حين يجلس القاضي على المنصة يسود الصمت في القاعة دائمًا، نراه يتكلم بلسان مبين يسمعه الجميع، وضع القدر على صدره شرف العدل، وقد أقسم على ذلك أن يقيمه بين الناس، الجميع متساوون أمامه لا فرق بين وزير وغفير؛ فالعدل أمانة السماء جعلته الأقدار أمينًا عليها، «العدل أساس الملك»، مبدأ لا يعلوه مبدأ آخر تُبنى به الأمم وتستقر به المجتمعات وتتقدم وتزدهر، وهو عماد الأمن والأمان.
والقضاء المصري وهو يرد الحق الي المظلوم، أي مظلوم مهما علا شأنه أو هبط، فهو يدافع عن القيم الأخلاقية والإنسانية، والاستنارة وحرية الفكر وينتصر للديمقراطية؛ فرئيس محكمة جنايات المنصورة المستشار بهاء الدين المري على سبيل المثال لا الحصر، وهو يتلو بالحكم على المتهم بقتل الطالبة نيرة أشرف، يبعث برسائل بليغة حتمًا سوف يسجلها التاريخ له، لا للقاتل فقط وإنما للمجتمع والآباء، قال المري في كلمته؛ «الرغبةُ صَارت حُبًا، والقتلُ لأجلهِ انتصارًا، والانتقامٌ شَجاعةً، والجُرأةَ على قِيَم المُجتمع وفُحشِ القَولِ والعلاقاتُ المُحرَّمةُ، تُسمَّى حُريةً مَكفول،. ومن هذا الرَّحم وُلدَ جَنينًا مُشوَهً، وَقُودُ الأمَّةِ صارَ حَطبَها. باتَ النشءُ ضَحيةَ قُدوةٍ مُشوهة، وثقافاتٍ، مَسمُوعةٍ ومَرئيٍّةٍ ومقروءة، هذا هو حالُها. ومن فَرْطِ شُيوعهِ، واعتباره من قبلِ كثيرين كشفًا لواقع، زُيِّنَ لهم فَرأَوهُ حَسنًا، فكان جُرمِ اليوم له نِتاجَا. أفَتذهبُ نَفسُنا عليهم حسَرات؟!، إنَّ هذا الخَللَ، إنْ لم نأخذ على أيدي المَوتورينَ ومُروِّجيهِ؛ استفحَلَ ضَرَرُه، وعَزَّ اتقاءُ شَرِّه، واتسَع الرَّتقُ على الراتق».
وليس غريبًا أن يحتفي به رواد مواقع التواصل الاجتماعي واعتبره البعض «أديب القضاة»، فالمستشار المري عضو باتحاد كتاب مصر ونادي القصة، وله مؤلفات قانونية، وأدبية بين القصة والشعر والرواية، ويعتبره نقاد وأدباء أحد كتاب الأدب القضائي، وأجريت دراسات نقدية على أعماله الأدبية، وهل ننسى ما قاله في حق ربة منزل هتكت عرض طفلة «4 سنوات»، فبعد أن تلا الحكم بمعاقبتها بالسجن المؤبد قال لها؛ «هل بين جَنبَيْكِ قلبٌ يَنبض؟ إنَّ ما جِئتِهِ شُذوذٌ وتَنكيلٌ اعتَرفتِ به وكأنك تتباهَيْن، الأمرُ الذي لم يَسَعْ المحكمةُ معهُ إلاَّ أنْ تُنزلَ بكِ حَدَّ العقاب الأقصى، بل إنها لتَراهُ - وهو الأقصَى- قليلاً»، وغيرها الكثير من الرسائل البليغة بعث بها إلى المتهمين عبر الأحكام التي قضي فيها.
هل ينسي التاريخ – علي سبيل المثال لا الحصر أيضًا- موقف القضاء المصري من قضية الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي، وكان هذا في منتصف الخمسينات، حين تقدم الشيخ خليل حسانين الطالب بالقسم العالي بالأزهر الشريف في 30 مايو سنة 1926 ببلاغ يتهم فيه الدكتور طه حسين بالجامعة المصرية، أنه ألف كتابًا اسماه «الشعر الجاهلي» ونشره علي الجمهور وفي هذا الكتاب طعن صريح علي القرآن العظيم، حيث نسب الخرافة والكذب لهذا الكتاب السماوي الكريم الي آخر ما ذكره في بلاغه وقد تضامن فضيلة شيخ الأزهر وقتذاك، وأرسل بلاغا للنائب العمومي ويتهم فيه الكاتب بنفس التهم السابقة وانضم ببلاغ آخر «حضرة» عبد الحميد أفندي عضو مجلس النواب واتهم الدكتور طه حسين بنفس الاتهامات السابقة، إلا أن رئيس نيابة مصر محمد نور قد قرر حفظ الأوراق إداريًا وفند كل الاتهامات في أكثر من عشرين صفحة منتهيًا الي «أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي علي الدين، بل أن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه، إنما قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها، وحيث أنه كذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر، فلذلك تُحفظ الأوراق إداريًا.
نعم إيماني راسخ بالقضاء المصري الذي أفخر به دومًا، فأحكامه هي ليست عنوانا للحقيقة فقط، وإنما حامية لمدنية الدولة، وحصنًا منيعًا لحرية الفكر والإبداع، جيلًا بعد جيل حتي تقوم الساعة.