مستشار وزيرة التضامن: تعدد مصادر الإفتاء وراء ظهور أجيال مُفككة والانحرافات السلوكية

د. صلاح هاشم أستاذ التنمية والتخطيط بجامعة الفيوم
د. صلاح هاشم أستاذ التنمية والتخطيط بجامعة الفيوم

شخصية تتسم بالهدوء وعمق التفكير، له باع طويل فى التنمية والتخطيط، كما له العديد من المؤلفات العلمية القيمة التى وضع فيها عصارة خبرة سنوات من العمل الأكاديمى والاجتماعى التنموي، إنه الدكتور صلاح هاشم أستاذ التنمية والتخطيط بجامعة الفيوم، ومستشار وزيرة التضامن الاجتماعي للسياسات الاجتماعية..

التقته «الأخبار» ضمن سلسلة حوارات «ماذا حدث للمصريين؟»، لمحاورته حول العادات والتقاليد الغريبة التى شهدها مؤخرا المجتمع المصرى وتأثير السوشيال ميديا، والتباهى بها، فكشف عن العديد من الأمور والأرقام نستعرضها فى الحوار التالى :

بداية دعنا نبدأ بالسؤال الذى وضعناه عنوانا لسلسلة الحوارات، وهو ماذا حدث للمصريين؟ 

على مدار سنوات طويلة من عمر مصر عاش فيها المصريون فى حالة ثبات نسبى، وشكل النيل الملامح العامة لشخصية الإنسان المصري، بالإضافة إلى صراعه الدائم مع النهر فى فيضانه او نقصانه، ومعاناته التاريخية فى مواجهة الثقافات الاستعمارية التى حاولت سلب هويته أو تشويهها كما سلبت موارده الطبيعية، فجاءت قيم الإنسان المصرى صلبة عتية عصية على التغيير او التبديل، وشكلت فى مجملها هويته الحضارية  للدرجة التى جعلت المؤرخين يؤكدون أن مصر هى فجر التاريخ الإنساني، وفى خمسينيات القرن المنصرم  شاعت فى المجتمع المصرى القيم التى تُمجد العمل والتعليم والأسرة، وساعد على ذلك مجانية التعليم التى كانت تتيح نفس المناهج لكافة فئات الشعب. 

وتعرض كل المصريين لنفس المحتوى الإعلامى التوعوى الذى ينقل نفس الرسائل البناءة، فسادت فى المجتمع قيم التسامح والمساواة والعدالة الاجتماعية، حتى الجرعات الدينية التى تعطى لكل المصريين كانت واحدة ومصدرها واحد وهو الأزهر الشريف والكنيسة، فكانت السمة الغالبة على المصريين الاعتدال الدينى والتدين الوسطى والفكر المعتدل، الذى يكرس قيم التسامح والتعايش المشترك. 

ومع تعدد مصادر الافتاء والسماح بتكوين جماعات غير مشروعة مثل جماعة الإخوان المسلمين فى نهاية العشرينيات من القرن العشرين، وظهور الفضائيات المفتوحة بنهاية القرن، والإيمان بالتعددية الثقافية التى دعت إليها العولمة.. والاحتكاك غير المدروس بين الغرب بقيمه المستحدثة وبين الشرق بثوابتهِ الدينية والاجتماعية وموروثاته الثقافية التى تعرضت لموجات عنيفة من الغزو الغربي.. مما ترتب عليه أجيال جديدة بعقليات وقيم دينية ووطنية مغايرة وغير ثابتة، باتت فى صدام مع الماضى وربما شبه قطيعة بكل روافده.. وعززت العولمة بكل أسلحتها المشروعة هذا الاتجاه.

فمنذ السبعينيات شهد المجتمع المصرى تغيرات جذرية صاحبت العولمة وسياسة الانفتاح وهجرة كثير من الآباء إلى دول الخليج سعيا وراء مستوى اجتماعى واقتصادى أفضل؛ وهو ما أسفر بدوره عن الدفع بعجلة الحراك الاجتماعى بشكل غير مسبوق، حيث طرأ تغير كبير فى التركيبة الطبقية للمجتمع المصري، وحدث تآكل شديد فى الطبقة الوسطى لصالح طبقة الفقراء ومحدودى الدخل، وتبع ذلك تغيير كبير فى النسق القيمى للإنسان المصري، وتفاوت ملحوظ فى الدخول، فقد أدى ارتفاع دخول بعض الأسر، إلى شيوع فج لقيم  التعالى والأنانية وزيادة معدلات الطموح الاستهلاكى، فضلا عن التفكك الأسري، ومن ثم المجتمعى والذى أسفر عن  ظهور انحرافات سلوكية واجتماعية، وانهيار القيم لدى الكثيرين.

