جينا سلطان تكتب :الذاكرة الأولى: أصداء الطفولة الضائعة

جينا سلطان تكتب :الذاكرة الأولى: أصداء الطفولة الضائعة
جينا سلطان تكتب :الذاكرة الأولى: أصداء الطفولة الضائعة

صاغت حكايات هانز أندرسن مشاعر القلق والخوف فى المرحلة المبكرة من عمر الإنسان، حين يوضع أمام امتحان البلوغ القاسى، والذى يستلزم شجاعة كبيرة لاجتياز العتبة التى تفصل الطفولة عن سن الرشد، حيث يصبح البحث عن الحب ببعديه الأفلاطونى والإيروسى معيارا لترنح النفس الغضة بين الظمأ للعاطفة البريئة والعضات المبكرة للشهوة.


وترصد حكايتا عروس البحر الصغيرة وبيتر بان هذا التحول المؤلم فى حياة اليافعين الحائرين، انطلاقا من حقيقة عدم بلوغ آريل مصاف النساء، وبالتالى غياب الجدوى من اتخاذ الهيئة البشرية للاحتفاظ بالأمير الشاب.

الذى يحطم قلبها الطفولى حين يتزوج أول فتاة تصادفه عند استيقاظه من غيبوبته. بالمقابل، يستعصى جسد بيتر بان على البلوغ فتنغلق كينونته فى اللامكان واللازمان ضمن مغامرات لا تقع تحت طائلة العقوبة، فتتأرجح بين حدى الخير والشر، اللذين يجسدان قيماً مطلقة، تسقط تدرجات اللون الرمادى الموافق لعثرات البلوغ ومنعطفاته الحرجة.


لذلك تتحرك أحداث رواية الذاكرة الأولى» ل الكاتبة الإسبانية آناماريا ماتوته»، والصادرة عن دارى سرد وممدوح عدوان، ضمن قالبى حورية البحر التى تلبسها لبطلتها «مايتا» وتحملها التوق لأن تكون محبوبة من الأمير الشاب.

وبيتر بان الذى يتلبسه ابن خالتها بورخا ذو الجسد الطفول. وتترك لشخصية ظل ثانوية، تعود إلى دمية مستنسخة عن منظف المداخن غوروغو، مهمة كنس مظالم الارتحال من مكان إلى آخر، للاستقرار النهائى فى بيت الجدة. 


تنقسم الرواية إلى أربعة فصول: الخدر ويعادل الحياة، مدرسة الشمس وترتبط بالغواية، الديك الأبيض ويرمز إلى الرجل الأسطورة، والحرائق التى يفسر اشتعالها كنتيجة لاحتقان الغيرة والحسد فى نفوس قاطنى البلدة. وتغطى هذه الأقسام مراحل الاقتراب الحذر والقسرى لـ«مايتا» ذات الأربعة عشر ربيعا من سن البلوغ.

وفى الوقت نفسه، تشكل نوعا من السيرة الذاتية لـ«ماتوته»، والتى تبتدئ بآية من العهد القديم تشير إلى الكذب والنفاق الذى يستغرق حياة البالغين فى البلدة الإسبانية، الواقعة ضمن جزيرة معزولة، تظل بمنأى عن تداعيات الحرب الأهلية الإسبانية، فتصبح المدن المقصوفة بالقنابل والمعارك الخاسرة المترادفة بأخرى رابحة، مكافئة  للانتقام الفظ الصامت فى البلدة.


شكل الحدر المشهد الأول لمعاينة زخم الحياة عند «مايتا»، فوصفته بالمفاجأة الأخاذة، المتحدة بإحساس بألم وخير كبيرين ممزوجين معا، ويعادلان عيش زخم الحياة كاملا إبان الطفولة وفى جرعة واحدة، بحيث تتكرر تلك الحياة فى ما بعد بشكل أعمى، يفتقر إلى المعنى. بالمقابل، يقدم التجسس على حيوات ساكنى الحدر بديلا عن الحياة الإنسانية المجهضة عند الجدة المتسلطة، فتشمل النساء عبر منظارها بنظراتها القاسية والوقحة، التى تجلد الحميمية والحلم والتعب.


