أستاذ الفارماكولوجي بجامعة واشنطن: «التوحد» يهدد العالم

د. تامر جمال الدين اثناء حواره مع «الأخبار»
د. تامر جمال الدين اثناء حواره مع «الأخبار»

- عوامل الخطر.. التلوث وزواج الأقارب وتدخين الأم والإفراط فى ألعاب الفيديو

- محاضرة غيرت مسار حياتي وأسعى لابتكار قناة أيونية صناعية لعلاج أمراض القلب والتوحد والصرع

مع أول كتاب علمي أهداه له والده في طفولته، قرر دراسة العلم والغوص في بحاره، وحينما قرر الالتحاق بكلية العلوم، سأله أحد أصدقائه ساخرًا: «فاكر نفسك هتبقى أينشتين؟!».

ولم يكن يعلم وقتها أنه بالفعل سيسلك طريق العلماء الكبار، ويصبح وهو لا يزال فى الاربعينيات واحدا من أهم باحثى العالم فى علم القنوات الأيونية، أحد أفرع الفيزياء الحيوية.

هو د. تامر جمال الدين الأستاذ بقسم الفارماكولوجى بجامعة واشنطن، وأحد طيور مصر المهاجرة الذين حققوا إنجازات كبيرة على مدى 20 عاما، وفى هذا الحوار يحدثنا د. تامر عن معالم رحلته الطويلة التى تجمع بين العلم والحياة، من لحظة ارتباطه بحب العلوم ودعم أساتذته فى مصر، حتى أصبح لديه معمل خاص باسمه فى جامعة واشنطن.

‎تخرج د. تامر جمال الدين فى كلية العلوم، جامعة القاهرة 1996 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف فى تخصص الفيزياء الحيوية، ثم حصل على الماجستير من جامعة الأزهر عام 2003 فى نفس التخصص، بعدها حصل على الدكتوراه فى تخصص الفيزياء الحيوية للقنوات الأيونية من جامعة زيورخ بسويسرا.

وقام بعمل دراسات ما بعد الدكتوراه فى كل من جامعتى فرايبورج بألمانيا وواشنطن بالولايات المتحدة الامريكية. ويعمل حالياً أستاذا مساعدا فى قسم الفارماكولوجى فى جامعة واشنطن. نشر له أكثر من 30 بحثا فى كبرى الدوريات العالمية مثل Nature، Cell، PNAS.، كان باحثا أول فى عدد كبير منها، كما قام بتحكيم مئات الأبحاث فى مجلات كبيرة مثل  Science، Nature.

تغيير مسار

لحظة أو موقف قد يغير مسار حياة الإنسان، متى كانت هذه اللحظة فى حياتك؟

حدث ذلك فى الفرقة الثانية بكلية العلوم، حينما تلقينا عدة محاضرات عما يسمى بالقنوات الأيونية، على يد الدكتورة كوثر، التى أدين لها بالفضل، فقد أحببت هذا الفرع جدا من أول لحظة، وقررت التخصص فيه، لأنى شعرت أن هذا المجال يحمل أسرارا كبيرة يمكن أن تصل بنا لكشف أسباب وعلاج كثير من الأمراض.

لكنى اكتشفت عدم وجود معامل فى مصر تعمل فى هذا المجال، فعملت مؤقتا بمعمل رسم المخ الكهربائى، لأن كهرباء المخ هى نتاج لعمل الملايين من القنوات الأيونية، وحصلت على الماجستير من علوم الأزهر، وظللت أحلم بالعمل فى مجال القنوات الأيونية.

أسباب المرض

هل يمكن أن تبسط لنا مفهوم القنوات الأيونية وأهميتها؟

يقول: جسمنا به خلايا كثيرة كل منها محاط بغشاء دهنى، لا يسمح بمرور الشحنات الكهربائية، ولذلك تحتاج الخلية فى بعض الأوقات الى مسار غير دهنى أو نفق تدخل منه الشحنات الكهربائية التى تساعدها على الحياة وتنقل إليها الأوامر.

وخلق الله الأيونات بتركيزات مختلفة داخل وخارج الخلية حتى يتم التواصل على أكمل وجه، فالخلية يجب أن تشعر بالرسالة أو الأمر القادم اليها، والأيونات هى وسيلة نقل هذه الرسائل أو الأوامر، فحركة الأيونات فى الخلية تطلق تيارا كهربائيا أو نبضة كهربائية تعد بمثابة الأمر ووسيلة التواصل بين خلايا الجسم وأعضائه.

