د. خالد أبو الليل يكتب: أحمد مرسى أسد دافع عن عرين الهوية المصرية

د. خالد أبو الليل يكتب : أحمد مرسى أسد دافع عن عرين الهوية المصرية
د. خالد أبو الليل يكتب : أحمد مرسى أسد دافع عن عرين الهوية المصرية

أحمد مرسى خاض العديد من المعارك لصالح التراث، وقد حاول كثيرون الانتقاص من عمله، بدعوى أنه لا يستحق أن يدرس داخل أروقة الجامعات المصرية

«دز وليدك ع الميدان.. يجيب مثيله من العيدان/ مثل شعبى بدوى» 
1
جاء أحمد على مرسى (1 يناير 1944- 20 يوليو 2022) حاملا لواء دراسة المأثورات الشعبية، ومنتميا إلى الجيل الثانى من جيل الرواد فى هذا المجال، على المستويين المصرى والعربى، وذلك خلفا للجيل الأول من الرواد، عبد الحميد يونس، وسهير القلماوى، وعبد العزيز الأهوانى، وأحمد رشدى صالح. أحمد مرسى ذو نشأة ريفية، فهو من مواليد

محافظة كفر الشيخ، وقد تخرج عام 1963من قسم اللغة العربية وآدابها، بكلية الآداب، جامعة القاهرة. وقد ساعدته نشأته الريفية، فى المجال الذى تخصص فيه، مجال دراسة المأثورات الشعبية المصرية. حدد أحمد مرسى لنفسه منذ البداية مسارا علميا، مثَّل فيما بعد مشروعا لمدرسة علمية، تمثل فى بداية توجه الجامعات المصرية نحو جمع المأثورات الشعبية، وتوثيقها وتصنيفها ودراستها على نحو علمى داخل المؤسسات الأكاديمية. فإذا قلنا إن عبد الحميد يونس هو أول أستاذ كرسى متخصص فى الأدب الشعبى داخل الجامعات المصرية والعربية، فإن أحمد مرسى أول أكاديمى مصرى وعربى، يخصص دراسة أكاديمية عن جمع المأثورات الشعبية.

وهو ما نجده فى رسالتيه للماجستير والدكتوراه. فلقد اختص رسالة الماجستير- التى حصل عليها عام 1966 من بيته، الذى اعتز به، قسم اللغة العربية بآداب القاهرة- بالأغنية الشعبية فى منطقة البرلس (بمحافظة كفر الشيخ/ مسقط رأسه)، واستمر هذا الاهتمام بالجمع الميدانى فى رسالته التى حصل بها على درجة الدكتوراه عام 1969.

والتى كان عنوانها «المأثورات الشعبية الأدبية فى محافظة الفيوم». لم يكن اختيار هذا المجال سهلا، لا من حيث المعاناة التى عاناها فى الجمع والتوثيق والتصنيف، ولا فى النظرة التى كان يُنظر بها إليه، حيث السخرية والتقليل من شأن مثل هذا التوجه تارة، أو إلقاء التهم عليه تارة أخرى. ولكن إصراره على المواصلة.

والمضى قدما فى هذا المسار كان كفيلا بترسيخ أقدام هذا التوجه داخل الجامعات المصرية والعربية. ولقد ظل هذا التوجه هو الشغل الشاغل له، طوال مسيرته العلمية؛ بالقدر الذى يجعلنا نقول باطمئنان إن هذا التوجه مثَّل مدرسة علمية رصينة رادها باقتدار وعلمية ومنهجية أحمد مرسى.

ولقد جاء إصراره على السير فى هذا الاتجاه؛ رغبة منه فى جمع ما تبقى من مأثوراتنا الشعبية، قبل ضياعها بوفاة رواتها وحفظتها. ولذا نرى أن هذا الاتجاه هو الاتجاه الغالب على تلامذة أحمد مرسى، الذين تتلمذوا عليه، وكذلك الغالب على دراسات أحمد مرسى نفسها، التى تلت بداياته الأكاديمية. 


ففى مجال الاهتمام بتيار دراسة الأدب الشفاهى ينشغل أحمد مرسى بتأسيس مدرسة عربية فى الجمع الميدانى للنصوص الشعبية، وأرشفة هذه المواد الفولكلورية، وتوثيقها توثيقا علميا. لذلك اهتم بتأصيل دراسة المأثورات الشعبية المصرية والعربية فى كتابه «مقدمة فى الفولكلور/ 1995». ورغم انشغاله فى القسم الأول من هذا الكتاب بالتأصيل النظرى لعلم الفولكلور عالميا وعربيا، فإنه انشغل فى القسم الثانى بالتوقف عند آليات العمل الميدانى.