كما أن التغير فى أنماط استهلاك المصريين أثر على ميزانية الأسر المصرية وتسبب ذلك فى حدوث صراعات وزيادة معدلات العنف والجرائم، بعد أن أصبح اقتناء السلع الاستهلاكية دليلا على الارتقاء وارتفاع المكانة الاجتماعية للأشخاص.

جرائم العنف

لماذا تكثر فى هذه الفترة جرائم القتل والانتحار؟

ترتبط دائما معدلات الجريمة فى أى مجتمع ارتباطاً وثيقاً بالحالة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع الذى تحدث فيه، والأرقام فى هذا الملف بالنسبة للوضع المصرى للأسف صادمة، حتى وإن كانت ضعيفة إذا قورنت بدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا وغيرهما، حيث تلعب المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية عادة دوراً كبيراً فى زيادة معدلات جرائم القتل والتحرش الجنسى والاغتصاب والسرقة بالإكراه..

بالإضافة إلى الفساد والاتجار بالبشر، وتجارة الأسلحة والمخدرات.. ورغم ارتباط هذه الجرائم بشكل عام بالعصابات المنظمة ومتعددة الجنسيات والتى سهلت لها العولمة الحركة والانتشار، إلا أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن أهمية القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعى وعدم السيطرة على المحتوى الذى تُقدمه الدراما المصرية ولاسيما فى السنوات الأخيرة..

والتحول من الاعلام والفن البناء الذى يساهم فى الحفاظ على هوية المجتمع والنسق القيمى للمصريين ويلعب دوراً مهماً فى بناء دولة القيم التى تكافئ دولة السياسة وتساندها فى تحقيق الاستقرار الاجتماعى والتنمية التى ينشدها الجميع. وهو الأمر الذى رسخ لمزيد من أنماط الانعزال وتبنى قيماً وأنماطاً غريبة عن المجتمع المصرى تمسك بها الشباب وأدت لزيادة معدلات الطلاق والتفكك الأسرى والانتقام الذى ليس له سقف..

والابداع فى القتل والتخريب حتى وصل بها فى كثير من الاحيان إلى تجييش مشاعر الجماهير نحو التعاطف مع المجرم. 

فوفقاً لآخر الإحصائيات وصلت جرائم قتل النساء والفتيات إلى 296 جريمة فى عام 2021 بنسبة 36.4%، حيث وقعت 214 جريمة قتل نتيجة للعنف الأسرى على أيدى الزوج، فيما وصلت جرائم الشروع فى قتل النساء من قبل الأزواج بسبب العنف 78 جريمة بنسبة تصل9.5%.

وتُعد محافظة الجيزة أعلى معدل بين المحافظات فى جرائم قتل النساء، بواقع 56 حالة قتل فى عام 2021، بينما سجلت القاهرة 23 حالة قتل للسيدات على أيدى أزواجهن، فيما سجلت القليوبية 16 جريمة قتل للنساء، وسجلت الإسكندرية 10 جرائم قتل.

دور السوشيال ميديا

هل هناك دور للسوشيال ميديا فى انتشار هذه الجرائم؟

كما قلت من قبل أن وسائل التواصل الاجتماعى هى المتهم الأول فى انتشار هذا النوع من الجرائم، حيث يؤكد المتخصصون أن طريقة عرض وتناول جرائم العنف والقتل بصورة مبالغ بها تؤثر بشكل فورى على عقل المتلقى، خاصة إذا كان المستهدف من فئة الشباب والمراهقين المنعزلين عن أسرهم فى عالم منفصل تديره الأجهزة اللوحية والتليفون المحمول.

كذلك فإن الإعلانات المتواصلة للفيلات ووحدات الإسكان الراقى والكومبوندات تصيب فئات المجتمع غير القادرة على اقتنائها بالإحباط وتولد لديهم مشاعر الغضب والكراهية والعنف وعدم الانتماء إلى المجتمع.

وعلى صعيد متصل لابد من مراجعة الألعاب الالكترونية وأفلام الكارتون التى يشاهدها الأطفال والتى تحتوى أغلبها على مشاهد للعنف والقتل والتفجير، وهى تزرع فى نفوس هؤلاء الأطفال قيم الشر والعدوانية بدلا من نشر الحب والتسامح والخير، ولهذا لابد من دعم الوعى المجتمعى بمخاطر استخدام الإنترنت والألعاب الإلكترونية فى التحريض على الانتحار والترويج للأفكار الانتحارية، خاصة بين المراهقين.

كيف ترى مناداة البعض بدفع الفدية لإنقاذ رقبة الجانى من عقوبة الاعدام؟

فى الحقيقة مصطلح الفدية ليس غريبا عن العُرف الاجتماعى والثقافى المصرى لارتباطه الوثيق بالشريعة الاسلامية الداعية إلى التسامح والعفو..

