محمد منير فى إسكندرية l جمهور الكينج «علشانك نمشيها بلاد»

محمد منير
محمد منير

كتب: أحمد بيومى

 عاد المطرب الكبير محمد منير للغناء فى الإسكندرية بعد غياب عشر سنوات كاملة من آخر حفل له فى عروس البحر المتوسط، حفل جديد لمنير فرصة، والإسكندرية، فرصة أخرى، الكلام عن الملك المتوج بحب الناس يحتاج إلى كتب كثيرة والحديث عن الإسكندرية وفنونها وجنونها يلزمه مجلدات، منير فى إسكندرية فرصة مثالية، الحديث عن العاشق والمعشوقة، مناسبة طيبةوإن كانا لا يحتاجان لها - انتهزناها.. ويمكن أيضا نكون بنتلكك.. أيوة إحنا بنتلكك فى حب منير وإسكندرية

 

فين الولد ما يروح لازم يعود أسمر، عشاق الملك ينتظرونه ليطل عليهم بعد ما أدى وبعد ما خد بعد حقبة زمنية اتغير فيها الحال، امبارح كان عمرى عشرين المصرى الهوى والهوية، المطرب المدرسة يواصل رغم الصعاب والألم عشقه، اختار أن يطل من على شط بحر الهوى ليقول للجميع لسة الأغانى ممكنة

 

تعتبر الإسكندرية النداهة تنده منير ومنير دايما حاضر، تنده أقول حاضر مهما تغيب حاضر، حفل الغد بين عاشق ومعشوقة، لقاء غاب عشر سنوات لكن دائما الطير بيهاجر وبيرجع.

 

شريط صور سينمائي ممزوج بمقاطع بصرية متحركة تغزو الذاكرة بمجرد تذكر جملة “حفلة لمحمد منير”، سنوات طويلة كنا نشد الرحال وراءه أينما ذهب، ليالي لا تنسي بكل التفاصيل والمغامرات والجنون، كان ولازال محمد منير، وحفلة محمد منير، مصدر رئيسى للمتعة والطاقة الإيجابية والاستمتاع بالفن الحقيقي، والموسيقي غير سابقة التجهيز والكلمة المغايرة والصوت المصري الجنوبي الذى لا يشبه أحدا.  

 

الحديث عن منير قد يخلو من أي منطق زمنى؛ لكن البداية حملت البشارة، الفتى الأسمر النحيل، القادم من النوبة، المتشبع بصمت الوادى، حين كان الغناء هو السبيل لكسر هذا الصمت، يهاجر إلى القاهرة بعد أن تُغرق بحيرة ناصر قرى النوبة وتُهجر أهلها، قصة عاشها منير، وعاشها مئات الآلآف غيره ممن اضطروا إلى الهجرة _داخليا وخارجيا_ سواء كانت بحيرة ناصر السبب أو غيرها. فهل كانت الصدفة وحدها كفيلة بإدراج الغربة فى كلمات ألبومه الأول عام 1977؟، الألبوم الذى حمل أسم “علمونى عينكى” جاء بـ 10 أغنيات حملت جميعها مفردات الغربة والعذاب والحنين إلى الأم / الأرض، “علمونى عنيكى أسافر .. علمونى أفضل مهاجر”، “أمانة يا بحر تستلم الأمانة .. أحبابنا يا بحر فى عيونك أمانة”، “قول للغريب حضنك هنا”، “فى عنيكى غربة وغرابة”، “دنيا رايحة ودنيا جاية”، “يا عذاب النفس .. واخدنى لفين”، “آه يا بلاد يا غريبة .. عدوة ولا حبيبة”، “الرزق على الله”، وختم منير ألبومه الأول قائلا: “مسكينة حبيبتى السمراء .. دى أميرة وطاهرة وصابرة .. دوامة الدنيا خدتنى .. ورجعت أقول يا أما”. تلك الكلمات، التى كتبها عبد الرحيم منصور ولحنها أحمد منيب وهانى شنودة _وهؤلاء من كان لهم دور رئيسى فى تشكيل شخصية منير الفنية والثقافية_ كلمات وألحان وموسيقى تجاوز بها سنه الحقيقى، وفاجأ الجميع ولفت أنظار المثقفين والصحفيين، وإلى جانب الكلمة لا يجب أن نغفل مظهره الجديد، المتخلى عن تقاليد المطربين فى تلك الحقبة الزمنية، وبخاصه شعره الفوضوى وطريقه إمساكه بالميكروفون.

والمتتبع لمشوار منير يلحظ غياب نبرة الشعور بالغربة بعد ألبومه الأول، ربما البدء فى تبنى وجهة نظر أخرى تفيد بأن كل شبر من مصر أرضه ووطنه وعنوانه، فتجده بعد عدة أعوام من مكوثه فى القاهرة وتحديدا عام 1981 فى ألبومه “شبابيك” يقول “الكون كله بيدور .. وإحنا وياه بندور .. اليوم بحر نعديه .. ع اللي إحنا بنحلم بيه”، وبعدها بسنوات يقدم “تعالى نلضم اسامينا”، ذاكرا ومذكرا، كل محافظات مصر، بتنوعهم وتكاملهم الثقافى. ويعلن على الملئ أن عنوان وبيته ومسكنه ووطنه هو الشارع “الشعب حبيبى وشريانى .. اهدانى بطاقة شخصية .. الاسم الكامل إنسان .. الشعب الطيب والديا”.

