أصوات من الجنوب| الفنان «حسن الشرق».. ابن «زاوية الأموات» يصل للعالمية

حسن الشرق أمام متحفه
حسن الشرق أمام متحفه

كتب: حسن حافظ

أين منبع السحر فى مصر؟ أين روح هذا البلد الموغل تاريخه فى العهود السحيقة؟ كيف نمسك ببعض نسمات روح بلاد عانقت التاريخ مبكرا فأنجبت المجد والحضارة والثقافة منذ قرون بعيدة؟ ربما يكون بداية الخيط ومفتاح اللغز فى صعيد مصر، فى البلاد المنحوتة بقوة النيل المبارك بين الجبلين الشرقى والغربي، فى المحافظات المنسوجة بطمى النيل ورمال الصحراء الممتدة فى الأفق، هنا يغزل البشر قصة من خيوط موصولة بتاريخ المصرى القديم، فإذا قلت إن فى كل ركن فى قرى الجنوب حكاية ما كذبت، فهنا يتفاعل البشر والحجر، وهنا تروى الحكايات، وهنا يسعى التراث لأن يعيش ويبقى فى صور حديثة لا تفقد أصالتها.

فى هذا الملف التقت «آخرساعة» بعض أصوات الجنوب، بين تراث شعبى يمزج بين التاريخ والأسطورة ويواصل حياته، وبين عرق رجال تلفحهم شمس الصعيد وهم يلونون الأرض السمراء بخضار ما يزرعون ويحصدون، مرورا بفنانين أخلصوا لتراث الأجداد وأعادوا بعثه فى صور وأشكال متفردة، تؤكد أن الفنان المصرى روح متصلة منذ آلاف السنين، تنهل من نفس النبع رغم تغير الأزمان والأديان واللغات، ففى الصعيد تجد التفاعل الأصلى بين حوائط المعابد التى تحكى الكثير من الأسرار والمواطن الأسمر الذى تعلم فى هدوء الليل الطويل أن ينصت لهمس الأجداد، يستنطق الحجر، ويستخلص الدرس، ويعيد إنتاج الملحمة الإنسانية على ضفاف النيل.

 

من قلب المنيا انطلق الفنان التشكيلى حسن عبدالرحمن للعالمية، معتمدا على تراث الصعيد الغنى والمتنوع وحس فنى مرهف، فحصد التقدير الدولى ليعرفه العالم بلقبه «حسن الشرق»، فلوحاته تجمع تفاصيل فريدة للحياة فى صعيد مصر ممتزجة بتراث عميق يجمع بين أجواء الملاحم الشعبية وأصداء الحياة اليومية، ويظلل كل هذا موهبة فطرية لحسن الشرق الذى نجح فى وضع بصمته على أعماله النابضة بالحياة. ويعيش الفنان العالمى فى محرابه الفنى حيث متحفه ومسكنه الذى يتوافد عليه عشاق فنه من كل الدنيا، وفى هذا الصرح الفنى التقته «آخرساعة» لاكتشاف عوالم هذا الفنان الفطرى.

بدأت الرسم على ورق الجزارة.. وخلطة الألوان أحد أسرار رحلتى

يستقبلك حسن عبدالرحمن (73 عاما) بكل ترحاب وود فى منزله الذى حول جزءًا منه لمتحف محط أنظار العالم، فابن نزلة سلطان الواقعة بالبر الشرقى فى مواجهة مدينة المنيا، استطاع بموهبته الفريدة أن يجذب إليه الأنظار ويقدم تجربة شديدة الخصوصية عبر موهبته الفطرية فى الفن التشكيلي، فاستجاب لنداء نداهة الفن، وترك محل جزارة والده ليبحث عن ذاته، فترك نفسه لغواية الفن، لكنه كسب الرهان وبات علما من أكبر أعلام المدرسة التشكيلية المصرية المعاصرة، وحصد النجاح تلو الآخر، حتى وصل إلى العالمية.

