د. محمد سمير عبد السلام يكتب : رسائل مارسيل بروست لعب الماضي والمنظور التجريبي المتجدد

د. محمد سمير عبد السلام يكتب : رسائل مارسيل بروست لعب الماضى والمنظور التجريبى المتجدد
د. محمد سمير عبد السلام يكتب : رسائل مارسيل بروست لعب الماضى والمنظور التجريبى المتجدد

أسهم مارسيل بروست (1871 – 1922) فى تأسيس رواية تيار الوعى عبر رائعته الروائية البحث عن الزمن المفقود، وإن ارتكز ظاهريا – فى سرده - على الذاكرة مثلما لاحظ روبرت همفرى فى توصيفه لرواية تيار الوعى واتصالها الوثيق بترتيب الأحداث وفق مستوى ما قبل الكلام؛ أى الصور والأحداث المقطعة فى تداعيها الحر بين الوعى، ومستويات اللاوعى العميقة؛ ومازالت أسلوب تيار الوعى ممتدا فى الكتابات الروائية الراهنة؛.

ومازال يرضى شريحة كبيرة من القراء فى العالم؛ لكونه عملية داخلية – إنسانية تتسم بالأصالة، وتسهم فى تشكيل الكينونة، وفهم صور العالم الداخلى، أو منحها تجسدات طيفية، وجمالية جديدة عبر التمثيلات الذهنية المتجددة التى شكلت مساحة كبيرة من رواية بروست؛ فهو لا يرتكز بالدرجة الأولى على علامات الذاكرة حرفيا.

ولا يحرص على تسجيلها كما هي؛ وإنما يشير – فى مجموعة رسائله الأدبية – إلى التمثيلات الذهنية لصور الذاكرة، وعلاماتها بدرجة أكبر؛ ومن ثم تمنحنا رواية بروست منظورا إدراكيا جديدا  يتعلق بالتمثيلات الذهنية، والاستعارات الإدراكية، وفضاءات المزج الإدراكية حول الشخصيات، والأطياف، وأعمال الفن التى تشمل شخصيات الكتب، وحكايات الأم، والألحان، وأعمال الأوبرا، والمسرح، وفن التمثيل.

وأطياف شخصيات الشخصية الرئيسية فى الرواية "مارسيل"؛ لهذا كان احتفال الأوساط الثقافية العالمية بمئوية مارسيل بروست هذا العام ذا دلالة عميقة تتعلق بكل من استمرارية أسلوب تيار الوعى فى السرد الروائى من جهة.

وتطور الأبحاث والدراسات الإدراكية حول الفضاءات الذهنية، وطرائق التمثيلات الذهنية للذات، والعالم وفق المدركات السمعية والبصرية واللسانية، واتصال هذه الدراسات بأعمال الأدب؛ وبخاصة رواية تيار الوعى، وتطورها الراهن من جهة أخرى.

وقد تابعت ظهور مجموعة من روايات تيار الوعى الحديثة والمعاصرة؛ والتى تتميز بحساسية جمالية مختلفة خلال السنوات الماضية؛ مثل رواية الغابة النيرويجية لموراكامى 2000، وبائع الحليب لآنا بارنز 2018، والبط للوسى إلمان 2019، وحياة العقل لكريستين سمولوود 2021، وخدش بسيط لريباكا واتسون 2021، وانحناء لبريندا لوزانو.

ترجمة آنى مكديرموت 2021؛ وغيرها؛ وهو ما يدل على استمرارية أسلوب تيار الوعى، وأصالته الذاتية، واتصاله بالتحولات الثقافية، والتكنولوجية المعاصرة، وإمكانية مزجه بما بعد الحداثية، وما بعدها، أو بالنزعات الحداثية الجديدة فى السرد؛ فضلا عن إمكانية قراءة هذه الأعمال الجديدة، أو قراءة تراث جويس، وولف، وفوكنر، ورواية بروست التمهيدية لتيار الوعى وفق آليات منهجية مغايرة، وعابرة للتخصصات، أو تقديم تحليل مغاير للخطاب يتعلق بالفضاءات الذهنية، والتمثيلات الإدراكية.

وطرائق الربط فى الخطاب، أو استنتاج حجاج خفية فيما وراء منطق التداعى الحر؛ وأرى أن تجسدات الأطياف المتعلقة بشخصيات الحكايات القديمة، وشخصيات القراءات الروائية لسارد بروست – فى الجزء الخاص بفضاء كومبريه ضمن البحث عن الزمن المفقود / جانب منازل سوان – تسهم فى إيجاد نوع من الربط أو التأشير العائدى الذى لا يمكن فهم تضاعف التمثيلات الذهنية للذاكرة - فى الرواية وفى رسائل بروست - إلا من خلاله من جهة، ويوحى بأن بروست كان من أوائل من تناولوا التجسدات الطيفية لشخصيات الفن؛ وإمكانية تفسير العالم الداخلى للسارد من خلالها من جهة أخرى.