وجمع المادة المجموعة وتصنيفها وأرشفتها. ويتبدى هذا الاهتمام بالأدب الشعبى الحى فى كتبه «من مأثوراتنا الشعبية/ 1998»، «الأغنية الشعبية: مدخل إلى دراستها»، و «كل يبكى على حاله»، و»الخرافة فى حياتنا». كما إنه انشغل- أيضا- وإن لم يكن على الدرجة نفسها- بدراسة المدون، على نحو ما يظهر فى دراسته عن «ألف ليلة وليلة والهوية/ 1994».

وقد اجتمع الاهتمامان بالمدون والشفاهى معا فى كتابه «الأدب الشعبى وثقافة المجتمع/ 1999». هذا إلى جانب اهتمامه بتقديم الجديد من مناهج ونظريات حديثة ومجالات فولكلورية جديدة إلى العالم العربى، وهو ما يتبدى فى ترجمة كتاب يان فانسينا «المأثورات الشفاهية/ 1999»، وفى المقدمة المستفيضة للكتاب، التى كانت بمثابة بداية اهتمام بعلم التاريخ الشفاهى فى العالم العربى. 

غير أن الدور الأكبر لأحمد مرسى الذى قدمه لخدمة مجال المأثورات الشعبية العربية عامة، والمصرية خاصة، تمثل خارج نطاق الجامعة. أعنى مشاركاته العامة التى ساهمت فى زيادة الوعى العام بقيمة المأثورات الشعبية وأهميتها.

وبأنها مجال يستحق الاهتمام من قبل الدولة، ويستحق الدراسة. تمثل هذا فيما اضطلع به من أعمال إنشائية ثقافية وعلمية متصلة بخدمة دراسات المأثورات الشعبية وأبحاثها.


ولقد عضد من دعوة أحمد مرسى فى الاهتمام بدراسة الأدب الشعبى الحى وجود مجموعة من تلامذته، الذين دفعهم دفعا، أو اهتموا من تلقاء أنفسهم، بالاهتمام بهذا الاتجاه فى دراسة الأدب الشعبى. من بين هؤلاء التلامذة نجد محمد حسين هلال، سواء فى دراسته عن الحكاية الشعبية فى منطقة العياط، أو الموال القصصى.

وفى دراسة وصفى عطية حسن عن الأغنية الشعبية البدوية فى الفيوم، ومحمد حسن عبد الحافظ عن «روايات السيرة الهلالية فى أسيوط»، أو «السيرة الهلالية فى سوهاج»، وخالد أبو الليل فى دراستيه «الحكاية الشعبية فى محافظة الفيوم/ 2003»، والسيرة الهلالية فى قنا/ 2008» وأيمن عبد العظيم فى دراسته عن «الشعر البدوى فى الفيوم»، ودعاء مصطفى كامل «الفوازير: دراسة ميدانية فى الأدب الشعبي/ 2008»، وأحمد بهى الدين فى «السيرة الهلالية فى كفر الشيخ». وكذلك من تلامذته: سميح شعلان، وإبراهيم عبد الحافظ، وخطرى عرابى ونهلة إمام ومصطفى جاد ومحمد شبانة وغيرهم الكثير.


هذا إلى جانب بعض رسائل الماجستير والدكتوراه التى قُدمت تحت إشرافه عن بعض قضايا الأدب الشعبى وصلتها بالأدب الرسمى، مثل دراسة أشرف فوزى عن «أدب الأطفال فى قصص عبد التواب يوسف»، ودراسة سيد ضيف الله عن «آليات السرد بين الشفاهية والكتابية: دراسة فى السيرة الهلالية ورواية مراعى القتل».


2
خلال مسيرة أحمد مرسى الطويلة والحافلة بالعطاء والإخلاص والتفانى لخدمة مجاله العلمى الذى تخصص فيه، وخدمة وطنه، الذى أحبه وأخلص له حتى وفاته، خاض العديد من المعارك لصالح هذا المجال، الذى دأب الكثيرون على الانتقاص من أهمية دراسته.

وبأنه لا يستحق أن يكون مقررا دراسيا داخل جدران الجامعات، التى ينبغى أن تنشغل بما هو أهم، مثل دراسة النحو ودراسة الشعر العربى القديم والحديث، وليس دراسة أدب المهمشين والبسطاء والفلاحين والبدو والصيادين والغجر، أو أن ندرس فنانين شعبين أمثال محمد طه أو خضرة محمد خضر أو فاطمة سرحان أو جابر أبو حسين أو سيد الضوى.

لذلك نجد بين الحين والآخر تطفو على الساحة معارك وجودية للمجال، من قبيل حذف أو تقليص عدد ساعات تدريس مقرر الأدب الشعبى، أو محاولات البعض لإلغاء لجنة الفنون الشعبية بالمجلس الأعلى للثقافة. وفى كل مرة كانت تثار فيها مثل هذه المعارك كنا نجد أحمد مرسى يظهر قويا كالأسد الذى يحافظ على عرين التخصص، ليس من باب الدفاع عنه لأنه تخصصه، وإنما لأنه يدرك قيمة هذا التخصص بالنسبة لهوية هذه الأمة، فهذا المجال بمثابة ركن ركين للدفاع عن الهوية الثقافية المصرية.

