تحكى صراع الإنسان مع الطبيعة l روايات البحر.. أمواج من الإبداع

روايات البحر
روايات البحر

كتب: حسن حافظ

البحر هو المجهول الأول الذى واجه الإنسان، فخلف الأمواج المتلاحقة التى تضرب ساحل الأرض التى يقف عليها الإنسان، طرح الأخير على نفسه سؤالا حول ما يقع خلف الأفق، وإلى أين قد يحمل هذا الموج؟ ومن هنا انطلق خيال الإنسان حول تخيل العوالم التى تقع خلف البحر، وعندما ركب السفن بدأ يخلد مواجهاته مع تقلبات البحر، لذا لم يكن غريبا أن يكون أدب البحار من أقدم أنواع الأدب الذى شق طريقه إلى الآداب العالمية ليلخص فلسفة صراع البشر مع قوى الطبيعة..

 

لقد كانت البداية أسطورية تختلط فيها الخرافة بالحقائق، والحكايات المشوقة بقصص معاناة البحارة، لتصل إلى وقتنا الحالى فى شكل روايات تخلد الحياة على هامش البحر، عبر قصص تعكس هموم البشر فى العصر الحديث فى مواجهة البحر الذى اكتسب عمقا فلسفيا فى الأدب الحديث.

ويرتبط أدب البحر ورواياته بوصف أحوال السفر بالبحر وما يتعرض له الإنسان من أهوال، فقد شكّل ركوب البحر منذ قديم الأزل تجربة محفوفة بالمخاطر فى حياة الإنسان، فالبحر هو المجهول الأول الذى واجه الإنسان ودخل معه فى محاولات ترويض استمرت على مدى الزمن، فكانت العودة من رحلة بحرية مدعاة لإطلاق القصص حول المغامرات البحرية، ومن هنا وُلِد أدب البحر الذى كرَّس لحظات انكسار الغرور الإنسانى فى مواجهة طبيعة البحر الشرسة، ومن ناحية فجَّرت ملكات الخيال عند ركاب البحر، فكانت واحدة من منابع الخيال الأدبى عالميًا.

إذا عدنا إلى الماضى سنجد أن من أشهر الآثار الإبداعية على المستوى الإنسانى ملحمتى االإلياذةب واالأوديساب للشاعر اليونانى هوميروس، فالأولى تدور حول الحرب بين المدن اليونانية ومدينة طروادة، والبحر يلعب الدور الرئيس فى نقل الجيش اليونانى لمهاجمة طروادة وحصارها الذى استمر لعشر سنوات، لكن حضور البحر يصبح أقوى وأوضح فى ملحمة االأوديساب التى تركز على مصير البطل اليونانى أوديسيوس، بعد انتهاء حرب طروادة، الذى يضل الطريق إلى مدينة إيثاكا، حيث مقر حكمه كملك، ويضيع فى البحر لمدة عشر سنوات يواجه خلالها الكثير من الصعاب التى تكشف عن صراعات النفس البشرية مع مغريات الحياة المختلفة، وتقلبات الأيام التى يعكسها جميعا البحر بأحواله.

 

وتركت االإلياذةب واالأوديساب أثرًا لا يُمحى فى صياغة أدب البحر على المستوى العالمى، فنرى الشاعر اللاتينى فرجيل يكتب ملحمته الشهيرة االإنيادةب على نفس نهج االأوديساب، إذ تقوم الحبكة الرئيسية على هروب الطرواديين بعد سقوط طروادة أمام الهجوم اليونانى، إلى البحر فى طريق هجرتهم صوب إيطاليا والحروب التى خاضوها حتى أسسوا مدينة روما، ويشغل النصف الأول من الملحمة اللاتينية مرحلة الانتقال بحرًا من الأناضول إلى إيطاليا واستعراض الصعاب التى واجهت الطرواديين الهاربين فى مواجهة البحر وعوالمه الغامضة، إذ شكل البحر على الدوام المجهول الذى يخشاه البشر.

 

الإبداع العربى شارك بقوة فى إثراء المخيلة العالمية بخصوص أدب البحار، فعبر عوالم األف ليلة وليلةب ظهرت قصص من نوعية السندباد والسبع بحار، وهى قصص تكرِّس لعالم البحَّارة العرب والمسلمين فى عوالم الخليج العربى والمحيط الهندى وصولًا إلى الهند، وهى قصص تعيدنا بالذاكرة إلى نفس أجواء ملحمة االأوديساب اليونانية، وإن كان الجانب التشويقى أعلى فى قصص السندباد، التى لم يتوقف عندها العرب، فقد قدموا نوعية أخرى من الأدب تتعلق بأدب الرحلات البحرية، وفيها يروى الرحّالة قصته فى البحر، كما فعل سليمان التاجر أو سليمان السيرفى، وهو رحالة عربى دوَّن رحلته فى الهند والصين بأسلوب أدبى مشوق، وهو نفس ما نجده عند الرحالة ابن جبير فى رحلته من الأندلس لقضاء مناسك الحج، فقد ذكر أهوال رحلته فى البحرين المتوسط والأحمر، وهو ما انتقل إلى الغرب تأثرا بالعرب، إذ نجد رحلات ماركوبولو تركز على الرحلة فى البحار العديدة التى ادّعى أنه زارها.

