رفعت الجلسة | ساحر في ثوب طبيب

ساحر فى ثوب طبيب
ساحر فى ثوب طبيب

فجأة تغيرت، تركت عزلتها، حولت حزنها إلى ابتسامة ملأت وجهها، خلعت ثوبها الأسود وارتدت ألوانا مبهجة، لعبت مع حفيدها لأول مرة منذ سنوات، جلست وتسامرت وضحكت معنا، سألتنا عن أحوالنا كعادتها قبل حزنها، ناقشت زوجتى فى علاقتى معها، وقدمت لها النصيحة حول مستقبل صغيرنا..

كان الأمر مبهجا للجميع، تنفسنا الصعداء أخيرا، بعد عام من العلاج النفسى، عادت إلينا والدتنا، تركت حزنها على وفاة والدى، وألقته خلف ظهرها، وها هى الآن مرحة سعيدة، تمد ذراعيها لتحتضن الجميع، لكن ما حدث بعد ذلك بأيام كان صدمة لنا.

كان والدى ووالدتى أصدقاء وزملاء فى نفس الوقت، فهم جيران ويرتادان نفس الكلية، نشأت بينهما قصة حب عظيمة كما وصفها لنا الأقارب، انتهت بزواج وعمرهما لم يتجاوز العشرين عاما، بعد خطوبة لم تستمر سوى 6 أشهر.

جمعهما الفقر وقلة الحيلة، فقد عمل الاثنان موظفين فى وزارة الزراعة، كان المرتب لا يكفى إلى آخر الشهر، باعت والدتى مصاغها، وتصرف والدى فى مبلغ كبير بالدين، وأسس مشروعهما الذى كانا يحلمان به «مصنع لإنتاج العسل الأبيض».

بدأ مشروعهما صغيرا بمناحل، ثم كبرا رويدا رويدا، حتى أصبحا موردين أساسيين للعسل الأبيض فى محافظة الإسكندرية، وتملكا مخازن وأراضى زراعية بمحافظة البحيرة.

كان والدى ينهك نفسه فى العمل، ورغم ذلك لم يشتكِ أو يطلب من أحد مساعدته، أما والدتى فكانت تدرك جيدا تعب والدى والمسئوليات الملقاة على ظهره، لذلك تركت عملها، ومكثت فى البيت، تسخر نفسها لتوفير الراحة له عند عودته من العمل.

ظل الوضع هكذا، حتى سقط والدى فجأة فى العمل، تم نقله إلى المستشفى، لتثبت التحاليل إصابته بورم سرطانى فى المخ.

نزل الخبر كالصاعقة على والدتى، صرخت، ثم هرعت إلى المستشفى حيث يرقد والدى مريضا، بمجرد أن شاهدته ملقى على الفراش، احتضنته، وظلت تقبله، أتذكر أن دموعها لم تتوقف طوال جلوسها بجواره.

شعرت وقتها أنهما طفلان صغيران، لا يريدان أن يفترقا، ظلا صامتين لدقائق، أعادا بخيالهما عشرات السنوات من الحب والاحترام المتبادل بينهما.

رفضت أمى ترك والدى وحيدا فى المستشفى، قررت أن تبيت معه، بل وتكون بجواره طوال فترة وجوده به.

لم يختلف الوضع كثيرا بعد خروج والدى وعودته إلى البيت، أخبرنى الطبيب أن الورم فى منطقة خطرة فى المخ، وأن والدى معرض للإصابة بالشلل فى أى وقت، وإجراء أى عمليه قد يودى بحياته، طالبا من الجميع الدعاء له بالشفاء.

أيقنت من حديث الطبيب أن النهاية أوشكت، ما هى إلا أيام أو ساعات ويغادر أبى الحياة، لكن ما كان يقلقنى، هي والدتى كيف ستواجه مغادرة رفيق عمرها الحياة فجأة؟، أخفيت عليها ما ذكره الطبيب، ألقيت فى قلبها الأمل بالشفاء، حتى جاءت اللحظة الفارقة.

صوت صراخ يخرج من حجرة أبى، والدتى تنادى عليه بصوت مرتفع، اصحى يا عمري، هرعت إلى الحجرة، وجدتها تحتضنه بقوة، وتنظر إلينا فى ذهول.

 لقد فارق الحياة وهو بين ذراعيها، الغريب أنها كانت تحتضنه وتبتسم، اختفت الدموع فجأة من عينيها، كانت تنظر إلى والابتسامة تملأ وجهه، أدركت وقتها أنها فى صدمة الفراق، وبعد انتهاء مراسم الدفن، ظلت والدتى على حالتها صامتة، منعزلة، لا تتحدث مع أحد، تأكل فقط ما يعينها على الحياة.

كانت على مدار أيام بعد الفراق، لا تنطق إلا بكلمة واحدة «اصحى يا عمري»، حاولت التحدث معها، لكنها رفضت حتى مجرد الكلام، تطلب منى المغادرة ثم تعود إلى عزلتها.

مرت أشهر وهى على هذا الوضع، حتى وجدتها مريضة، تضع يديها على بطنها وتصرخ، أسرعت وأخذتها للطبيب، الذى أخبرنى أنها تناولت أدوية بكميات كبيرة كادت تودى بحياتها.

