رحلة ثرية لإعادة اكتشاف عالم «تصميم المناظر» في السينما المصرية

محمد الشماع
محمد الشماع

الفكرة البراقة نعمة كبيرة، ينعم بها الله على من يسعى دائماً حتى يصل إلى منطقة إبداعية لم يسبقه أحد إليها. وحتى لو تكرر اقتحام هذه المنطقة الإبداعية، فإن دائماً ما تكون الإضافة هي المدخل الرئيسي للمتعة.

والمتعة التي يحققها كتاب «الذوق الحديث في أثاث وديكور الأفلام المصرية.. 1950 - 1979» للكاتبة والباحثة هبة الصغير، ليست مجرد متعة قراءة كتاب تحليلي لأثاث وديكورات بعض الأفلام المصرية التي صنعت في تلك الفترة، بل هي متعة مواصلة اكتشاف بُعد مختلف من أبعاد العمل السينمائي كعمل متكامل، طغى عليه السيناريو والحبكة أولاً ثم الصورة، ليأتي هذا الكتاب في عصرنا الحديث لينير منطقة أخرى من العملية التكاملية تلك.

رحلة هبة الصغير في كتابها الصادر مؤخراً عن دار «العين» للنشر، ثرية بما يكفي بحثاً متخصصاً مهماً، ولهذا كانت بداية الكتاب هي البحث عن واحداً من رواد فن تصميم المناظر في السينما المصرية، وأستطيع القول (وبالفم المليان) أن متعة البحث عن شخص يمتد أثره مع اختفاء اسمه في عالم التكنولوجيا، لا تضاهيها متعة، وأعتقد أن الشغف والإصرار الذي بحثت بهما الكاتبة عن مهندس الديكور الكبير ماهر عبدالنور وعالمه، هو الذي أوصلها في النهاية إلى ابنتيه كارمن وياسمين، ومن ثم إلى بيته.

استخدمت هبة ما نستخدمه جميعا في بداية أي بحث، التكنولوجيا أو الإنترنت، اسم ماهر عبدالنور في محركات البحث لا يعطي شيئاً، اللهم إلا أسماء الأفلام التي قدمها للسينما وهي أكثر من 300 فيلم، حسب أكثر مواقع السينما المصرية تخصصًا. إلا أن المعلومات عن الشخص أو عن عالمه ومساهماته فيما تبحث عنه الكاتبة بالأساس، لا وجود له.

كانت الخطوة التالية هي البحث في الدائرة القريبة له، أسماء المساعدين من خلال تترات الأفلام التي حملت اسمه، وجدت اسم أنسي أبوسيف، مهندس الديكور الكبير، ومنه إلى الصديق المقرب له المهندس مجدي ناشد، وزوجته إقبال. ورغم ما قاله ثلاثتهم عن عبدالنور، وعن إسهاماته في عالم تصميم المناظر السينمائي، إلا أن شغف هبة استمر، فالتقطت منهم معلومة أن ابنة ماهر عبدالنور، كارمن، كانت خريجة كلية الفنون الجميلة، فكان طرف الخيط هو النقابة والكلية، إلا أن ما قدماه لم يكن مجدياً، فكانت وسائل التواصل هي الملاذ الأخير، حيث استطاعت بالفعل أن تجد حساباً لحفيدة عبدالنور، ومنها وصلت إلى الأختين ياسمين وكارمن، اللذين أدخلاها عالم عبدالنور.

رحلة البحث تستحق أن تروى، كما أن رحلة ماهر نفسه يبدو أنها تستحق أن تروى في كتاب خاص، خصوصاً في تصميماته الهندسية الأخرى التي لم تقتصر على السينما فقط، وعلى ديكورات بيته العابرة للأزمان والأفكار، ووصولاً إلى مسألة وفاته التي اختلفت ابنتاه حول تاريخ وقوعها، وعدم معرفة الكثيرين بها إلا بعد زمن، فقد اكتفت هبة أن تنقل إسهامات الرجل ودوره المهم في عالم المناظر بالسينما (وقد أصابت في ذلك)، ويكفي قول الكاتبة في سطور الجزء الخاص بعبدالنور، أن الوضع قبله كانت تسيطر عليه «رومانسية الصورة» أكثر من واقعيتها، أما بعده فالأمر اختلف.