وحتى نتصور أهمية عمل هذه الأيونات، فإن الإنسان حينما يستخدم مثبطات الألم (المسكنات) فإن هذه المثبطات توقف انتقال النبضات الكهربائية الناتجة عن حركة الأيونات، فلا نشعر بالألم، والحقيقة أننا فى هذه الحالة لم نعالج السبب ولكن أوقفنا فقط الرسالة أو الأمر بحدوث الألم، ولذلك ينصح الأطباء بعدم الإفراط فى المسكنات لأنها قد لا تجعل الإنسان يشعر بالألم رغم استمرار وجود السبب.


أجمل لحظة

ماذا فعلت لتحقيق حلمك بالتخصص فى علم القنوات الأيونية؟

يجيب بسرعة: بدأت أبحث خارج مصر، حتى وجدت أخيرا معملا فى جامعة زيورخ، فأرسلت إليه فورا وقدمت كل أوراقي، فتم اختيار مجموعة من دول مختلفة للسفر إلى زيورخ على نفقة جامعة زيوريخ لإجراء مقابلة فى الجامعة مع رئيس المعمل.

وإلقاء محاضرة عن الخبرات البحثية السابقة. أنهيت المهمة، وعدت لمصر أنتظر الرد بلهفة، وبعد 3 أسابيع وصلنى إيميل بقبولى وكانت بالفعل أروع لحظة فى حياتى، فاصطحبت زوجتى وابنتى وبدأت فى سويسرا رحلة علمية جديدة.

تميز «سويسرا»

قبل أن نترك سويسرا، حدثنا عن حياتك ورؤيتك لهذه الدولة المميزة التى تعد من أغنى دول العالم؟

سويسرا دولة مميزة جدا، قضيت بها 5 سنوات من أجمل سنوات عمرى، فرغم أنها دولة صغيرة مساحتها 40 الف كم مربع، وليست بها خامات ولا ثروات طبيعية، إلا أنها واحدة من أكثر الاقتصادات القوية فى العالم، ومن أعلى الدول دخلا.

وهى تعتمد على الاقتصاد الابتكارى القائم على البحث العلمى، فلديها أكبر مصانع الدواء وأكثر المصانع تقدما فى مجال الصناعات الالكترونية، باختصار صنعت اقتصادها بفكر وجهد ابتكارى تنافسى وليس بالاعتماد على الثروات الطبيعية.

إضافة إنجازاتى

من معامل أساتذتك العلماء بسويسرا، إلى معملك الخاص بجامعة واشنطن بأمريكا، كيف كانت هذه الرحلة؟
- بكلمات هادئة يقول: الباحث على مدى حياته يحتاج لتغيير مدرسته العلمية لتعظيم الاستفادة وتعدد الخبرات، وقد حصلت فى سويسرا على الدكتوراه، ثم انتقلت من سويسرا إلى ألمانيا ثم أمريكا، حيث واصلت  دراسات ما بعد الدكتوراه.

وعملت فى معمل أكبر استفدت منه كثيرا، وزادت خبراتى العلمية، ورغم أننى عملت فى أكبر المعامل العالمية، إلا أننى  كنت أحلم دائما بإضافتى الخاصة، وكانت أمامى دائما حكمة أستاذى د. نيكولا جريف، الذى كان يقول : «لا تفرح بوجودك فى معمل إنجازات الآخرين، بل افرح حينما تضيف إنجازك إلى إنجازات هؤلاء الآخرين»..

وهكذا واصلت العمل بإصرار حتى قمت بنشر أبحاثى فى كبرى الدوريات العالمية مثل  Natureو Cell،ثم أصبح لدىّ معملى فى جامعة واشنطن، وما زلت أيضاً أتعاون مع أستاذى فى جامعة واشنطن «بيل كاترال».

مواجهة مرض «التوحد»

نشر لك أكثر من 30 بحثا فى كبرى الدوريات العلمية، حدثنا عن أهمها.
لدىّ أبحاث مهمة حول مرض التوحد، وهو مرض بدأ ينتشر فى السنوات الأخيرة، حيث وصل معدل الإصابة فى أمريكا 1: 44 طفلا، وهو جرس إنذار يدعو لضرورة تفاعل المراكز البحثية معه، خاصة أنه يعد من أصعب الأمراض بسبب مقاومته للعلاجات المتاحة.

