30 عاماً على قائمة الاغتيال l سلمان رشدى.. المؤلف كعدو للعالم

سلمان رشدى
سلمان رشدى

بسمة ناجى

 في اليوميات التي نشرت بعد وفاته، وصف شارل بودلير الأديب بأنه عدو العالم. واجه بودلير ذاته حملة شرسة وهجومًا حادًا من المثقفين الفرنسيين أودت به إلى المحاكم فور صدور ديوانه «أزهار الشر» في 25 يونيو 1857، واضطر لحذف 10 قصائد منه، بعد اتهامه بإهانة الدين المسيحي والدعوة للانحلال الأخلاقي.

     ربما لا يكون سلمان رشدي أحد كتابك المفضلين، لا ترغب في شراء كُتبه أو لا تُثير عوالمه اهتمامك مُطلقًا، لكنه يواصل تذكير كل مُبدع بأنه عدو مثالي للعالم، قد يطارده حكمًا بالإعدام بسبب كتاب. يصف المسلمون المتشددون رشدي بأنه معادي للإسلام، ويحذر هو دومًا من تراجع حرية التعبير في العالم وفي الغرب تحديدًا مع تصاعد الدعوات المناهضة للمهاجرين، فيصفه البعض هناك بأنه دعائي منافق وانتهازي.

     لأكثر من ثلاثين عامًا، عاش رشدي تحت التهديد بسبب كتاباته. أُجبر على الاختباء لإثنى عشر عامًا بعد نشر روايته آيات شيطانية. وبعد حياته في الخفاء وتحت حراسة مشددة، عاود الظهور والتحرك بحرية وممارسة الحياة بشكل شبه طبيعي بين بريطانيا والولايات المتحدة، وصار يظهر بشكل منتظم في الأماكن العامة في جميع أنحاء نيويورك دون وجود أمني واضح. بجانب عمله الأدبي، يُعد سلمان أحد أبرز الأصوات المدافعة عن حرية التعبير الفني في العالم، وكان على وشك إلقاء محاضرة في هذا الصدد نهار الجمعة 12 أغسطس في معهد تشوتوكوا، غرب نيويورك، حين تم تبديد أي شعور بأن التهديدات لحياته كانت شيئًا من الماضي بصعود شاب في الرابعة والعشرين إلى خشبة المسرح وطعنه عشر طعنات في رقبته وصدره.

     بدأ الجدل بعد نشر رشدي روايته الرابعة، آيات شيطانية، عام 1988. تدور أحداث الرواية حول صديقين مسلمَين هنديين يعيشان في إنجلترا. يذكر الرافضين للرواية أنها تعيد تصور أجزاء من حياة النبي محمد «صلى الله عليه وسلم»، وأن تصوير الكتاب للإسلام مهين. في حين علق سلمان أن الكتابة عن الإسلام تحديدًا لم تكن غرضه من الرواية، وذهب البعض في التأويل بكونها تنتقد بريطانيا تاتشر. حُظر بيع «آيات شيطانية» في عدد من البلدان، بما في ذلك بنجلاديش والسودان وسريلانكا والهند، حيث ولد السيد رشدي. مُنع من دخول البلاد لأكثر من عقد. وصدرت في العربية بعد قص أكثر من نصفها ولم تحمل اسم مترجم.

 في عام 1989 ، دعا الزعيم الإيراني آية الله الخوميني إلى اغتيال رشدي وأفتى بإهدار دمه مع رصد مكافأة لقاتله من قِبَل مؤسسة 15 خرداد الثورية الإيرانية، وصلت إلى 2.5 مليون دولار عام 1997، و3.3 مليون دولار في عام 2012.

     رفضت إيران اعتذارًا أعلنه رشدي بعد الفتوى بأربعة أيام، أبدى ندمه عليه لاحقًا.

     شقت هذه الفتوى دربًا دمويًا لتمضي عبره الرواية، إذ لقي الكثيرون حتفهم أثناء الاحتجاجات ضد نشرها، بما في ذلك 12 شخصًا سقطوا قتلى خلال احتجاجات في مومباي في فبراير 1989 وستة قتلوا إثر أعمال شغب أخرى في إسلام أباد. في سبتمبر 1989، زُرعت أربع قنابل خارج مكتبات في بريطانيا تملكها بينجوين، ناشر كتاب «آيات شيطانية»..

