نشوة أحمد تكتب: جروح أنا والقاتل فى بيت واحد.. الواقع الغائرة

نشوة أحمد تكتب :جروح أنا والقاتل فى بيت واحد:الواقع الغائرة
نشوة أحمد تكتب :جروح أنا والقاتل فى بيت واحد:الواقع الغائرة

مائة ومضة أو قصة قصيرة جدًا، جمعها الكاتب محمد عبد العزيز السقا، فى مجموعته القصصية «أنا والقاتل فى بيت واحد» -الصادرة أخيرًا عن دار بدائل للنشر والتوزيع- مستدعيًا عبر عتبة النص الأولى أثر الكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله، فكانت عبارته «أنا والقاتل فى بيت واحد» التى وردت فى قصته الشهيرة «حكاية على لسان كلب»؛ عنوانًا اختاره السقا لمجموعته، التى عمد خلالها إلى التكثيف والتسريع والحذف، وهى تقنيات يفرضها هذا الجنس الأدبى الذى يتطلب نمطًا سرديًا، يواكب الذائقة السريعة فى التلقي.


ورغم أن كل قصة من قصص المجموعة لم تتجاوز بضعة أسطر؛ فإن الكاتب استطاع عبرها أن يقبض على حدث فى لحظة زمنية قصيرة أو ممتدة؛ طرق خلالها قضايا اجتماعية شائكة. ووطأ جروح الواقع الغائرة.

وكشف ما به من مواطن القبح والعطب، ففى قصته «دليل إدانة»؛ فكك قضية العنف واستشراء الجريمة كنتاج لما يُبَث من مواد فلمية، تعزز السلوك العنيف لدى الأطفال منذ نعومة أظافرهم. وأبرز حصاد التحول من البساطة إلى التعقيد الذى صاحب التكنولوجيا.

وما طرأ من اعتناق القسوة والعنف والجريمة. «خلف الشاشة كان الرجل يمسك مسدسه بكلتا يديه يوزع الطلقات يمنة ويسرة كمروحة فقدت صوابها. فجأة .. طار المسدس من يديه واستقر فى عقل الطفل، الذى راح يطلق الرصاص على الجميع» ص 13.


وفى قصته «سبعون ثانية» عاود محاكمة الواقع الذى استدرج من يعيشونه إلى سباق محموم للكسب، فسقط أثناء ركضهم خلف المادة؛ أبناؤهم!، بينما فضح فى قصته «الحقيقة العارية»؛ مناخًا سائدًا من الكذب والتدليس، يلفظ الصدق ويسحق الحقيقة. كذلك جسد الشيزوفرينيا والازدواجية الأخلاقية، التى دفعت بمدير الفندق المتدين فى قصة «مهرجان انتحار القيم».

إلى إنفاق ما يسرقه من رواتب الخادمات، على فتيات الملهى، كى لا يدخل بيته مالًا حرامًا!! وفى قصة الدواء والحقيقة، حاكم التقاليد والموروث، الذى يقلل من شأن الأنثى ويمنح الأفضلية للذكور. وناقش ما ارتبط بهذا الموروث من امتهانٍ لجسد المرأة بالختان فى قصته «أمها امرأة قوية»، وأبرز -ضمنًا- الطريق الوحيد للنجاة.


نوستالجيا وصراع
 الكثير من القضايا الأخرى؛ طرقها الكاتب عبر ومضاته مثل: الفقر، القسوة، الفقد، الوحدة، الميكافيلية، الفراق، غياب القدوة، الاغتراب، التلون والنفاق الاجتماعي. وهيمنت على المناخ العام للسرد؛ حالة من الرفض والغضب الضمني، كثيمة رئيسة جمعت بين قصص المجموعة.

وأسفرت عن نزوع حكمي؛ نال أحيانًا من مساحة الحدث. غير أن السقا أجاد من ناحية أخرى اقتناص لحظات صادمة، مرر عبرها مفارقات عديدة، تشى بهول ما يزخر به الواقع من مفارقات وتناقضات، فالسرقة تحدث فى المسجد، والمشردون يملأون شوارع المستقبل المتطورة.

وسجادة الصلاة تُصنع فى الصين. وغير ذلك من مفارقات، كانت وسيلة الكاتب لتجسيد أشكالٍ متنوعة من الصراع بين الخير والشر، البساطة والتعقيد، الوفاء والغدر، الماضى والحاضر. وعززت تلك الثنائيات المتقابلة، حالة من النوستالجيا والحنين إلى بساطة الماضي، دفء الوطن، ووفاء الحبيب.


استخدم السقا اللغة الفصحى، التى اتسمت بالسلاسة، وطعّمها فى غير موضع بلهجات عامية مختلفة، تنوعت بين المصرية والشامية. ورغم ما اعتمده من اختزال واقتصاد لغوى يتناسب مع قوام الومضة، التى لا تتجاوز سطورا قليلة، فإن هذا الاقتصاد لم ينل من شاعرية اللغة، وعذوبتها، وجمالية الصورة، بل إنه عمد إلى تكنيك سينمائى ولغة مشهدية تتيح للقارئ إدراك مفردات الحدث.

ورؤية الشخوص، فانسكب عبر السطور الرصاص الحى والدماء اللزجة، المرايا والوجوه المشوهة، الشوارع والبيوت. كما إنه أزال عن الشعور ضبابيته، وجسد ملامحه الغائبة، فأكسب الوحدة ملمسًا ومنح للألم وجهًا وللفقد هيئةً ورائحة.