ولم يكن استمرار كتابات تيار الوعى فى لحظتنا الراهنة هو التأثير الوحيد لرواية بروست التمهيدية لتطور تيار الوعي؛ ولكن الرؤى النقدية واستجابات القراء للرواية مازالت قائمة، ومتطورة؛ ومن ثم فأفعال الكلام المتضمنة، أو المضمرة فى خطاب بروست السردى تؤسس لاستجابات نشطة لدى المروى عليه، أو القارئ؛ وكأنه يضمر توجيها للمروى عليه بأن يعيد النظر فى علامات ذاكرته وفق تمثيلاتها الاستعارية المحتملة.

أو يوجهه نحو إعادة قراءة الذات فى تعدديتها الزمكانية كما سنلاحظ فى رسالته عن البحث عن الزمن المفقود، أو وصل هذه الذات / الذوات بالمدركات البصرية للشخصيات الأخرى، وتجسداتها الطيفية فى المكان / الحقيقى الخيالى فى آن؛ وهى من السمات السردية الفريدة المتكررة لدى بروست، وتؤسس لخصوصية أسلوبه، وإشكالياته الجمالية التى تستعصى على الاختزال، والتحديد.


ومن الأعمال النقدية التى تثبت فاعلية رواية بروست، وأثرها العابر للزمكانية ما كتبه كل من آلا ن دى بوتون فى كتابه كيف يمكن لبروست أن يغير حياتك؟، صدرعن راندوم هاوس بنيويورك 1998، وكريستوفر بريدنغست فى كتابه الحياة والموت مع مارسيل بروست، صدر عن أوربا يونيون بنيويورك 2022.

ويقوم خطاب دى بوتون على إعادة توصيف مدركات بروست البصرية، والسمعية، واللسانية وفق فاعلية إنتاجها فى سياق زمكانى آخر؛ فهو ينسج – فى تضمينات خطابه النقدى – استعارتين إدراكيتين يشبه فى إحداهما مدركات بروست وشخصياته بأصوات الراديو فى غرفة صامتة.

وكأن تلك الشخصيات تعيش فى عوالم بينية ممكنة متداخلة بين الوعى واللاوعى، بينما يشبه أذهاننا بالردار المستقبل لموجات الراديو / شخصيات بروست؛ وهو ما يؤكد فاعلية مدركات بروست فى المروى عليه، واستمرار الإنتاجية الممكنة للتمثيلات الذهنية المضاعفة بين الراوى والمروى عليه، بينما ينتخب بريدنغست إشارات بروست الأولى فى جزء سوان إلى مراوحات السارد / البطل بين النوم واليقظة فى حالة إدراكية يصفها بحافة الوعي؛ وأرى أن هذه الحالة الإدراكية البينية التى يصفها بريدنغست ستعيد النظر فى درجة اتصال رواية بروست بالمستوى العميق من اللاوعى المتضمن فى تعبير روبرت همفرى مستوى ما قبل الكلام.

ومن ثم لن تقتصر رواية بروست على قسم الذكريات من الوعي؛ وإن كرر بروست الإحالة المرجعية للذاكرة، وتمثيلاتها المضاعفة؛ ولكن حالتى اليقظة الخفيفة، أو النوم الخفيف اللتين أشار إليهما بريدنغيست ستؤسسان لولوج سارد بروست إلى مستوى ما قبل الكلام، وتسجيل الصور المقطعة فى سيولتها.

وفق التداعى الحر بصورة تحمل خصوصية بروست وبصمته الإبداعية فيما يتعلق بالنظر إلى السارد / الشخصية بوصفه مجموعة تحولات زمكانية ومدركات بصرية تمثيلية لشخصيات أخرى؛ وسنلاحظ مثل هذه الجماليات فى تضمينات خطاب بروست، وأفعاله الكلامية، وحجاجه فى كتاب الرسائل.

وتكمن قيمة هذا الكتاب فى تجاوزه لفعل التخييل السردى المؤجل دائما، و المتضمن فى فن الرواية؛ فهو يؤكد ذلك التخييل الروائى، بينما نجده يحيلنا إلى حياته اليومية وكأنها جزءا رئيسيا من حالة التخييل الروائي؛ ومن ثم يؤجل اكتمال كل من بنيتى الواقع، والتخييل، ويعيد قراءة كل منهما من خلال الأخرى.

يتضمن كتاب الرسائل لبروست إشاراته إلى علاقة الذاكرة بالإنتاجية الإبداعية للوعى، ومنظوره التجريبى للشخصية الروائية كمدرك بصرى طيفى، والإشارة المتكررة – فى تلميحات خطابه – إلى تداخل الفضاءات الذهنية، والمزج التكوينى التجريبى بين هذه الفضاءات وفق الدراسات الإدراكية المعاصرة لدى فوكونير ومارك تيرنر.

وخاصة فيما يتعلق بتمثيلات الأماكن، والشخصيات، والأشياء المادية، أو تجسدات الفن المجازية؛ وقد صدرت النسخة العربية المترجمة من كتاب الرسائل بعنوان رسائل مارسيل بروست، ترجمة: ربيع صالح، عن دار الرافدين ببيروت والعراق سنة 2019.