 

ومع مولد شكل الرواية فى العصر الحديث كأحد أنواع التعبير الأدبى، أصبحت روايات البحر التى يكون موضوعها الأساسى هو البحر، أحد مكونات المشهد الروائى الأوروبى، فنجد الكثير من الروايات عن هذا الموضوع مثل: اعشرون ألف فرسخ تحت الماءب للفرنسى جون فيرن، التى تكرّس لمحاولات الإنسان لاستخدام العلم لترويض الطبيعة، بينما قدّم الأمريكى إرنست همنجواى روايته الشهيرة االعجوز والبحرب التى تدور فى إطار إنسانى بحت لكنها تعكس فى مستواها الرمزى صراع الإنسان مع قوى الطبيعة.

 

أما أهم رواية عن البحر فى العصر الحديث فهى ملحمة اموبى ديكب للروائى الأمريكى هرمان ملفيل، وهى رواية كتبت فى منتصف القرن التاسع عشر، لكنها لا تزال واحدة من شوامخ الأدب العالمى، وقد تأثر فيها بالآداب العالمية المختلفة عن البحر بما فى ذلك الأدب العربى الإسلامى كما أثبت ذلك الدكتور إحسان عباس مترجم اموبى ديكب إلى العربية، وهى تقدم ملحمة فى علاقة الصيادين بصيد الحيتان فى المحيطات الواسعة، وعن عمل ملفيل يقول أحمد محمد عطية، مؤلف كتاب اأدب البحرب: االبحر عند هرمان ملفيل فى (موبى ديك) دنيا جديدة، وخلاص من الرتابة، وانعتاق من القيود الأرضية، وخروج إلى آفاق البحر الرحبة الممتدة بلا نهاية، ومغامرة محسوبة بحكم القدر وسطوته، وإيمان بالخروج إلى الأبدية، وبحث عن الحقيقة والمعرفة والمطلق.. وحققت الرواية بتحليقها فى آفاق البحر وآفاق الكون شمولية وعظمة وريادة فى أدب البحر.

 

أما فى مصر، فقد ارتبط أدب البحر بمدينة الإسكندرية، لذا تكاد تكون هى المدينة التى تحصد الاهتمام الأكبر من روايات البحر، إذ يختلط عالم البحر بالمدينة ويكون شخصيتها وشخصية أبطال الأعمال الروائية التى ظهرت عن المدينة بداية من رواية اميرامارب لنجيب محفوظ، وهى روايته الوحيدة التى تدور بالكامل فى الإسكندرية، ثم جاء مجموعة من الروائيين من أبناء مدينة الثغر فكتبوا عنها وعن علاقتها وعلاقة أبطالها بالبحر، مثلما فعل إدوارد الخراط فى روايات اإسكندريتىب وايا بنات إسكندرية، واترابها زعفران.

 

أما الروائى والقاص مصطفى نصر، فكرّس كل جهوده الروائية والقصصية للحديث عن مدينة الإسكندرية التى تحتضن البحر، كما فى االصعود فوق جدار اأملسب، واإسكندرية 67ب، واما لم يقله البحرب، واالجهينىب، وايهود الإسكندريةب، والمجموعة القصصية احجرة وحيدةب، وكتب الأديب الكبير إبراهيم عبدالمجيد، ثلاثية الإسكندرية التى تضم روايات الا أحد ينام فى الإسكندريةب، واطيور العنبرب، واالإسكندرية فى غيمةب، أما رواية اأداجيوب فيقدّم من خلالها عبدالمجيد قصة إنسانية عن مريضة سرطان تعكس فى الواقع أمراض المدينة المطلة على البحر فى العقود الأخيرة.

بينما قدَّم الروائى السكندرى محمد جبريل، رباعيته الروائية الشهيرة ارباعية بحرىب، التى تنطلق من الموروث الصوفى للمدينة عبر أوليائها المشاهير اأبوالعباس المرسى، وياقوت العرش، والبوصيرى، وعلى تمرازب، لسبر أغوار المدينة والنفوس البشرية على حد سواء، وهو أقرب الأدباء المصريين إلى مفهوم أدب البحار، إذ يحضر البحر بقوة فى أعماله خصوصًا روايات اأهل البحرب، واحكايات عن جزيرة فاروسب، واالنورسب، واالمينا الشرقىب، واجبل ناعسة.