وتعدد أعراضه، وبالفعل بدأت من خلال فريق بحثى، التحليل الجينى لبعض المرضى الذين لم يكن لديهم أى طفرات جينية فى أى من البروتينات المعروف عنها أنها تسبب مرض التوحد، ومن خلال بحثنا الأول حول التوحد - والذى شارك فيه ستة باحثين.

وكنت أنا رئيس الفريق البحثى - اكتشفنا سببا جديدا للمرض، هو وجود طفرة جينية فى قناة البوتاسيوم الأيونية بالمخ، تؤدى لخلل فى أدائها، بما يسبب زيادة فى تدفق أيونات البوتاسيوم، وبالتالى ظهور أعراض المرض.

ونشر البحث بالفعل العام الماضى فى دورية PNAS، ونواصل عملنا الآن فى بحث آخر بهدف محاولة علاج أعراض التوحد على فئران التجارب المصابة بالمرض نتيجة طفرة قناة البوتاسيوم، أما البحث الثالث فسيكون هدفه كيفية تنظيم عمل الطفرة الجينية التى أصابت قناة البوتاسيوم حتى تعود للانتظام فى أداء عملها وتتم السيطرة على المرض.

أسباب جينية وبيئية

هل يمكن الوقاية من مرض التوحد؟

- دائما نقول إن التوحد استعداد جينى بالإضافة للعامل البيئي، وقد يكون لدى البعض أسباب جينية فقط دون ظهور أعراض، ولكن لو توافرت عوامل بيئية معينة تظهر أعراض المرض، ومن أهم هذه العوامل التعرض للتلوث بكل أنواعه.

وتناول الأطعمة الملوثة بالمبيدات الحشرية، وزواج الأقارب، وارتفاع سن الإنجاب للزوجين وإنجاب الأم بعد الأربعين، ومن عوامل الخطر أيضا تدخين الأم خلال فترة الحمل، وهناك أبحاث أشارت لوجود علاقة سببية بين التوحد والإفراط فى ألعاب الفيديو، ويمكن الحد من ارتفاع معدلات المرض بمراعاة البعد عن هذه العوامل.

أعراض مختلفة
ما أعراض التوحد؟

من أسباب صعوبة هذا المرض تعدد أعراضه، لدرجة أن الطفل قد يكون مصابا به دون أن ينتبه أهله، فهناك أعراض واضحة يسهل تشخيصها، كرفض تعامل الطفل مع الآخرين، وعدم التفاعل معهم تماما، والعصبية الشديدة جدا.

وقد يصل الأمر إلى نوبات تشبه الصرع، وفى المقابل هناك أعراض أخرى بسيطة للتوحد، مثل تفضيل الطفل للانطواء أو العصبية الطبيعية، وهو ما قد يفسره الأهل بأنها صفات طبيعية للطفل.

بعض الحالات تظهر عليها الأعراض فى مراحل متقدمة من العمر، فما التفسير؟

كما قلت فإن التوحد استعداد جينى بالإضافة للعامل البيئي، وقد يتعرض الإنسان للعوامل البيئية فى مراحل أكبر من العمر، ووقتها تظهر الأعراض.

وما العلاج المتاح للتوحد حاليا؟

بأسى يجيب: للأسف ليس له علاج حتى الآن، والأدوية الحالية تثبط عمل بعض المناطق فى الجهاز العصبى فقط، أى تعالج الأعراض فقط، ودورها مهم طبعا لأن الأثار الجانبية للمرض قد تكون شديدة، ولكنها فى النهاية ليست العلاج المناسب.

يعمل ويتزوج

هل مريض التوحد يمكن أن يعيش حياه طبيعية، يعمل ويتزوج ويكوّن أسرة؟
بعض مرضى التوحد لديهم أعراض بسيطة مثل العصبية المحتملة أو الانطواء الطبيعى، لدرجة أنهم قد لا يكنون على دراية بمرضهم، وهؤلاء يعيشون بالفعل حياه طبيعية وينجحون فيها، خاصة أن المرض لا يؤثر على الذكاء اطلاقا.