وسيكون لهذه الرسائل أهمية كبيرة فى التوصيف النقدى لعلاقة التخييل بالمدركات الواقعية اليومية لدى بروست، وإمكانية تحديد دور مستقبل الخطاب، ودرجة استجابته النشطة لأفعال كلام بروست التجريبية؛ خاصة حين اكتسبت رسائل بروست الطابع العالمى بنشرها وترجمتها لمستقبلين آخرين للخطاب بخلاف من وضع بروست أسماءهم على الرسائل.


يشير بروست – فى رسالته إلى بيبسكو، سنة 1912 – إلى وفرة التمثيلات المولدة عن ذلك الماضى الآخر الذى يمكن استدعاؤه أثناء ارتشاف السارد / البطل للشاى، ويشبه هذه العملية الإنتاجية للوعى بلعبة يابانية تتحول فيها الأوراق حين تلامس المياه إلى أشكال بشرية، وزهور، وحدائق؛ وهكذا تتحول علامات الذاكرة الباهتة فى وعى الراوى إلى تمثيلات، وأخيلة مجسدة.


لقد انتخب وعى بروست كلا من ذلك الماضى الإنتاجى الآخر فى بنية الحضور، وليس الماضى الباهت الأول، وانتخب أيضا اللعب، واللعبة – وفق مبدأ الصلة الإداركى المعاصر لدى ويلسون وسبيربر – ليتوسع فى فعل الكلام التعبيرى المنحاز للإنتاجية الإبداعية.

والتحول العلاماتى القابل للتجدد فى الزمن، ويضمر توجيها نحو الانحياز لتلك الإنتاجية القابلة للتكرار فى وعى مستقبل الرسالة، والقارئ، وتوجيها للمستقبل أيضا بإمكانية تكرار هذه العملية بوصفها عملية داخلية إنسانية تسهم فى إعادة تشكيل الكينونة؛ ويمكننا فهم حجة بروست الاستدلالية الضمنية طبقا لصحة فرضية أفضلية الماضى المحول فى بنية الحضور عن الماضى الأول الباهت، والتى تؤدى إلى نتيجة وجود مدرك حسى متجدد أوضح من السابق.


ويبدو المزج الإبداعى بين الفضاءات الذهنية – فى وعى بروست فى رسالته إلى جييكيفيتش، سنة 1915 – حين يشير إلى حبه لشخصية ألبيرتين، وتجسدها الطيفى على الكرسى، وإمكانية تشكل الذات المبدعة من مجموع هذه الشخصيات المجسدة كمدركات طيفية، وتغير الذات وفق تحولات الزمن كأنها فى قطار يتقدم ويعود للاتجاه الأول فى آن؛ ومن ثم فهو مازال يحب ألبيرتين ولكن ليس الحب الأول نفسه.


لقد مزج بروست بين فضاء غرفته الواقعية، وفضاء ألبيرتين الخيالى فى تكوين واحد يتجلى فيه المزج الإبداعى بين فضاءين مكانيين مختلفين؛ وكأنه يشير إلى أن الفضاء الواقعى نفسه على صلة بالفضاء الخيالي.

ومن ثم فهو فضاء تجريبي؛ كما يمزج بين الذات التى تتذكر الشخصيات، والتمثيلات الذهنية المولدة عن تلك الشخصيات بوصفها أجزاء الذات المدركة الداخلية؛ ومن ثم فإدراك بروست للسارد، والشخصية يقع ضمن فضاء ذهنى واحد متداخل، وتجريبي؛ وهذا المزج بين الذات والشخصيات سيصير مفتتحا جماليا لتعددية السارد التجريبية فى مسيرة الرواية الحديثة والمعاصرة.


وقد أجاب بروست عن سؤال يتعلق بالواقع فى أعماله – فى رسالة إلى جاك دو لاكريتيل – بأنه كان يرى الألحان التى تنساب من آلتى البيانو، والفيولين مثل طائرين متناغمين متحاورين فى الفضاء.


يعيدنا بروست – إذا – إلى انتخابه للتمثيلات العقلية المجازية المولدة عن الشىء / اللحن وفق مبدا الصلة، ويتوسع إدراكيا فى الانطباعات التفسيرية المتجددة فى بنية الحضور، ويمزج بين فضاء الحفلة الموسيقية الحقيقى، وذلك الفضاء التجريبى الذى يتجسد فيه طيفا اللحنين الموسيقيين.

ومن ثم يعيدنا إلى أطياف فضاء ما وراء نافذة السارد / المتخيل فى كومبريه؛ ويمزج بين الذات الحقيقية كاتبة الرسائل، ورؤى وأحلام سارد جانب منازل سوان فى فضاء ذهنى إبداعى مشترك جديد؛ ومن ثم يمزج السرد بالمفهوم الواسع التجريبى للحياة.

اقرأ أيضا | محمد سليم شوشة يكتب .. القطائع: الرواية وقراءة التاريخ وملء فراغاته