المتحف يضم أعمالى ولوحات منتقاة لفنانين من مختلف أنحاء العالم

يقول حسن الشرق عن بداياته: «البيئة التى عشت فيها كانت الصانع الأول لى، وقبل أكثر من 60 عامًا، كان النجع المسمى زاوية سلطان الذى نشأت فيه، معزولا عن المنيا فى البر الغربى، فضلا عما يميزه من وجود القباب المهمة والفريدة فى مقابر النجع والمعروفة بـ«زاوية الأموات»، وبدأت الرسم على الرمال وأنا فى الخامسة من عمرى، ولأن والدى كان جزارًا فكنت أحصل على ورق الجزارة، وهو الورق المعد للف اللحوم فيه، ولأننى لم أكن أملك رفاهية شراء الألوان، كنت أحصل من العطار على التوابل التى تعطى الألوان لكى أرسم بها على ورق الجزارة، وكنت أقص ذيل الحصان المملوك لوالدى من أجل صناعة الفرشاة، ومن هنا بدأت رحلة الفن، واكتشفت بعد ذلك أن الفنان المصرى القديم استخدم الألوان من مواد الطبيعة، وكيف اخترع مادة لتثبيت الألوان على رسوماته فعاشت كل هذه السنين، وهو ما كررته فى لوحاتي»، ويحتفظ الفنان المعاصر بسر المادة المستخدمة فى تركيب الألوان التى يستخدمها فى إبداع لوحاته لنفسه، وهى إحدى أسراره ومكونات عالمه السحرى.

هذا الاندماج مع مكونات الطبيعة يمكن اعتباره اللمسة السحرية التى أكسبت أعمال حسن الشرق تفردها، فهو ابن الطبيعة الغنية التى يعيش فيها، إذ يقول: «أردت أن أوثق التراث الشعبى، فالتعبير عن تفاصيل الحياة التى نعيشها هو البصمة التى تميزنى، فحرصت على أن أعبر عنها فى أعمالى المستمدة من ألف ليلة وليلة أو السير الشعبية أو الأمثال أو المربعات الشعرية، فتفاعلت مع الطبيعة بقوة، كذلك شكلت تجربة المشاركة فى الموالد المختلفة فى مصر منبعا من منابع تكوينى الفنى، فتجد مصر ممثلة من مختلف الأنحاء والأماكن والطبقات فى مولد الحسين أو السيدة زينب مثلا، لذا كنت أعد قائمة بمواعيد الموالد المختلفة فى المحافظات للمشاركة فيها، وكنت أنقل من المولد كل ما يحدث فيه من تفاصيل بائعى الحلوى والحمص والبخور، والاستماع لأشعار الصوفية، فضلا عن العادات والتقاليد المتمثلة فى الخدمات المقدمة فى الموالد لمتابعة تفاعل البشر، فكنت أعود من كل مولد بحصيلة من الأفكار والمشاهدات التى تنفجر فى أعمال فنية».

ويتابع: «حافظت على هويتى من خلال الحفاظ على لغتى بالتحدث بالعامية، وفى كل سفرياتى إلى الخارج حافظت على هذه اللهجة، وملبسى هو الجلباب؛ الزى الوطنى لبلدنا، الذى حضرت به كل الاحتفالات التى شاركت فيها فى كل الدول التى زرتها».

ويعشق الفنان التشكيلى الكبير الغناء والأغانى المصرية، لذا يحرص على مزج كلمات أشهر الأغانى مع رسوماته، ففى إحدى لوحاته التى تزين غرفة استقبال الضيوف، يستند حسن الشرق إلى قصيدة (قارئة الفنجان)، من كلمات نزار قبانى وغناء عبدالحليم حافظ، لتأتى اللوحة معبرة عن الفتى الذى تقرأ له المرأة الغجرية الفنجان، وفى الخلفية القطار رمز السفر، لأنها تحدثه عن سكة السفر أمامه. وربما يكون عشقه للغناء وأهل الطرب والشعر سببا فى دخوله تجربة يعدها الأهم فى تاريخه، إذ يقول: «أمارس الرسم منذ نحو نصف قرن، وقد مررت بالكثير من المحطات، وإحدى هذه المحطات كانت علاقتى بالشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى، وأنا مدين له بالكثير، وعشت معاه وأكلت معه عيش وملح أكثر من 15 عاما».