ومقابل الفدية هو القصاص كما ورد فى النصوص الدينية..

والغريب أن المجتمع بات يستنكر الفدية ويعتبرها ضعفاً وأنها تكرس لمد يد الاجرام..

والتحامل على محدودى الدخل الذين لا يستطيعون بحال دفع الفدية حال ارتكابهم جريمة القتل..

رغم أن التكافل الجنائى موروث ثقافى ودينى فى ذات الوقت والتسامح والعفو من شيم الاسلام الحنيف. 

ورغم منطقية هذا الرأى لكننى أميل فى هذه الظروف الاستثنائية التى يمر بها المجتمع إلى الرأى الذى يرى أن اللجوء إلى الفدية حاليا قد يكون له تأثير عكسى وسلبى على المجتمع، فهى قد ترسخ إلى مبدأ أنه من حق الأغنياء ارتكاب كل الجرائم ودفع الفدية للفقراء..

وهو ما يخالف مبادئ العدالة التى تؤكد على أن كل البشر متساوون امام الله وأمام القضاء، كما أن تطبيق العقوبات الصارمة خاصة فى الجرائم الخطيرة يمكن أن يمثل سلاحا رادعا لكل مجرم تسول له نفسه ارتكاب أى نوع من الجرائم.

ماذا عن مشاهد جرائم القتل التى تحدث بطريقة تُثير مشاعر المواطنين؟

لاشك أن مشاهدة الفيديوهات الخاصة بالجرائم الحقيقية شىء مؤذٍ نفسيا للمشاهد ولأسرة المجنى عليه بشكل خاص، ولكن لابد من استحداث طرق وتقنيات يمكن من خلالها حجب هذا النوع من الفيديوهات والمشاهد والتى تروج فى الوقت ذاته للعنف والعدوانية وطرق تنفيذ الجرائم.

دور الدراما

وماذا عن دور الدراما؟

تعد الدراما المكون الأهم والأسهل فى تشكيل وعى وقيم المجتمع ويمكن استغلال الدراما لرفع وعى المجتمع من خلال تقديم قصص وقيم هادفة وسوف ينجذب لها المجتمع تلقائيا، وقد لاحظنا هذا التأثير فى الإقبال الجماهيرى على مسلسل «الاختيار» على سبيل المثال، وفيلم «الممر».

هل هناك دور للقوى الناعمة كى يستعيد المجتمع عاداته السليمة؟

القوى الناعمة هى السلاح الأول لتغيير قيم وعادات المجتمع، فالإعلام ومتابعة وسائل التواصل الاجتماعى وتقديم محتوى هادف يمكن أن يغير جميع الأفكار اللى اكتسبها الشباب على مدار سنوات، لكن الأمر يحتاج إلى ذكاء فى التناول والمعالجة.

والاعتماد على اهل الخبرة فى التأليف والاخراج.. والتركيز على إعادة البناء القيمى للشباب..

بالإضافة لاستعادة دور المؤسسة الثقافية بكل مكوناتها فى التعامل مع قضايا الناس وأفكارهم ومشاعرهم فى اطار رؤية شاملة لبناء الانسان المصرى وتعزيز هويته وكذلك اصلاح منظومة التعليم واستعادة هيبة المدرس..

وغلق السناتر التعليمية التى اصبحت بديلا غير قانونى للمدارس النظامية.. وجعلت التعليم مجرد سلعة تباع فى السوق السوداء فى معزل عن رقابة الدولة..

ولا استطيع فى هذا السياق أن اغفل اصلاح الخطاب الدينى وابعاد رجال الدين من الائمة والوعاظ عن ممارسة الأعمال السياسية أو الانتماء لأى أحزاب سياسية لضمانة نزاهة الفتاوى وشفافية الخطب المنبرية والعمل من أجل الوطن واستقراره، وليس من أجل جماعة بعينها أو مصلحة شخصية لأصحابها.
خطة شاملة 

أخيرا.. ما الرسالة التى يمكن أن توجهها للشباب فى تلك المرحلة؟

الحقيقة أحب أن أوجه الرسالة لأولياء الأمور لاستعادة شكل الأسرة المصرية المتماسكة التى تقوم على النسق القرابى الذى يعتمد على التواصل المباشر بين جميع أفراد الأسرة وليس من خلال وسائل التواصل الاجتماعى المختلفة.

أن يكونوا الآباء أصدقاء لأبنائهم حتى يمكنهم التدخل إذا لزم الأمر، وفى الوقت المناسب، خاصة فى حالة تعرض أفكار وقيم الأبناء للتضليل والخداع، فدورهم هام وضرورى فى علاج أى تشوه معرفى قد يتعرض إليه الأبناء.