من وحى الفيلم الهندى «وعاء الغذاء The Lunchbox»

تفاصيل ما حكته العمة ديشباندى عن زوجها المرحوم

ما حكته العمة ديشباندى
ما حكته العمة ديشباندى

بقلم: حجاج أدّول

ديشباندى عجوز سكنت فى الطابق الذى يعلو طابقى. فصرت أناديها عمتى. زوجها مات منذ سنوات قبل أن تأتى وتسكن فى نفس بيتى. زياراتنا نادرة لبعضنا، لكن صداقتنا توطدت عن طريق نافذتى المطبخ لكل منا، فهما فوق بعضهما تماما، وتطلان على مساحة واسعة. هى تسلى نفسها بالنظر من تلك النافذة وفتح حوارات معى كل صباح، وأكون أنا مشغولة بغسل أطباق وكاسات طعام إفطارى أنا وزوجى الذى ذهب لعمله، وطفلتى التى ذهبت لمدرستها، النافذة على يمينى. أعمل وأستمع لحكى العمة ديشباندى. تحادثنى فى حميمية وأنا لا أراها ولا هى ترانى! تصف لى بعض أنواع الطعام وتحكى بعض حكايات حياتها التى امتدت. وعدتنى كثيرا بأن تحكى لى حكاية زوجها ومروحة السقف التى توقفت فتوقف قلبه معها. وكل بضعة أيام أحثها لتحكى حكاية زوجها ومروحة السقف، لكنها تنزلق لحكاية أخرى أو وصفة طعام رائعة تستحق أن أسمعها منها. كل صباح على هذا المنوال، حتى كان صباحا منعشا من صباحات الربيع، فإذا بها تحكى لى حكاية زوجها ومروحة السقف.. حكت.

أنا وهو كنا من شارع واحد فى حى متوسط المكانة. أحببته كما أحبته كل الفتيات المراهقات وقتها، كما تمنته بعض السيدات المتزوجات، فهو وسيم ورشيق الجسم أنيق. وفوق كل هذا مشهور بالخلق الطيب. مكانته فى الشارع والشوارع الموازية، مكانة محترمة لأنه محترم ويحافظ على هيبته. حدث المأمول وخطبنى وتزوجنى فانتقلت من بيت والدى لبيت عائلته الواسع. لم ننجب. انزعجنا لفترة، ثم تناسينا، فقد أحببته حبا جما وهو أيضا بادلنى حبا بحب. سنوات ونحن فى سعادة، حتى أتى علينا يوم كدرنا وعذابنا. سكنت شارعنا عائلة سيئة الخلق. لها ابن شاب قوى الجسد بشع المنظر وضيع. هذا البشع من أول يوم كره زوجى فزوجى عكسه تماما. زوجى كما حكيت لك جميل من كل النواحى نبيل، وهذا الشاب بشع من كل النواحى وضيع. هذا الشاب البشع نال النفور من سكان الشارع كلهم. فتعمد هذا البشع يوما أن يتصادم مع زوجى بسبب تافه، وأخذها فرصة فضرب زوجى ضربا مبرحا بعد أن أسقطه أرضا. لم يستطع أى من رجال الشارع أن يحمى زوجى، فالعائلة الحقيرة عائلة هذا الشاب البشع، أتت متنمرة لأى من يقترب. أسرعت صارخة واقتحمت العائلة المجرمة. ألقيت بنفسى على زوجى الملقى أرضا دامى الوجه ممزق الملابس. ركلات البشع كانت تضرب فىّ بقسوة، لكنى تحملت حماية لحبيبى النبيل. لم يتوقف البشع عن الركل وهو يسب زوجى سبابا مقذعا متعمدا تحقير زوجى النبيل.

شابان حملا زوجى وعادا به لبيتنا. زوجى المضروب المهان أغمض عينيه حتى لا يرى مدى ما فيه من إهانة. من لحظة وضعه على الفراش، تأكدت أن زوجى النبيل طُعن فى كرامته طعنة دامية لن يفيق منها حتى الممات. بقى شهورا فى البيت لا يغادره، ليس له سوى الجلوس صامتا على مقعد بعيد عن أى شرفة أو نافذة. ترك عمله وصرنا نعيش على ريع ثلاثة بيوت ومحلين يمتلكها. عدد من الشباب انتقموا لزوجى وضربوا الشاب البشع ضربا مبرحا، واضطروا عائلته سيئة السمعة لترك شارعنا. 