مؤمنا بأن التفريط فى هذا الأمر هو بمثابة خيانة وطنية، وخيانة للقطاع العريض من ممثلى هذا الشعب، ممن تشتمل إبداعاتهم على أصوات المهمشين من أبناء هذا الوطن. وبقدر ما كان الانتصار حليفا له فى معركته الأولى عندما نقل الاهتمام بجمع المأثورات الشعبية من خارج أسوار الجامعة إلى داخلها، فإن الانتصار دائما كان حليفه فى مثل هذه المعارك.

التى لا يزال بعضها يتردد حتى الآن بين الحين والآخر. ولا أدل على المكانة التى وصل إليها أحمد مرسى، سواء مكانته الشخصية والعلمية، أو قدرته على فرض المجال داخل المؤسسات الأكاديمية، من هذا الكم الكبير من الجامعات المصرية والعربية والغربية التى قام بالتدريس فيها. فقد حاضر فى جامعات أوسلو وبرجن بالنرويج واستكهولم بالسويد والأوتونوما بمدريد – إسبانيا، وعين شمس بالقاهرة، وأكاديمية الفنون الشعبية بالقاهرة، وجامعة حلوان بالقاهرة، وجامعة المنصورة، وجامعة الإسكندرية بالإسكندرية.


3
لماذا بدأت بالمثل الشعبى، الذى افتتحت به حديثي؟ باختصار شديد، هذا المثل الشعبى مأخوذ من السيرة الهلالية، وكان أستاذى د. أحمد مرسى دائما ما يقوم بترديده، فى أكثر من سياق؛ ليعطينا- نحن تلامذته، ونحن نستهل حياتنا العلمية- من خلاله درسا فى الأستاذية فى كيفية تعاملها مع طلاب العلم، التى تعنى ضرورة تعلم قيم الحرية والاعتماد على الذات.

وضرورة خوض طريق البحث والعلم بقوة. فالمثل يعنى ارمِ أبناءك فى الميدان، وسيعود كل منهم بمثيله من الأعواد. فالابن القوى سيشتد ساعده، وسيعود بعود قوى، أما الضعيف فسيعود بعود ضعيف. ولم يكن إلقاء أحمد مرسى لنا فى ميدان الجمع الشعبى خاليا من المتابعة والتدقيق، وإنما كان يقوم بدور المراجعة والتقييم والتعليم لنا، تاركا لنا المساحة التى تسمح بتكوين شخصيتنا العلمية، من واقع زرع الثقة فى نفوسنا مبكرا، وليزرع فينا- كذلك- مسئولية حمل أمانة التخصص. 


أختتم حديثى هذا بأن مجال دراسة الأدب الشعبى مجال مهم جدا لخدمة قضايا الوطن، وتتبدى أهميته خاصة فى معركة بناء الوعى التى تخوضها دولتنا المصرية حاليا. غير أن هذه المعركة لتأخذ مسارها الصحيح فلا بد من توفير قراءة حقيقية لما يدور بخلد المواطن المصرى وعقله.

وهو ما تعكسه إبداعاته الشعبية، إذ تُظهر لنا هذه الإبداعات على نحو بسيط آمال المواطن وآلامه، أفراحه وأطراحه، تطلعاته وانكساراته، أحلامه وواقعه ورؤيته لمستقبله. وبالتالى فإن مشروعا مهما، مثل مشروع حياة كريمة، كان لا بد أن يتم الاعتماد فيه على أمثال د. احمد مرسى، ممن لهم صلة مباشرة بالواقع المعيش، وبالمواطن المصرى المطحون.

فهو يمتلك أدوات التعامل معه. ولذلك فإننى أتساءل: لماذا لا يكون هناك مستشار شعبى للقيادة السياسية على غرار المستشار النفسى والاجتماعى والسياسى والدينى؟ فهذا المستشار الشعبى وجوده مهم جدا لأنه سيجيد التعامل مع الكثير من القضايا الراهنة بطرح الحلول للعديد منها، خاصة مع تنامى الإشاعات التى تحاول أن تضرب جذور هويتنا.

وذلك لقدرة هذا المستشار على التعامل مع القطاع العريض من أبناء الشعب المصرى، من خلال دراسته المباشرة والميدانية- وليست المكتبية- لواقعهم المعيشى الحقيقى. ولعل هذا الأمر- أعنى القدرة على قراءة الواقع المصرى، وقراءة العقل الشعبى المصرى- هو ما تميز به- على نحو لافت للنظر- الراحل والمغفور له بإذن الله أبى وأستاذى ومعلمى أحمد مرسى. 

اقرأ أيضا | الكاتب الألماني ستن نادولنى يكتب: اكتشاف البطء