حتى عندما يقدم منير عملا فنيا للطفل، فتجده يزرع جينات المقاومة والعناد والحلم فى قلب كل جنين، فربما جيل بالكامل أعتاد الإفطار فى رمضان أمام التلفزيون ليس لشئ سوى الإستماع لصوت منير وهو يغنى للطفل المصرى الأسمر الجميل بكار.. من صغره وصغر سنه عارف معنى أنه.. من قلبه وروحه مصرى .. والنيل جواه بيسرى .. تاريخ أرضه وبلاده .. بيجرى جوه دمه

وربما الشاخص بنظره بعيدا عن السطح، يجد علاقة بين تلك الأغنية التى تربى عليها جيلا بالكامل، ونفس الجيل _بعد سنوات_ الذى ملأ ميدادين مصر مرددا “خبز .. حرية .. عدالة اجتماعية”، هل تلك الأغنية البسيطة _التى بثها التلفزيون الرسمى للنظام_ كان لها دورا؟. هل عندما غنى منير أغنية على لسان طفل صغير مخاطبا جده قائلا: “جدو احكيلي حكاية سعيدة فيها ألغاز ومغامرة مفيدة .. مش معزاية وديب وعصيدة .. حدوتة أهضم بيها عشايا .. عايز حاجة عن الصواريخ أو معلومة عن المريخ .. مش شيتا وطرزان وأميرة راح تجرى وريا”، هل كان يحرض الطفل الصغير على العصيان؟، هل كان يمرر رسالة يعلم أن الزمن كفيل بكشف ألغازها وأسرارها واختمارها مع مرور الأيام لتحقق الغاية والمنشود.

فى مشوار منير التحريضى محطات شديدة الخصوصية، من بينها تحريضه الصوفى الرائعى فى ألبوم “مدد يا رسول الله”، حين قال منير منبها ومحذرا “الدم كله سواء .. حرام بأمر الله”. كذلك يفكر منير، يستبق الأحداث ويغنى للإنسانية، وأسلوبه هذا خير حافظ لفنه على مر العصور وتغير الأمزجة، منير محرض على الحب والسلام وحقن الدماء.

ولم ينسى منير القضية الأهم، فلسطين، فوضعها نصب عينه قبل سنوات بعيدة بُعد مشواره الغنائى نفسه، فتجده يقول “واحنا بنغنى فى كل مكان أغانى الشعب وثوراه .. وأصغر طفلة فى فلسطين شاله بالكف حجارة .. وغايتنا نعمر ليكو البيت يالعمارة العمارة”. منير خلال مشواره _ومنذ البداية_ تجاوز عن الخاص الضيق وانطلق إلى البراح الفضفاض. فغنى للإنسانية كلها، حتى أن الجميع يعلم فى بعض شوارع أوروبا يتم ترجمة أغانى منير وتوزع على محبيه وعاشقى فنه.

وربما من أهم محطات منير التحريضية على الإطلاق مشواره الخاص مع الراحل - الباقى يوسف شاهين، فمنير كان حنجرته، ولعله منير هو المطر الوحيد الذى يقدم أغنية ضمن أحداث فيلم، وبعد سنوات تصبح الأغنية أشهر من الفيلم نفسه، وتتجاوز لتصبح ضمير أمة وذاكرة وطن.

وعندما يطرب منير فى إحدى حفلاته أغنية “على صوتك بالغنا” أمام عشرات الآلآف، يدركون جميعا _ومن خلفهم ملايين_ أنهم يخاطبون المستقبل والحلم_وأحيانا_ الخوف والكابوس. “ولو فى يوم راح تنكسر لازم تقوم .. واقف كما .. التخل باصص للسما”، الإعلاء من قيم التحدى والصمود صفى غالبة فى بورتريهات منير الغنائية، فهو _كما نشعر_ صوت الشارع المصرى ونبضه. وعندما يقدم مع شاهين فى نفس الفيلم أغنية أخرى، لا تقل عن الشابقة ويقول” يا عشاق الحياة .. جمر الهواء جوه القلوب والع .. لو غاب قمر .. مليون قمر طالع”، ويقتل فى الفيلم بعدها بحجة أن الغناء حرام.

“يبقى المصير فى اليد” رسالة من منير إلى العالم أجمعين، رسالة ليختار كل إنسان مصيره، تماما كما أختار منير. الملك الذى قرر ألا يموت، وأن يظل حاضرا دائما فى ضمير كل من استمع إلى فنه. لكل هذه الأسباب وغيرها، لمحمد منير، وحده، “نمشيله بلاد”.