عسل في الكوز

عبد الصبور بدر يكتب: شاي عم حشمت

عبد الصبور بدر
عبد الصبور بدر

كلما ذهبت لزيارة صديق في القاهرة، يطلب لي شاي ثقيلا، على اعتبار أنني صعيدي، وكل الصعايدة يحبون الشاي الثقيل، ويتعجب حين أقول له: أنا لا أشرب الشاي أساسا.

بدأت القصة منذ أن كنت جنينا، أخبرتني أمي أنها أصيبت بكراهية الشاي الذي تعشقه طيلة فترة حملي بدون سبب، وبمجرد أن وضعتني وتخلصت مني، أول شئ فعلته أنها طلبت "كنكة" شاي، ظلت تسكب منها كوبا بعد آخر وتفرغه في جوفها لتعوض حرمانها منه على مدار 9 أشهر. عادت أمي لمشروبها المفضل، وبقيت على خصومة مع الشاي، أنفر منه، ولا أطيق رائحته، ولكن الأمر كان يختلف تماما في بيت عم "حشمت عقل"، كنت أحتسيه باستمتاع وكأني شرّيب وصاحب مزاج!

كان عم حشمت من كبار تجار البلح في النجع، يذهب إلى القاهرة مرة كل عام في موسم  رمضان، يبيع المحصول لأهل العاصمة، ويعود محملا بالهدايا إلى أولاده، يمتلك بيتا من الطوب الأحمر، يطل على شارعين، يفتح أبوابه للضيوف على مدار اليوم.

 يجلس عم حشمت في السقيفة يشرب الشيشة، وكلما انتهى من حجر معسل يعد حجرا جديدا ويرص عليه "الجمرات" -  بمعلمة – وهو ينتزعها بـ"الماشية" من أخشاب السنط المشتعلة أمامه داخل قروانة، ويعزم على الرايح والجاي بأن يتناول معه الشاي الأسود الذي يعده في كنكة مدفوسة في النيران.
 
وشاي عم حشمت تفوح منه رائحة طيبة، وطعمه أحلى من قصب الحاج سمري، وقعدته ميتشبعش منها، تجمع الغرباء والأقرباء، الكبار والصغار، لا تسمع فيها إلا الحكايات الجميلة المُشوِّقة، وتضحك فيها من قلبك، وتتمنى ألا تنتهي أبدا.

 وكان عم حشمت يمتلك شيشة – ربما يكون قد جلبها معه من القاهرة - في الوقت الذي يشرب فيه غيره من أهالي النجع المعسل في "الجوزة"، وابتسامته لا تفارق وجهه في الوقت الذي لا يتخلى فيه أهالي النجع عن التكشيرة، وكان رجلا حكيما مُصلحا، تنطفئ المعارك إذا حضر، ويعم السلام  شوارع البلدة إذا مشى فيها، يحب الأطفال ويلاطفهم، ويحترم الشباب وينحاز إلى أفكارهم، ويقف في وجه كل من ينتقص منهم، ومندرة بيته بمثابة صالون لشباب العائلات يجتمعون فيها مع أولاده كل مساء وهم يشربون الشاي الموزون المُعتبر. 

حين كنت صغيرا اعتقدت أن عم حشمت ملاكي الحارس، أرضه بجوار أرضنا، وبمجرد أن يصل إليه صوت أبي يتشاجر معي لأي سبب يأتي على الفور للدفاع عني، وقبل أن يسمع اللي حصل يتهم أبي بأنه "راجل وحش" ويقول له: "في حد معاه ابن زي عبصبور ويتخانق معاه.. يا شيخ روح!"

يحاول والدي أن يشرح له أنني المخطئ، ولكنه يرفض سماعه، ويسخر منه، ولا يتعاطف معه أبدا، ويظل ثابتا على موقفه مهما ذكر له أبي عدد المصائب التي ارتكبتها، ويُضيِّق عليه الخناق، حتى يشعر أبي بالذنب، وفي النهاية يمسك عم حشمت يدي، ويقول لي:  "تعالى معايا.. سيبك من الراجل ده!"

بمجرد أن نبتعد عن والدي، ويضمن أنه لن يسمعنا،  ينفجر قائلا: " إيه اللي بتعمله مع أبوك ده؟!.. إنت عيّل متنفعش!!.. في حد معاه أب حلو بالشكل ده وميسمعش كلامه..  إنت مش عارف أبوك ده بيتعب قد ايه عشانك؟!". ويأمرني أن أعود لأبي فورا وأعتذر له وأُقبّل قدميه ويديه.

أعتذر لوالدي وأطلب منه أن يسامحني ويصفح عني، فينظر إليه عم حشمت ويقول له:  "عشان بس تصدقني لما أقول لك إنك راجل وحش.. شوف ابنك - ربنا يحرسه - بيراضيك كيف.. وانت بتفتري عليه إزاي!"

في عزاء عم حشمت كان قلبي يعتصر ألما على فراقه، بكيته وأنا أطلب له من الله الرحمة والمغفرة، وبكيته وأنا أُردد "الدوام لله يا والدي".. مات الملاك الحارس منذ سنوات طويلة، إلا أن صوته ما يزال يرن في أذني، وملامحه لا تفارق عينيّ، وطعم شايه السكر في فمي.