الطوفان العظيم فى الميثولوجيا القديمة

نوح والفُلك الخاص به للفنان، تشارلز ويلسون، 1819م
نوح والفُلك الخاص به للفنان، تشارلز ويلسون، 1819م

محمد يادم

حينما كنت أتصفح الدراسة التاريخية عن الإله نركال، إله الصحراء وسيد العالم السفلى فى الميثولوجيا السومرية القديمة، والتى قامت بها هيفاء فاضل كاظم؛ وجدت نفسى أمام ثلاث روايات مختلفة عن الطوفان فى العصر البابلى والسومرى، تحديداً رواياتان تعودان للعصر البابلى، وأخرى للسومريين. ومن هنا كانت الشرارة التى قادتنى لمعرفة أن طوفان نوح الذى ذكر تفاصيله سفر التكوين، وأيضاً آيات القران الكريم فى سور متعدده، كـ هود، والذاريات، والعنكبوت، وغيرها، حتى أفرد الله له سورة بإسمه تحكى تفاصيل الوضع فى عهد نبى الله نوح من البداية حتى النهاية. لم تكن هذه هى القصص الوحيدة فى العالم الشاسع التى تم تناولها وتناقلها حول حدث مهم فى حياة الأرض ومن عليها؛ ألا وهو الطوفان العظيم.. حيث يوضّح لنا جورج سميث، المتخصص فى الآثار الآشورية، والذى يُنسب له إكتشاف وترجمة ألواح ملحمة جلجامش فى مكتبة نينوى، وهو أيضا مكتشف مكتبة نينوى التى بناها الملك الآشورى آشوربانيبال؛ أنّه فى الميثولوجيا القديمة تواجدت حكايات وأساطير عن طوفان عظيم أغرق الأرض ومن عليها: فى الميثولوجيا الإغريقية،والميثولوجيا الهندية القديمة، والميثولوجيا الإفريقية، وأيضاً فى مصر القديمة، إلى جانب أمريكا الوسطى وكولومبيا..

يحكى لنا سفر التكوين:

«وَقَالَ الرَّبُّ لِنُوحٍ:ادْخُلْ أَنْتَ وَجَمِيعُ بَيْتِكَ إِلَى الْفُلْكِ، لأَنِّى إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِى هذَا الْجِيلِ. مِنْ جَمِيعِ الْبَهَائِمِ الطَّاهِرَةِ تَأْخُذُ مَعَكَ سَبْعَةً سَبْعَةً ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَمِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِى لَيْسَتْ بِطَاهِرَةٍ اثْنَيْنِ: ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَمِنْ طُيُورِ السَّمَاءِ أَيْضًا سَبْعَةً سَبْعَةً: ذَكَرًا وَأُنْثَى. لاسْتِبْقَاءِ نَسْل عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ. لأَنِّى بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَيْضًا أُمْطِرُ عَلَى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً. وَأَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ كُلَّ قَائِمٍ عَمِلْتُهُ. فَفَعَلَ نُوحٌ حَسَبَ كُلِّ مَا أَمَرَهُ بِهِ الرَّبُّ.

«سفر التكوين الآية (1-5)

نستطيع هنا وضع النصوص القرآنية جنباً لجنب مع نص سفر التكوين، فنخرج بحقيقة مفادها؛ أنّ نوحاً عليه السلام، بعدما انتشر بين قومه الفساد وشرعوا يخرّبون الأرض، حكم الله عليهم بالهلاك .. فكان طوق النجاة للمؤمنين الصالحين، مع الرجل العابد الزاهد نبى الله، فى الفلك التى بناها وساعده فيها آخرون، الذين كانت مساعدتهم له مقابل أجر حصلوا عليه بانتهاء بناء السفينة، وليس لوجه الله. ثم أمره ربه أن يأخذ من كل زوجين إثنين، لن ندخل فى الجدل المثار هنا هل استطاع نوح أن يأخذ معه من كل كائن حى على الأرض زوجين؟ أم هل كان من قريته فقط؟ وهل كان الطوفان فى الأساس على قرية نوح فقط وليس على كل مكان فى الأرض؟ هل هم ثلاثة ذكور وثلاثة إناث والسابع مفرداً لتقديمه قربانا للرب أو حتى لتناوله كطعام لمن هم فى السفينة؟.. لكن، على أى حال رست السفينة بسلام على جبل أرارات كما يذكر سفر التكوين. 

