كل أسبوع

رحيل فارس

محمود صالح
محمود صالح

لا يمكن بأي حال من الأحوال عند الحديث عن مصر أن ننسى موروثها الشعبي، ذلك الموروث الضارب في القدم، شأنه في ذلك شأن تاريخها وحضاراتها وإنجازاتها وانتصاراتها، بل حتى هزائمها وانكساراتها. أعني هنا أن كل شيء في مصر له أصل، وأرى أن أصل الشيء ميراثٌ، باقٍ لنا ولأجيالنا، وهذا الميراث هو ما نعيش عليه، أو بالأحرى، هو الذي يجعلنا نعيش؛ لأننا بدونه بلا هوية، بلا جذور، وبلا أصل.. 

عندما كنت أخوض تجربتي الأولى في «أخبار الأدب»، كنت مكلفًا بتغطية ندوات المجلس الأعلى للثقافة، وشاء القدر أن تكون أولى الندوات التي أقوم بتغطيتها هي ندوة نظمها مقرر لجنة الفنون الشعبية والتراث الثقافي غير المادي، الدكتور أحمد على مرسي، أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة.

وقتها كنت أتحسس خطاي في بلاط صاحبة الجلالة، ولم يكن قد سبق لي حضور ندوات المجلس من قبل، وكانت الندوة تدور عن الفولكلور الشعبي، وذكر فيها بعضٌ من الموروثات الشعبية المصرية الخالصة التي تحاول بلاد أخرى نسبها لنفسها حتى تضفي على ذاتها الخاوية بريقًا.

كان من ضمن الأمثلة التي استشهد بها الدكتور أحمد مرسي، عشبة الملوخية، تلك العشبة المصرية التي أكلها المصريون القدماء على أنها عقاب، بعدما فُرضت عليهم من قبل الهكسوس حينها وقت أن كان شائع أنها نبتة سامة، لكن بعد أن تناولها المصريون واستساغوا طعمها دخلت تلك الأكلة قائمة طعام المصريين وأصبحت أكلة مصرية خالصة، وأضيفت لقائمة الآكلات الشعبية الأكثر شهرة في مصر.

لا أخفيكم سرًا، كنت في الندوة أتعجب من الحديث عن هذه الأمور، وأرى أنهم يتحدثون عن أشياء لا طائل من الحديث عنها، وبدأ الملل يشق طريقه نحوي حتى أنني وقتها اتذكر أني كنت لا أعرف كيف أكتب ما يقولون وكيف أقوم بتغطيته.

ذلك كان مفهومي حينها، وأرى فيما يرى غيري أنها آراء الكثير من الشباب الذين ليس لهم باعٌ بالهوية المصرية وما يميزها عن غيرها، وما حجم تلك القضية وتأثيرها على المجتمعات عمومًا وفي القلب منه المجتمع المصري. 

قبل أن تنتهي الندوة، أضاف أحد الحضور سؤالا، كان يدور في خلدي، وكأنه كان يشعر بما أشعر به من ملل ورتابة، قائلا: ما الفائدة التي تعود على مصر من الحديث عن هذه الأمور؟!

هنا أجابه الدكتور أحمد مرسي قائلا: «الهوية المصرية هي السبب في وحدة المجتمع، وإن هي تفككت تفكك معها المجتمع، وانحل وخرِب، وجميعكم يتفقون على أنه من أسباب تراجعنا هو تقليدنا الأعمى للغرب وإهمالنا للأصيل الذي تربينا عليه وتورثناه عن آبائنا وأجدادنا».

وأضاف: «الكيان الصهيوني مثلا يحاول بكل الطرق إثبات جذوره في الأرض التي يحتلها عن طريق إضافة بعد الموروثات الشعبية لتاريخه وأصله، حتى يقول للعالم أنه ابن هذه الأرض، وأنه ليس دخيل عليها، وهذه الطريقة التي يستخدمها إن هو نجح فيها وأقنع العالم بها ولم نستطع مواجهته؛ وقتها سيبقى له من المشروعية ما يجعله يتمادى في جرائمه باعتبار أنه صاحب حق والعرب هم الظالمون».

فتح كلام الدكتور أحمد مرسي آفاقا جديدة في مخيلتي، وجعلني أفكر في أمور ما كان لمثلي أن يفكر فيها، ووضع بداخلي من خبرته الطويلة وعبقريته الفذة أهمية أن نحافظ على هويتنا المصرية لأنها الملجأ الوحيد لوحدة وسلامة المجتمع.

كان لوداعته - رحمه الله - الأثر البالغ في حضوري ندوات المجلس الأعلى للثقافة، حتى أنني كنت حريصًا على أن التهم ما يقوله التهامًا، لدرجة أنني فكرت كثيرًا في أن أستكمل دراستي للماجستير تحت إشرافه وتوجهه.. كنت أمني النفس أن تقودني قدماي إليه مرة أخرى لمقابلته والاستماع لحديثه، لكن كان القدر اسرع من الجميع ويغيبه الموت عن دنيانا لكنه باقي بكل ما قدمه للمكتبة العربية.

خبر رحيله بالنسبة لي كان حزينٌا جدا، وأنا شاب لم ألتقيه سوى مرتين أو ثلاث، فما بالك بالذي تربى علي يديه وعاش في كنفه وتلقى العلم منه. والحزن على رحيله لا يضاهي - في مقدوري - الحزن على الفولكلور المصري والتراث الشعبي بعد وفاته، فالراحل كان من أكثر الفرسان وأشجعهم حفاظًا على الهوية المصرية وموروثها الشعبي، وكان جامع التراث الشعبي الأول والحصن الأمين له، والمحارب الأول ضد كل من تسول له نفسه أن ينال من الهوية المصرية وتراثها الضخم والممتد لآلاف السنين.

الراحل حصل على العديد من الجوائز والأوسمة منها: جائزة الدولة التشجيعية فى الفنون من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1985، نوط الامتياز مصر، عام 1991، وسام الإستحقاق المدنى إسبانيا، عام 1992، وسام الفنون الجميلة إسبانيا، عام 1993، جائزة الدولة للتفوق فى الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، عام 1999، جائزة جامعة القاهرة التقديرية (جائزة نجيب محفوظ للإبداع الفكرى والأدبى)، عام 2006، جائزة الدولة التقديرية فى الأدب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2006.