     في يوليو 1991، تعرض مترجم الرواية الياباني هيتوشي إيغاراشي للطعن حتى الموت في طوكيو، كما تعرض المترجم الإيطالي لـ آيات شيطانية إيتوري كابريولو للهجوم والطعن بسكين في شقته بميلانو على يد رجل إيراني وأصيب بجروح بالغة. في أكتوبر 1993، أصيب ناشر الرواية النرويجي ويليام نيجارد ثلاث مرات خارج منزله في أوسلو وعانى من جروح خطيرة.

     تراجعت حكومة إيران في عام 1998، قائلة إنها «لن تدعم أو تعرقل عمليات اغتيال رشدي». ومع ذلك، لم تُسحب الفتوى رسميًا.

     ذكر رشدي، في مقابلة له مع صنداي تايمز في عام 1995، خلال حديثه عن روايته الأحدث حينها «تنهيدة المغربي الأخيرة»، قبل وقت قصير من ظهوره لأول مرة علنًا بعد صدور الفتوى، «أمضيتُ عامين ونصف أتحدث إلى السياسيين، وهذا ليس أحب الأعمال إليّ. ثم أدركت أنه من الحماقة ترك هذا الأمر يعيق ما أحب القيام به فعلًا. عدتُ للكتابة وأردتُ أن أثبت لنفسي قدرتي على استيعاب ما حدث لي وتجاوزه. والآن، على الأقل، أشعر أني استطعت ذلك».

     منذ ذلك الحين، نشر رشدي ثمانِ روايات ومذكراته بعنوان «جوزيف أنطون» (2012) حول السنوات التي عاشها في الخفاء. جاء العنوان من الاسم المستعار الذي استخدمه للتخفي، مأخوذًا من الاسم الأول لجوزيف كونراد وأنطون تشيخوف.

     قال رشدي لـ NPR في عام 2012: «من أغرب جوانب الأمر أن أحدًا لم يتوقع استمراره لفترة طويلة. قالوا، اخفض رأسك لبضعة أيام فحسب. دع الدبلوماسيين والسياسيين يقومون بعملهم، وسيُحَل الموضوع. استغرق الأمر في النهاية ما يقرب من إثنى عشر عامًا. طلبت مني الشرطة ابتكار اسم مستعار، لأنني كنت بحاجة لاستئجار عقارات وما إلى ذلك، وطُلب مني ألا أجعله اسمًا هنديًا. وهكذا، حرمت من هويتي وجنسيتي، فعدتُ إلى الأدب، وهو جنسيتي الأخرى».

     في استهلال كتابه «جوزيف أنطون»، يتأمل رشدي في التطرف من خلال مشهد في فيلم الطيور لألفريد هيتشكوك، يظهر فيه طائر واحد يتصرف بعدائية غير متوقعة من طائر؛ ثم تظهر المزيد من الطيور وتبدأ في مهاجمة الناس، وسرعان ما تغزو الطيور العالم بطريقة غامضة ومرعبة. يكتب رشدي مشيرًا إلى نفسه والصلة بين فتوى إهدار دمه وهجمات الحادي عشر من سبتمبر: «في السنوات القادمة، سوف يحلم بهذا المشهد، مدركًا أن قصته هي المقدمة، اللحظة التي يهبط فيها الشحرور الأول. في البداية، يكون الأمر متعلقًا به فقط؛ فردي، خاص، محدد.لا أحد يميل إلى استخلاص أي استنتاجات منه. سوف تمر عشر سنوات وأكثر قبل أن تكبر القصة حتى تملأ السماء، كرئيس الملائكة جبرائيل يتصدر الأفق، كطائرات تحلق وتصطدم بالمباني الشاهقة، كطاعون الطيور القاتلة في فيلم ألفريد هيتشكوك العظيم».

     يقول رشدي: «نفس التطرف الذي هاجم تلك المباني في نيويورك وواشنطن، هاجمني. لكن في حالتي، لم يستوعب الناس في الغرب حدوثه، لأنهم لم يتمكنوا من تحويله إلى سردية يفهمونها. وبعد هجمات 11 سبتمبر، أصبحت تلك السردية قصة حياتنا كلها».

     ذكر رشدي في مقابلة أجريت معه العام الماضي، أنه يقاوم فكرة الرجوع بذاكرته لتلك الفترة الزمنية، مضيفًا أنه يكره تعريفه بها. «هذا يدمر فرديتي كإنسان وككاتب. لستُ كيانًا جيوسياسيا، أنا شخص يكتب في غرفة. أرى أهم فوائد كونك كاتبًا أن عملك الدائم هو تأمل حياتك، وتمني أن تفهم شيئًا عن نفسك حين تبلغ هذا العمر المتقدم».