هنا أصابنى القلق، أيقنت أن وضع والدتى اصبح فى خطر، بدأنا كأسرة الاقتراب منها، سمحت لنا بالقليل من الكلام والنقاش، ثم عادت كعادتها إلى حجرتها منعزلة، حتى هدانى تفكيرى الى طبيب نفسى كان جارا لى فى العمل، اتفقت معه على خطة، أخبرته بما تعانيه والدتى بعد فراق أبى، وأنها سترفض فكرة الذهاب لطبيب نفسى، لذلك سيحضرها اليه على أساس أنه طبيب باطنى، ويبدأ معها جلسات العلاج النفسى.

كان الطبيب بعمر والدى فى بداية الخمسينات، أما والدتى فقد تجاوزت الـ45 عاما، هما لا يعرفان بعض، لكن مع اول جلسة كشف، شعرت ان والدتى تغيرت كثيرا.

كنت أتركهما بمفردهما فى حجرة الكشف، فالطبيب معروف عنه حسن الخلق، وبعد عدة جلسات، عادت إلينا والدتنا، اختفى الحزن من على وجهها وارتسمت الابتسامة مكانها، شاهدتها لأول مرة منذ وفاة والدى تدخل المطبخ وتعد لنا أشهى أكلاتها، كانت مرحة وسعيدة، تطلب منا أن نفرح وأن ننسى الماضى، ونعيش ما تبقى من حياتنا فى هدوء.

لم أصدق ما شاهدته بعينى، ولم أتوقع أن ينجح الطبيب فى إخراج والدتى من عزلتها، لكنه أخيرا نجح، ذهبت إليه وشكرته على مافعله من اجل والدتى، لكنه فاجأنى بطلب غريب، وجدته يطلب منى ان اقرأ خطاب كتبته والدتى، قال إن كل مريض يدون فى نهاية مرحلة علاجه خطابا يكشف فيه عن السبب الذى ساعده بشكل كبير فى العودة إلى طبيعته.

بدأ الخطاب بشكر والدتى للطبيب وانتهى بكلمات الإعجاب والثناء والحب، نظرت إلى الطبيب باستغراب، وسألته ماهذا، ليخبرنى أن قصة حب بريئة تولدت بينه وبين والدتى، وصفه بالحب الطاهر مشددا معي علي أن هذا الحب يجب أن يتوج بالزواج.

لم أعلق على كلامه، لكنه تبعنى بكلمات أخرى «أخبرنى أن قصة الحب بينهما كان لها دور فى شفاء والدتى، وأن محاولة طمس هذا الحب أو رفض تتويجه بالزواج سيعيد والدتى إلى نقطة الصفر، بل إلى أبعد من ذلك «الجنون الرسمى». 

رمقته بنظرة استهزاء، وذهبت مسرعا إلى البيت، جلست مع والدتى، وبدأت أذم وأسب فى الطبيب، وأنعته بالنصاب الذى ضحك على كثير من مرضاه، لكننى وجدتها تدافع عنه بقوة، أخبرتنى أنه هو السبب فى خروجها من عزلتها .. وغيرها من كلمات الثناء. 

لم أستوعب ما حدث، لكن اكثر شىء كان يقلقنى، أن قرار الموافقة على الزواج يجب ان اتخذه انا فقط، فشقيقتى مازالت صغيرة، ولا تستوعب ما يحدث.

وبعد تفكير كثير وافقت، وتزوجت والدتى من الطبيب، وحدثت أمور غريبة، جعلتنى أنتبه لما يحدث.

كل ما نملكه كتبه والدى باسم والدتى قبل أيام من وفاته، .. لكننى لمست الطمع فى عين الطبيب، أخذ يتحكم فى كثير من الأعمال، وافتتح عيادة فى القاهرة من مال والدتى .. وبدأت عمليات بيع بعض المخازن والأراضى الزراعية تتم بوتيرة سريعة ولا أعرف إلى أين تذهب أموالها؟ 

جلست مع والدتى، أخبرتها أن هذا المال هو مالى أنا وشقيقتى، وأن زوجها يطمع فيه، وأنه يسيطر عليها بخدعه، وكلامه المعسول، رفضت وطردتنى من منزلها، ونعتتنى بالابن العاق، حتى فوجئت عبر محامى الشركة أنها حررت له توكيل إدارة وتصرف.

هنا جن جنونى، ذهبت إلى والدتى أنا وشقيقتى مرة أخري، أخبرتها أنها يجب أن تتوقف وتلغى هذا التوكيل فورا، وجدتها شخصا آخر، رفضت الاستماع إلينا، تمادت فى عندها، ودفاعها عن نوايا هذا الساحر المخادع، لذلك لم يكن أمامى سوى الطعن علي كافة الإجراءات التي اتخذتها، تمهيدا للحجر عليها إذا تطلب الأمر.

لست قاسيا أو ابنا عاقا كما تقول والدتى، بل إن تعب ومجهود والدى على مدار سنوات سيذهب أدراج الرياح، هناك رجل غريب يسيطر على عقلها، ساحر وليس طبيبا، يستخدم تنويما مغناطيسيا يغيبها عن الوعى ويفعل بها ما يحتاجه، وكان يجب إيقافه قبل فوات الأوان .. تقدمت بكافة الأوراق التى تثبت حقوقى انا وشقيقتى .. والقضية مازالت متداولة.
 

اقرأ أيضا | رفعت الجلسة | المال لا يجلب السعادة