ولم تمنع الواقعية التى اتسم بها النسيج من بروز لمحات من الفانتازيا؛ عززت رؤى الكاتب وزادت من جمالية السرد «سمعتْ صوتًا من داخل الكهف، دخلتْ فوجدت ذهبًا وجواهر، ناداها الصوت.. خذى ما شئت ولا تنسى شيئًا فالكهف سيغلق فور خروجك وإلى الأبد» ص 34.

ذاكرة الطفولة
كل ما يمر به الإنسان يتصل بطريقة ما بطفولته، حتى وإن توارى ميراثها فى مناطق بعيدة من اللاشعور .. هذه الرؤية برزت فى كثير من قصص المجموعة، التى أكد الكاتب عبرها أن الطفولة وإن انقضت، فهى حاضرة دائمًا فى الذاكرة، وابدًا لا تنقضي.

وأنها تظل تطل برأسها فى مراحل أخرى من العمر، ما يجعلها تحمل وحدها التفسير الأصدق للعنف، والعزلة، واليتم، وانعدام الثقة، وتلك الجروح التى لا تلتئم. ورغم ما عالجته الومضات من مشكلات عصرية، فإن ثمة عبق تراثى فاح من طيات النسيج، بدا عبر استخدام الكاتب صيغًا وصورًا ومفردات تراثية «الحاكم، الحارس، القلعة»، وكذا عبر محاولاته المستمرة لاستخلاص العبر، تلك التى تدافعت عبر الومضات صراحةً أحيانًا وضمنًا أحيانًا أخرى.

ولتحقيق هذه الغاية لجأ السقا مرات كثيرة إلى السخرية، التى أتاحت له بلوغ العبرة من القص، وإنعاش النسيج، وإكسابه مزيدًا من الجاذبية فى الوقت نفسه. «صفق الركاب باحترام لدماثة أخلاق اللص، فيما فقد صاحبنا النطق، عندما طلب منه أحدهم أن يشكر اللص على موقفه النبيل» ص 37.


 وكما أنعش الكاتب نسيجه بالسخرية، أكسبه مزيدا من الجاذبية باستدعاء أجناس أدبية أخرى مثل بعض الأغاني، التى جاء استدعاؤها موظفًا فى خدمة الحدث «وفى أحد الأعوام كتب لها أغنية، قال فى مطلعها: (بودعك، وبودع الدنيا معك...) لم يكتب شيئًا بعدها، وفى هذا العام رحل!» ص 65، وكذلك فى خدمة الصبغة الرومانسية، التى غلفت بعض الومضات.


التناص والرمز 
اتكأ الكاتب على المنهج الرمزى فى تمرير الكثير من الإسقاطات الاجتماعية والسياسية والفلسفية، فمنح الرمز؛ البطولة الأولى عبر أحداث، اتسمت بالتنامى الدرامى السريع، ليجسد من خلالها مظاهر من القمع والفساد وانهيار منظومة القيم والانحطاط الأخلاقى والتدين القشري.

ولجأ إلى التناص المباشر مع بعض الرموز الإبداعية مثل المازني؛ لا ليزيد من قوة وجمالية نصوصه وحسب، وإنما وظف هذا التناص أيضًا فى خدمة الحدث. ولجأ كذلك إلى التناص غير المباشر مع الموروث الدينى فى قصة خلق حواء من الضلع الأيسر لآدم، ليمرر رؤاه حول قيمة المرأة، ووحشة الرجل دونها «هكذا كان أبوك، جنته من دون أمى موحشة».

ص 106. وقد مرر الرؤية ذاتها مرات عديدة، عبر حضور واسع للمرأة فى مساحة شاسعة من ومضاته، انتصر لها خلال تلك المساحة، وأبرز جدارتها وقيمتها؛ أمًا وابنة وحبيبة. وقد عمد إلى تنكير شخوصه بما يتسق مع مقتضيات القصة القصيرة جدًا، إلا مرة واحدة أورد عبرها اسم إحدى بطلاته «خلود» ليؤكد رؤيةً مررها عبر تلك الومضة؛ مفادها أن الكثير من الشعور ينفد وينقضى بالتقادم، مادامت القلوب بلا جيوب!


حظى الحيوان أيضًا بحضور مميز فى أكثر من ومضة، لا سيما الدجاج، والأسد وكذلك الكلب الذى استخدمه الكاتب أحيانًا كأداة رمزية، فى حين استخدمه فى أحيان أخرى بصورة مباشرة، مرر عبرها واقعًا مؤلمًا من امتهان الإنسان للحيوان، فى مقابل وفاء هذا الحيوان لصاحبه.

 

ومرر تناقضًا آخر بين الشرق والغرب فى التعاطى مع الحيوانات. وعزز رؤاه باستدعاء قصة هاتشيكو، أشهر كلب فى اليابان الذى ظل ينتظر صاحبه -بعد وفاته- فى المكان ذاته، على مدار عشر سنوات دون انقطاع. 


ورغم ما سيطر على النسيج من ألم وحزن شفيف، تسلل الأمل مرارًا عبر مساحات من الجمال، ظلت تناهض القبح وتجد طريقها للظهور،  فالظلمة والضوء لا يستويان، ومن يرعى النور يجد العالم رهن يمينه، حتى العصافير؛ ستبدأ تغريدها -حتمًا- من شرفته كل صباح.

اقرأ ايضا | محمد سليم شوشة يكتب: بلاد الطاخ طاخ.. ذاكرة المهاجرين المثقلة بالمرارة والألم