د. نبيل بهجت يكتب: فارس التراث وحامي ذاكرة الوطن

د. نبيل بهجت يكتب : فارس التراث وحامى ذاكرة الوطن
د. نبيل بهجت يكتب : فارس التراث وحامى ذاكرة الوطن

قاتل عمره كله ليصبح هذا التراث واقعاً محققاً بنقله من محطة الازدراء والتنكر الذى واجهه بها البعض لينقله إلى مستوى الاعتراف الرسمى.

كان أحمد مرسى شخصاً استثنائياً على الصعيد الشخصى والعملى والأكاديمى، ترك بصمات واضحة وتحولت معه الدراسات والنظرة للتراث الشعبى إلى مستوى آخر، لقد كان بمثابة نموذج استرشادى يتحول على يديه العلم لوعى مغاير لما كان عليه، حيث قام بمأسسة التراث الشعبى.

من خلال تأسيس مركز الدراسات للفنون الشعبية والمعهد العالى للفنون الشعبية واستمرت معه مجلة الفنون الشعبية على مدار عقود كذلك دعم الوجود المستمر للفنون الشعبية داخل أروقة المجلس الأعلى للثقافة، لقد قاتل عمره كله ليصبح هذا التراث واقعاً محققاً بنقله من محطة الازدراء والتنكر الذى واجهه بها البعض لينقله إلى مستوى الاعتراف الرسمى من خلال تأسيس عدد من المؤسسات والمراكز البحثية له، كان الراحل امتداداً لجيل من الأساتذة العظام الذى مهدوا الطريق لاستعادة التراث الشعبى على الصعيد الجماهيرى بعدما اغرى البعض الفنون المستجلبة والغريبة عن التربة المصرية، لفت هو وأساتذه الانتباه لما تحمله تلك الفنون من إمكانيات تستطيع أن تعبر عن أفكار الأجيال المتعاقبة ويسهل توظيفها فى أشكال الإبداع الحديث.

ساهم عربياً أيضاً فى دفع الحكومات المختلفة فى تأسيس مراكز بحثية ومعاهد تعليمية ومجلات علمية لنشر الثقافة الشعبية، وعلى الصعيد الدولى كان له الفضل الأول فى تسجيل السيرة الهلالية على قوائم التراث الإنسانى وفتح الباب أمام الباحثين والدارسين لإلقاء الضوء عليها تحت إشرافه برسائل علمية.


كذلك كان له الفضل فى توقيع مصر على اتفاقية 3..2 لحفظ وصون التراث اللامادى والتى سجلت مصر من خلالها العديد من العناصر المختلفة على قوائم اليونسكو.


لقد نقل أحمد مرسى الدراسات الشعبية من حقل الاهتمام بالكتابى إلى المزيد من الاهتمام بالشفاهى منذ دراسته عن الأغانى وغيرها حيث أخرج الدراسات الشعبية من نماذج ألف ليلة وليلة إلى حقل الذاكرة المصرية وتتبعها هو وتلاميذه ليحصى خبراتها ويدون ما لديها من معارف وفنون لتصبح واقعاً محققاً، لقد جعل مرسى من التراث الشعبى والإنسان المصرى قضية حياته وسخر حياته كلها لبناء أرشيف لهذه المعارف ربما كان الأرشيف الوطنى للفلكلور الذى دشنه وهو ورفيق دربه د. «سعد نديم» إحدى ثمرات تلك الرحلة كما دعا لتأسيس أرشيف عربى للفلكلور، دعم مرسى الخبرات الشابة فى هذا المجال ودعا للحفاظ على الكنوز البشرية الحية.

وحرص على ضخ جيل جديد من الباحثين فى حقل الدراسات الشعبية ليستمر المجال ويقف بهؤلاء الباحثين ويستمر معهم أيضاً، كان مرسى مشروعاً لنهضة التراث الشعبى آمن به وبإمكانياته وبقدراته ووهب حياته له محركاً وفاعلاً ومحرضاً، إن أهم ما كان فى تجربة مرسى بعد دراساته الرائدة وأجيال الأساتذة الذين تتلمذوا على يديه كان بناء المؤسسات محلياً وعربياً، بذل عمره وماله دفعاً وتحريكاً لهذا المجال.


وعلى الصعيد الإنسانى حرص على جمع الكل رغم بعض الاختلافات والخلافات أحياناً إلا أنه كان يذيب بعبقريته الجليد ليرفع جدار المحبة ويزيل حجب سوء الفهم، كان عظيماً فى حضوره وعطائه وخلافاته أيضاً تحمل مسئولية التراث الشعبى وثقافته وفنونه ودراسته فتح بابه وعمره مدرسة، تحمل ما لم يتحمل أحد فى سبيل الحفاظ على هذا المجال، كان فارسه وحاميه ومناضله الأول ومحفز الأجيال الجديدة للدراسة والبحث، لن أنسى له كلماته الراقية والرفيعة فى تقديمه لكتابى الأراجوز المصرى والذى ثمن فيه الجهد المبذول أو دفاعه عن ملف تسجيل الأراجوز سنة 2018، حيث سافر متطوعاً للدفاع عن الملف مع الممثل الرسمى، لقد أسس مرسى مدرسة عملية للتعامل مع التراث الشعبى، استطاع بمجهوده الحفاظ عليه محلياً وعربياً ودولياً واستطاع أن يضعه على خارطة التراث الإنسانى أيضاً وخلق أجيال من المهتمين بثقافة الإنسان وذاكراته وما يمتلكه لقد أعاد الاعتبار للوعى والذاكرة الشعبية ونقلها من بؤرة الهامش إلى المركز.


وأخيراً فأحمد مرسى كان محركاً لنهضة وبانياً للحضارة المصرية الحديثة.. وسيظل خالداً بما قدمه للوطن والإنسانية.

اقرأ أيضا | د. شمس الدين الحجاجى يكتب: آخر أصدقاء العمر.