فى الميثولوجيا الهندية، توجد أسطورة مشابهة مذكورة فى عدد من المصادر الهندية القديمة مثل الفيدك Vedic)) والبوراناس (Puranas) والماهاباهاراتا (Mahabharata)؛ تحكى عن رجل عابد زاهد يُدعى «مانو فيفاستا»، هذا الرجل يتعبد لآلاف السنين تحت سفح جبل «مالايا»، له من الأولاد ثلاثة هم تشارما، شيرما، يابيتى (يمكننا مقارنة ذلك بأولاد نوح الثلاثة سام، حام، يافث). وفى مرة من مرات تعبده خرج له الرب براهما، وأبدى إعجابه الشديد بزهد الرجل وصلاحه وتقواه (يمكن المقارنة بينه وبين نوح؟)، ثم أشار عليه بأن يطلب منه ما يريد وسيحققه له على الفور. ولكن، مانو وعلى عكس المعتاد طلب منه أن يريه كيفية الخلاص من الهلاك القادم لا محالة (وهنا اختلاف بسيط بينه وبين طوفان نوح؛ أن طوفان نوح عقاب إلهى، بينما فى الميثولوجيا الهندية فهو كارثة طبيعة ستحدث لا محاله). بالفعل أرسل له الإله «فيشنو» على هيئة سمكة صغيرة أخذها مانو وقام بالإعتناء بها حتى امتلأ جسدها واستطاعت احتلال المحيط، ثم أشارت عليه أن يبنى فلكاً، ليهرب به من الدمار القادم، وأن يضع فيه من كل شيء حى ذكر وأنثى، وأيضا الحكماء السبعة (يمكننا النظر فى سورة نوح التى حددت أسماء الأصنام الخمسة اللائى كان يعبدهم قومه ولم يرغبوا فى ترك عبادتهم لعبادة الله وحده؛ وهم وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، الذين كانوا من قبل حكماء وصالحين ولكن بمرور الأيام عبدهم قومهم) .. وأنها سوف تأتيه على هيئة سمكة بقرون يربط فيها الفلك لتبحر به بعيداً عن كل هذا الهلاك. وفى النهاية رست السفينة على جبل المالايا.

فى الميثولوجيا الإغريقية، هناك أسطورة تحكى قصة شخصين هما ديوكاليون (Deucalion) وزوجته بيرّا (Pyrrha)، وكانا زوجين صالحين حكيمين، حيث يعتبر ديوكاليون ابن بروميثيوس (الذى كان محباً للبشر على عكس الآلهة، والذى حسب الأساطير الإغريقيه فبروميثيوس هو من عهد إليه زيوس بتشكيل البشر على هيئتهم، وإلى أخيه بتشكيل الحيوانات. فأحب بروميثيوس البشر وأعطاهم فنون العمارة والنجارة، وسرق النار من أجلهم؛ إشفاقاً عليهم من الموت من شدة البرد، فسرق أحد الصواعق الخاصة بزيوس من إله الحدادة هيفايستوس، ووضعها فى جذع شجرة مجوفة، ونقلها للبشر).. ولما علم بروميثيوس بما سيحل على الأرض من هلاك عظيم، بسبب بُعد البشر عن ما خلقوا له من تعمير للأرض وأصبحوا يخربونها.. أخبر ابنه والذى بدوره أخبر زوجته وصنعا فُلكاً لكى يستطيعا النجاة من الطوفان به. وحل الطوفان بالأرض، فظلت السماء تنهمر ليال وأيّام عديدة، وأخذت مدة طويلة حتى شربت الأرض ماءها وجفّت، أو تبخّر للسماء. فى هذه الاثناء ظلت دموع الإثنين تنهمر حزنا على فراق أهل الأرض وموتهم، مما حرك مشاعر الإلهة «هيرمس» والتى نزلت إليهما وقالت: لا تقلقا واحملا عظام أمكما وألقياها خلفكما ولا تنظرا وراءكما.» فى كناية عن حمل صخور الأرض (عظام الأم)، فحمل كل منهم ما استطاع من صخور؛ وألقاها خلفه فتحولت صخور ديوكاليون إلى رجال وسيمين وحكماء، وصخور بيرّا إلى نساء جميلات عادلات.. 