ذات صباح إذا بزوجى يسقط من مقعده! ومن يومها بقى سنوات ممددا على فراشه فى غيبوبة عن الدنيا. غيبوبة رغم أن عينيه نهارا مفتوحتان تنظران إلى السقف. وفى الليل تنغلق العينان لتنفتحا فى الصباح الباكر لتسيل قطرات دموع وأنا أسقيه كوب العصير الذى لا يتناول سواه. فى النهار يقضيه ناظرا لمروحة السقف وهو يتنفس بالكاد. لا يتكلم ولا يأبه بى ولا بزيارة والديه اللذين ماتا حزنا بعد سنة من غيبوبته. 

وتمضى السنون على هذه الحال وأنا مع زوجى المحترم النبيل الذى لم يتحمل ما ناله من إهانة. أسقيه كوب العصير صباحا وكل مساء أمسح كل جسده بقطعة قماش مبللة وأقص شعره كل أسبوع. يئس الأطباء من علاجه، فرضيت أنا بالبقاء طوال سنواتى المقبلة مراعية لزوجى الذى أحببته وأحبنى.

ذات نهار انقطعت الكهرباء عن شارعنا فتوقفت مروحة السقف. وإذا بزوجى يتشنج وهو يراقب المروحة المتوقفة! زوجى صار يزوم وينتفض جسده حتى كاد أن يسقط أرضا من فراشه. أمسكته بصعوبة وأنا أصرخ فزوجى حبيبى سيموت. من حسن حظى أن الكهرباء عادت سريعا وعادت مروحة السقف للدوران فعاد زوجى للهدوء وبقى يراقب المروحة حتى ذهب النهار وأتى الليل، وبقى زمنا من الليل يراقب مروحته على ضوء اللمبة المضاءة، يخشى أن تتوقف مرة أخرى.

اشتريت مولد كهرباء صغير وتم تركيبه فى منوَر البيت، هذا حتى أستخدمه إن انقطعت الكهرباء. واستمر الحال على هذا المنوال عدة سنين إضافية. وفجأة صباح يوم وبمجرد أن تناول كوب العصير، إذا بزوجى يترك الفراش ويغلق مفتاح كهرباء المروحة وبقى ناظرا لها حتى توقفت تماما. أنا أراقبه مذهولة وهو يأتى بمقعد ويقف عليه. يفك أجزاء المروحة ويناولها لى لأضعها على منضدة. ثم يهبط ويشير لى بإحضار قطعة قماش، فهو لا يتكلم. انشغل بتنظيف المروحة ساعات. ثم أعادها لتدور فى نعومة. يعود لفراشه ويستلقى على ظهره ويبقى مراقبا المروحة فى رضاء باطنى. وفى الصباح التالى استيقظ وتناول كوب العصير. فهمت من إشارته أن أحضر له زيت لتزييت المروحة. بعد تزييتها وإعادتها للسقف. عاد هو للاستلقاء ومراقبتها. وهكذا ثلاث سنوات بالكمال والتمام. 

وفى نهار يوم شتوى معتم. انقطعت الكهرباء. فزام زوجى فزعا. أسرعت إلى مولد الكهرباء وضغطت على مفتاحه ليعمل فلم يعمل! أعدت المحاولة مرة وثلاثة وستة بدون فائدة. أحاول وأنا فى رعب، زوم زوجى يصل إلىَّ متصاعدا، ثم يتحول الزوم لصراخ وأنا أيضا صرت أصرخ رعبا، فأتت سيدة الجيران مع ابنتها. أسرعنا لزوجى الذى سقط عن فراشه وصار جسده ينتفض متشنجا والرغاء يسيل من فمه. ألقيت بنفسى عليه لأوقف انتفاضاته وصحت فى ابنة السيدة أن تسرع لتحاول تشغيل مولد الكهرباء. المولد أبى أن يعمل فمات زوجى.

كنت قد توقفت عن غسل الأطباق وأنا أنصت لها. لا ترانى ولا أراها، فقط أستمع لصوتها الذى تحشرج. أحس بحزنها العميق. استأذنت العمة ديشباندى لأنها متعبة وابتعدت عن النافذة. تركت ما أنا منشغلة به وصعدت إليها وبقيت معها وهى ممددة على فراشها حزينة تسيل دموعها. حين جلست بجوارها اعتدلت واحتضنتنى وقد تحول بكاؤها لصراخ وكأن زوجها مات توا.