كثيرا ما نسمع عن إصابة مشاهير ناجحين بالمرض، رغم أننا نصنفهم كعباقرة، مثل «ميسى» و»بيل جيتس» وغيرهما، فما تفسير ذلك؟

يبتسم قائلا: أولا التوحد لا يؤثر على الذكاء، بل ربما العكس، ولكنى من ناحية أخرى أرى أن الرابط بين بعض الأمراض والعبقرية هو نوع من أنواع «الشو» والترويج  لمحاولة ادماج فئة مجتمعية معينة..

قناة صناعية

العالِم عادة لا يتوقف عن البحث والتجربة والحلم، فما أهم أحلامك العلمية؟

- بسرعة يقول: لدىّ حلم كبير أتمنى تحقيقه، وهو تغيير القناة الأيونية المصابة بالخلل أو المرض، واستبدالها بقناة أيونية صناعية سليمة، وقد قطعت بالفعل شوطا  كبيرا فى هذا الحلم، فمنذ حوالى 4 سنوات أجريت بحثا مهما عن تصميم أول قناة أيونية صناعية.

والهدف هو حقن المريض بجين القناة الأيونية الصناعية، لتحل محل القناة الطبيعية المصابة بخلل معين نتيجة إصابتها بطفرة جينية، وقد نجحنا بالفعل فى انتاج القناة الصناعية وقمنا بتجربتها، من خلال حقنها فى خلايا خارج الجسم.

ولكن المشكلة أن نسبة اللفظ عالية داخل جسم الكائن الحي، وما زلت أواصل العمل على تطوير هذا البحث بتحسين أداء القناة الصناعية من ناحية، ومحاولة علاج رفض الجسم لها من ناحية أخرى، وهو حلم وإنجاز كبير؛ لأنه سيفيد فى علاج أمراض عديدة خطيرة، مثل بعض أمراض القلب والتوحد والصرع وغيرها، فمثلا اعتلال نبضات القلب قد يكون بسبب خلل فى قناة الصوديوم فيكون العلاج الجذرى هو استبدالها بالقناة الصناعية السليمة، خاصة أن بعض هذه الحالات لا تصلح معها الأدوية.

بعيدا عن المعمل

استراحة بعيدا عن العلم حدثنا عن هواياتك ووقتك بعيدا عن المعمل؟

- يتراجع فى جلسته قائلا: أعشق القراءة والكتابة وسماع الموسيقى الكلاسيكية ولعب كرة القدم، وبالنسبة لكرة القدم فأنا أشارك حتى الآن فى دورات صغيرة وألعب هجوما وأحرز أهدافا. أما القراءة فقد كانت سبب اتجاهى للعلم، حيث أهدانى أبى كتابا عن الكواكب فى صغرى.

وانبهرت بالكتاب وخلق داخلى شغفا كبيرا بالعلم، وحينما قررت أن ألتحق بكلية العلوم، سألنى أصدقائى: «هتشتغل مدرس؟ والا فاكر نفسك هتبقى أينشتين!!»، والحقيقة لم أفكر وقتها فى الإجابة ولم يكن يهمنى سوى إشباع حبى للعلم، أما حاليا فإلى جانب الأبحاث والمجلات العلمية أقرأ للدكتور يوسف زيدان.

ود. عبد الوهاب المسيري، وأقرأ حاليا ثلاثية المماليك لريم بسيونى، وأوراق شمعون المصرى لأسامة عبد الرءوف الشاذلى. وأما عن الكتابة فأكتب على صفحاتى الخاصة مقالات تبسط العلوم لغير المتخصصين.  

حوار مستمر

وماذا عن الزوجة والأبناء؟

يبتسم قائلا: تزوجت بعد حب من أول نظرة من أخصائية علاج طبيعى، ولدىّ ثلاث بنات جنى وهاجر ومريم، بالمراحل الجامعية والثانوية والاعدادية، والتربية فى الغرب ليست صعبة كما يصورها البعض، والمهم أن يكون هناك حوار دائم بين الأبوين وأبنائهما وهذا ما أحرص عليه.

 

 

 

 

 

بعض الحالات تجهل حقيقة مرضها وتعيش حياتها بصورة طبيعية

اقرأ يضا | هانى سنبل: الإصلاحات الاقتصادية والمالية بمصر ساعدتها في تجاوز الأزمات الدولية