    ذكرت رويترز أن تعليقًا رسميًا على الهجوم لم يصدر حتى الآن من إيران، ومع ذلك، لجأ أنصار الحكومة إلى وسائل التواصل الاجتماعي للإشادة بمنفذ الهجوم واعتباره قصاصًا تأخر، وحذر بعضهم من مصيرٍ مشابه ينتظر أعداء الجمهورية الإسلامية الآخرين، وأثنت عدة صحف إيرانية متشددة على الشخص الذي هاجم وطعن سلمان رشدي. كتبت صحيفة كيهان المتشددة، التي عين المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي رئيس تحريرها، «أحسن المؤمن الشجاع الذي هاجم المرتد سلمان رشدي في نيويورك»، مضيفًا: «يجب تقبيل يد الرجل التي قطعت رقبة عدو الله». كما نشر موقع أخبار إيران عصر السبت الماضي اقتباسا يستشهد به آية الله علي خامنئي دومًا، نصه أن «السهم الذي أطلقه الخوميني لابد أن يصيب هدفه ذات يوم». وكان عنوان جريدة وطن إمروز المتشددة يقول: «سكين في رقبة سلمان رشدي.. كما ظهرت عبارة «الشيطان في طريقه إلى الجحيم» كعنوان رئيسي لصحيفة خراسان اليومية.

     في الوقت نفسه أعلن كُتاب وناشرون إدانتهم للهجوم ووصفه بالاعتداء الوحشي. دَوَّن الناشر النرويجي ويليام نيجارد، الذي أصيب برصاصة في عام 1993 لنشره أعمال رشدي: «لقد دفع رشدي ثمناً غاليًا. إنه مؤلف رائد عَنى الكثير للأدب، والدفاع عن حرية التعبير.» كما ذكر الروائي إيان ماكوان، أن «هذا الهجوم المروع على سلمان يمثل اعتداء على حرية الفكر والتعبير. الحريات التي تقوم عليها جميع حقوقنا وحرياتنا. إن سلمان مدافع ملهم عن الكتاب والصحفيين المضطهدين. وروح كريمة، رجل موهوب وشجاع ولن يثنيه شيء». وجاء تعليق بن أوكري، الكاتب الحائز على جائزة بوكر، في صحيفة ميل أون صنداي، بأن العالم أصبح أقل تسامحًا مع الفروق الشخصية والاختلاف. وأضاف: «نعيش في مناخ يصعب خلاله التعبير عن الذات بحرية أكثر من أي وقت مضى. هذا الهجوم على سلمان رشدي، والذي يخشاه الكثير منا لأكثر من ثلاثين عامًا، جعل الإبداع مسألة حياة أو موت. أطلق الإنترنت العنان لوحوش التصيد وخطاب الكراهية. يتم توجيه التهديدات بالقتل إلى المشاهير والمواطنين العاديين لمجرد التعبير عن رأيهم في أي قضية. تقوم الديمقراطية على الحق في الاختلاف، وعلى احترام حق الناس في تبني المواقف المتعارضة. تحتاج مجتمعاتنا إلى حرية التعبير لحمايتنا من الفظائع التي يمكن أن توقِعها الحكومات على مواطنيه.».

ذكرت مارجريت آتوود في تعليق لها نشرته الجارديان أن رشدي لم يفوت فرصة للتحدث عن المبادئ التي يتبناها في أعماله، وفي مقدمتها حرية التعبير. المفهوم الذي وصفته بأنه يحمي الرأي ونقيضه، لكنه لا يفترض أن يشمل الحق في التشهير، أو الكذب، أو إصدار تهديدات بالقتل، أو الدعوة للقتل. كما وصفت من يقولون، «ولكن كان يجب على رشدي.....»، بأنهم لا يختلفون كثيرًا عن من يعلقون على قضايا الاغتصاب بعبارات مثل «أجل، هذا مروع، ولكن لماذا كانت الضحية ترتدي تلك التنورة الكاشفة». وأضافت «لا يوجد ضحايا مثاليون، كما لا يوجد فنانون مثاليون، ولا يوجد فن كامل. غالبًا ما يجد الأشخاص المناهضون للرقابة أنفسهم مضطرين للدفاع عن عمل ينتقدونه أدبيًا بقوة، ولكن هذا الدفاع ضروري، وإلا سينتهي بنا الأمر جميعًا مستسلمين للاستبداد».