إقرأ أيضًا

نقيب الفنانين التكشيليين عن صورة محطة المترو: نستنكره.. ومنفذته ليست عضو نقابة

يتذكر حسن الشرق جيدا وبفخر كيف استعان به عبد الرحمن الأبنودى لكى يوثق السيرة الهلالية بالرسومات، فإذا كان الأبنودى هو الشاعر الذى جاب الكفور والنجوع بحثا عن منشدى السيرة وجمع أشعارها، فإن حسن الشرق هو من وثّق السيرة الهلالية بما يقارب 200 لوحة مختلفة، لكن ذكرى الأبنودى والسيرة الهلالية تترك غصة فى حلق حسن الشرق، الذى عبر بصوت يغالبه التأثر ولا يخفى ضيقه عما يعتمل داخل نفسه قائلا: «بعد كل هذه اللوحات والرسومات عن السيرة الهلالية، وعندما قرر قطاع الفنون التشكيلية فتح متحف ومركز عبد الرحمن الأبنودى للسيرة الهلالية، لم يستعن بأىٍ من لوحاتى، وللأسف لم يطلب منى أى طرف أن أشارك فى المتحف، والنتيجة أن متحف الأبنودى للسيرة الهلالية، لا يضم أى عمل من أعمالى».

لكن البهجة سرعان ما تعود إلى الفنان الكبير عندما يتطرق الحديث إلى تكريمه من مختلف أنحاء العالم، إذ يتحدث من قلبه ويقول: «جاءت الشهرة بالصدفة، كنت أرسم جدران منازل الحجاج فى القرية لسنوات طويلة، حتى زارت القرية المستشرقة الألمانية أورزولا شيورنج، ضمن وفد ألمانى لزيارة آثار المحافظة، وشاهدت لوحاتى وأعجبت بها كثيرًا، فكان لها فضل التعريف بى بداية من عام 1985، إذ حرصت على إقامة أول معرض لى فى مدينة شتوتجارت الألمانية، وبعدها توالت المعارض فى مدن ألمانية وفرنسية وسويسرية وأمريكية، لأحصل على التكريم بأشكال مختلفة، إذ حصلت على المفتاح الذهبى لمدينة نوربيرج الألمانية،  كما عرضت لوحتان من أعمالى بصالة الفن الحديث بمتحف اللوفر».

ويتابع: «الولايات المتحدة نظمت بينالى وهو احتفالية سنوية ضخمة، منذ عشر سنوات لجمع مختلف الفنانين من دول العالم، وبالفعل جمعوا 300 فنان للمشاركة فى الاحتفالية، لكى يحكى كل فنان تجربته ويقدم معرضا لأعماله، ومنذ الدورة الرابعة قرروا أن يرتبوا الفنانين المشاركين فى الاحتفالية، فجاء ترتيبى التاسع على مستوى العالم أو على مستوى 300 فنان من مختلف أنحاء العالم، فكان هذا أحد أهم أشكال التقدير الذى حصلت عليه، كما حصلت على شهادة الدكتوراه الفخرية من أمريكا عام 2014، وحصلت على لقب فنان الشرق عن الشرق الأوسط فى أحد المهرجانات العالمية، وقد لازمنى هذا اللقب منذ نهاية الثمانينيات، خصوصا أننى من شرق المنيا، فلاقى اللقب هوى فى نفسى لأنه يعبر عنى وعن مكانى وهويتى، ورغم كل هذا التقدير لم أحصل على تقدير رسمى داخل مصر».

ويعتز حسن الشرق بالمتحف الذى أسسه فى منزله فى نزلة سلطان منذ 30 عاما، الذى تحول إلى مزار لكل هواة الفن من أنحاء العالم، على الرغم من عدم إدراجه على خريطة المتاحف الرسمية، يقول: «فى البداية خصصت للمتحف ثلاث غرف، لكن فى المخزن الآن ثلاثة أضعاف ما هو معروض فى المتحف، وهى مقتنيات نادرة، لأنها لا تقتصر على أعمالى فقط، فهنا يوجد الكثير من أعمال الفنانين من مختلف دول العالم، فخلال زياراتى لنحو 17 دولة، كنت أحرص على تبادل الأعمال الفنية مع مختلف الفنانين».