فى الميثولوجيا السومرية والبابلية، تحكى لنا هيفاء فاضل كاظم فى دراستها التاريخية عن الإله ناركال؛ حكاية الطوفان من وجهة النظر البابلية فى قصتين، والسومرية فى قصة واحدة. حيث فى النسخة السومرية: نجد «زيوسيدرا» قابع فى سفينته هو ومن معه بعد أن اكتسح الطوفان الأرض ومن عليها لسبعة أيام متتالية، ثم بانتهاء الطوفان تبزغ شمس الحياة من جديد ويخرج ومن معه من السفينة لإعمار الأرض، ويقومون بتقديم الذبائح ونحرها للآلهة، التى تكافئه على إنقاذه للبشرية من خلال منحه الخلود، وإسكانه فى بلدة على بحر دلمون فى الشرق. 

بينما بطلا النسخة البابلية التى ذكرت فى سطور ملحمة جلجامش، حيث «أتراخسيس» والذى تذكر قصته فى ثلاثة ألواح بلغ عدد أسطرها 1245 سطراً. وتتناول الأسطورة خلق البشر للعمل مكان الآلهة والقيام بمهامهم، فى إصلاح الأرض وإعمارها. حيث قرر الآلهة الثورة على كبير آلهة بابل وهو «إنليل» وطالوه بإيجاد بديل عنهم، فكان خلق البشر. لكن، بإزدياد أعداد البشر سببوا ضجيجا وأرقاً للآلهة وحرموهم النوم والرّاحة، فما كان من إنليل إلا إرسال الأوبئة، ثم بعد فشلها فى إنقاص عددهم؛ أرسل عليهم الطوفان. وهنا نجد نص آخر يروى فيه أنّ إله الحكمة فى الميثولوجيا البابلية «إنكى إيا» قرر إخبار رجل الطوفان الذى هو عند السومريين زيوسدرا وفى البابليين اتراخسيس أو أوتنابشتم؛ ولكن كل ذلك بدون إفشاءه سر الآلهه حتى لا يتعرض للعقاب.. فقال له: « يا جدار ، استمع لي. يا جدار القصب، استمع لي. هدّم بيتك وابن سفينة. انبذ المال وانقذ النفس واحمل فى السفينة بذرة كل المخلوقات الحية. واجعل عرض السفينة مساوياً لطولها». ولكن الرجل لم يكن يعرف كيف يبنى سفينة فرسمها له إله الحكمة على الأرض. وانتهى من بناءها فى سبعة أيام.. ثم أصاب الأرض الطوفان، مياه عارمة فاضت من كل مكان ولم تترك أخضراً ولا يابساً إلا وأهلكته. بينما من فى السفينة كانوا آمنين، كما لو أنّهم صغار السمك فى البحر الواسع.. 

وأخيراً وليس آخراً، تتشابه الحكايات، والأساطير، والخرافات.. والحقائق تتداخل فيما بينها بسبب اختلاف الزمان والمكان ونقل الرواية الحقيقية من فم لآخر، يضع كل واحد منهم فيها مجهوده الخاص وطريقته التى تظهر له وحده، على أنها هى الطريقة المثلى فى نقل الرواية التاريخية.. لذا فإن من الضرورى قراءة الأساطير التاريخية بتمعن شديد لملاحظة أوجه الشبه بين القصص التى جاءت بها الديانات السماوية فى كتبها، وبين ما تثيره تلك الأساطير القديمة من دغدغة لمشاعر الحميّة من نقل للحكاية الرئيسية وتحويرها حول شخص بعينه، كما هنا مثلا حيث سيكتسب أيا من زيوسيدرا فى الحكاية السومرية أو اتراخسيسفى الحكاية البابلية أو مانو فى الحكاية الهندية، قوة ومركزا سياسياً يؤهله لاعتلاء عرش الحكم، فهو المختار من الآلهة.