يتقاسم الحفيدان مناقب الجدة ومساوئها، فيرث بورخا منها الشجاعة وغياب الرحمة غيابا مطلقا، ويعزز التلقين المبكر للتمويه بوصفه ضرورة، شخصيته كمحتال خبيث وكاذب وغدار، فيما ترث «مايتا» التى تصغره بعام الحزن الكبير، الذى ينعكس فى عينيها الخائفتين، تجسيدا للوحدة ذاتها. 


تتجسد الحادثة المحورية بمقتل أحد قاطنى البلدة على يد أقربائه الذين تسقط على عاتقهم «ماتوته» جذور الحقد الضخمة التى تغذى الحياة فى القرية. لتتناسل الكراهية من الأجداد والآباء الذين عانوا من ظلم محاكم التفتيش الإسبانية.

وأعدم بعضهم بوحشية فى الساحة المخصصة لحرق اليهود، وتتحول عند أحفادهم من آل تارونخى إلى استفزاز عدائى يُذكى حس الانتقام، لتظل دوامة العنف مستعرة فى النفوس الفاقدة للتسامح. وهذه الحادثة تدخل «مايتا» فى منطقة الرمال المتحركة، فيستحوذ عليها الخوف الغامض، المقترن بالرغبة المتقلقلة فى العدالة.


يصطدم الإدراك المبكر عند المراهقة المشاكسة، التى «أفسدها مناخ عائلى مفكك وقلق»، بهوة النفاق والسلام المخادع فى البلدة، ليتلبس لاحقا بالخذلان. فينكشف أمامها دفعة واحدة «الشكل الذى يُفهم به العالم المجهول»، الباعث على التهديد.

والذى تراه فى قبح مستتر داخل حيوات البالغين، يجتاح براءتها ويهيج الانتقام عند بورخا. فتصرخ يائسة فى وجه دميتها: «فلينتظرونى قليلا.. أى صنف من الفظاعة إن لم تكن لى طفولة، ولست بعد بأى شكل امرأة؟»!


تتعاطف «مايتا» مع «مانويل» فى محنته، حين تستشعر حجم العنف الممارس بحق عائلته، إذ يقتل والده، وتلقى جثة كلب فى بئرهم، ويجز شعر أمه، فتتصل متوالية الآلام بالوحدة لدى الفتاة وابن خالتها. فتتكسر القشرة الرقيقة التى تعزلها عن كل من كان يرغمها على الاختناق، وسط عالم الصبية الأشرار والعناد الطفولى والنزاعات الحمقاء، إضافة إلى تجاهل الجدة بصرامة عاداتها وكسلها ولامبالاتها، فينفتح أمامها معبر مؤقت للتكفير عن خطايا غامضة بعيدة جدا لا تفهم معناها، لكنها تلاحقها حثيثا. 


بالمقابل، يرفض «مانويل» الامتيازات الممنوحة له لكونه ابنا غير شرعى للرجل ـ الأسطورة، ويدرك موقعه فى أسرته، مع أمه وأخويه غير الشقيقين، فالمرء لا يختار عائلته، وإنما تُعطى له.

وتؤطر «ماتوته» الموقف المسيحانى للفتى البالغ من العمر ستة عشرة عاما من زوج أمه خوسيه تارونخى، والمتمثل فى الإصرار على البقاء بجانبه بسبب الحقد الذى كان ينهشه، والسخرية التى صبغت تعاملاته مع الناس فدمرته، إذ جعلت منه العدو المُستباحٌ إذلاله.   


يستقر ركض البالغين الجامح نحو بئر الحياة فى وجدان اليافعين وفق أشكال مختلفة، تدفع خوسيه نحو الانتقام، فتقذف وشايته الكاذبة بـ«مانويل» إلى الإصلاحية، فيما تكتسح صفة الخائنة الجبانة كينونة «مايتا».

وتدشن عهد البلوغ بالخذلان، كنتيجة للسقوط بين براثن التنمر المتأتى عن الغيرة والحسد لدى «بورخا». وكان الأخير قد فسر مشاعر الحب العذرى لـ«مايتا» نحو الرجل الأسطورة بميل نحو «مانويل»، ليبتزها ويضمن تواطئها مع خسته فيلفق للفتى تهمة السرقة، ليعلن الديك الأبيض، عبر اشتعال الحرائق فى ساحة اليهود، عن قضية سرية مفقودة.

اقرأ أيضا | ممدوح رزق يكتب.. الرجل الذى كان الخميس: حيوات ملفقة