمال حصلت الرواية الصحراوية على مكانة راسخة بل لا تزال تجذب الكثير من الكُتاب فى العقود الأخيرة ليغزو العالم ردا على تكثيف حضور المدنية الكلى والساحق للإنسانية، فنجد الكثير من الروايات تحت هذا التصنيف نذكر منها: (صلاة الغائب) للطاهر بن جلون، و(خاتم) لرجاء العالم، و(النبطى) ليوسف زيدان، و(ساق الغراب) ليحيى أمقاسم، و(وادى الدوم) لعلاء فرغلى، و(غواصو الأحقاف) لأمل الفاران، وهى كلها نصوص تؤكد أنه لا يزال أدب الصحراء إحدى ساحات الإبداع الرئيسة للروائيين العرب.