شرحت هبة في ثاني فصول الكتاب، المفاهيم المتصلة بماهية «الذوق الحديث»، خصوصاً للفترة التي دخلت في نطاق بحثها (الخمسينيات والستينيات والسبعينيات)، إذ سعت أن تبين للقارئ المدارس الفنية التي استلهم منها مصممو المناظر في السينما العالمية والمصرية، أعمالهم، في تلك الفترة، وما قبلها قليلاً. ومن بين المفاهيم ما يرتبط بـ«مدرسة الباوهاوس» التي أسسها المعماري الألماني فالتر جروبيوس سنة 1919، وهي المدرسة التي راعت الوظيفة في الأساس، لا الشكل، حيث أن وظيفة الكرسي في الأساس هي الجلوس، وقد طغت على تصميمات تلك المدرسة ألوان الأحمر والأصفر والأزرق، إيماناً بقدرتها على التعبير. إلا أن تلك المدرسة تم حلها بسبب ضغط الحزب النازي، حيث أن معظم أساتذتها وطلابها كانوا من اليهود. كما بيّنت الكاتبة كذلك كيف انتقلت فنون تلك المدرسة، وغيرها، إلى مصر، حيث ذكرت أن نقطة الالتقاء والتواصل الأساسية كانت مع إنشاء كلية الفنون الجميلة سنة 1908.

اختارت هبة عدداً من الأفلام وأخضعتها لدراستها، أفلام كان مصمم المناظر إما ماهر عبدالنور أو أنسي أبو سيف أو نهاد بهجت، وبعد تحليل الحيز المكاني بعنصريه الديكور والأثاث، خلصت إلى نتائج غاية في التحديد والدقة، أن ماهر عبدالنور مثلاً استخدم الألوان الباردة، فقد تنوعت بين الأزرق السماوي والأخضر الغامق والأبيض، فيما عدا اللون الأحمر الذي استخدمه في الكراسي والكنب، أو تلوين ركن واحد من أركان البيت، بينما استخدم نهاد بهجت الألوان المتوهجة والمتمردة كالبرتقالي والأصفر بدرجاتيهما.

الأفلام التي عمل فيها ماهر عبدالنور خلطت بين الذوق الحديث والذوق الكلاسيكي، مثلما فعل في فيلم «صغيرة على الحب»، أما أفلام السبعينيات التي عمل فيها أنسي أبوسيف ونهاد بهجت فقد مالت إلى الذوق الحديث الخالص أو (الاسكندنافي)، وهو الذوق الذي تطور معنا حتى وصل إلى ما يقدمه «أيكيا» حالياً.



في الفصلين الثالث والرابع حاولت الكاتبة أن تخرج من النظرة المحلية إلى نظرة إقليمية، وذلك بمحاولة الاقتراب أكثر من السينما العربية، السورية في آسيا، والمغربية والجزائرية في شمال أفريقيا، ووجدت ثمة تشابهات واختلافات بين تنسيق وتصميم المناظر في الأفلام المصرية وغيرها من الأفلام التي تنتمي إلى البلدان موضع الدراسة، إلا أن الملمح الأكثر ذكاءً وتوهجاً في تصوري خلال هذه الفصلين هو الربط الرائع بين استخادم الديكورات في الأفلام الجزائرية والمغربية بفترة الاحتلال، وجنوح فناني هذين الدولتين إلى التأكيد على الهوية الوطنية للعمل السينمائي.

وقد أنهت هبة الصغير كتابها الرائع بفصل عن مناظر البيت الحديث في سينما القرن الواحد والعشرين، والذي قامت فيه بتحليل بعض الأعمال الحديثة، التي تسعى إلى تطوير إمكاناتها المرئية عن طريق تصوير أماكن مبهرة، وقد لمحت في هذا الفصل بما يسمى في أدبيات السينما بضرورة مذاكرة العمل وفهمه قبل وضع المناظر والديكورات، وأتصور أن هذا الفصل من الأهمية أن يكون في كتاب مستقبل، لا جزءًا من دراسة انصب اهتمامها على فترة زمنية انتهت مع نهاية السبعينيات.