قضاؤنا.. فخر الأمة

علاء عبد الكريم
علاء عبد الكريم

حين‭ ‬يجلس‭ ‬القاضي‭ ‬على‭ ‬المنصة‭ ‬يسود‭ ‬الصمت‭ ‬في‭ ‬القاعة‭ ‬دائمًا،‭ ‬نراه‭ ‬يتكلم‭ ‬بلسان‭ ‬مبين‭ ‬يسمعه‭ ‬الجميع،‭ ‬وضع‭ ‬القدر‭ ‬على‭ ‬صدره‭ ‬شرف‭ ‬العدل،‭ ‬وقد‭ ‬أقسم‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬يقيمه‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬الجميع‭ ‬متساوون‭ ‬أمامه‭ ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬بين‭ ‬وزير‭ ‬وغفير؛‭ ‬فالعدل‭ ‬أمانة‭ ‬السماء‭ ‬جعلته‭ ‬الأقدار‭ ‬أمينًا‭ ‬عليها،‭ ‬‮«‬العدل‭ ‬أساس‭ ‬الملك‮»‬،‭ ‬مبدأ‭ ‬لا‭ ‬يعلوه‭ ‬مبدأ‭ ‬آخر‭ ‬تُبنى‭ ‬به‭ ‬الأمم‭ ‬وتستقر‭ ‬به‭ ‬المجتمعات‭ ‬وتتقدم‭ ‬وتزدهر،‭ ‬وهو‭ ‬عماد‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان‭.‬

والقضاء‭ ‬المصري‭ ‬وهو‭ ‬يرد‭ ‬الحق‭ ‬الي‭ ‬المظلوم،‭ ‬أي‭ ‬مظلوم‭ ‬مهما‭ ‬علا‭ ‬شأنه‭ ‬أو‭ ‬هبط،‭ ‬فهو‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬والاستنارة‭ ‬وحرية‭ ‬الفكر‭ ‬وينتصر‭ ‬للديمقراطية؛‭ ‬فرئيس‭ ‬محكمة‭ ‬جنايات‭ ‬المنصورة‭ ‬المستشار‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬المري‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬وهو‭ ‬يتلو‭ ‬بالحكم‭ ‬على‭ ‬المتهم‭ ‬بقتل‭ ‬الطالبة‭ ‬نيرة‭ ‬أشرف،‭ ‬يبعث‭ ‬برسائل‭ ‬بليغة‭ ‬حتمًا‭ ‬سوف‭ ‬يسجلها‭ ‬التاريخ‭ ‬له،‭ ‬لا‭ ‬للقاتل‭ ‬فقط‭ ‬وإنما‭ ‬للمجتمع‭ ‬والآباء،‭ ‬قال‭ ‬المري‭ ‬في‭ ‬كلمته؛‭ ‬‮«‬الرغبةُ‭ ‬صَارت‭ ‬حُبًا،‭ ‬والقتلُ‭ ‬لأجلهِ‭ ‬انتصارًا،‭ ‬والانتقامٌ‭ ‬شَجاعةً،‭ ‬والجُرأةَ‭ ‬على‭ ‬قِيَم‭ ‬المُجتمع‭ ‬وفُحشِ‭ ‬القَولِ‭ ‬والعلاقاتُ‭ ‬المُحرَّمةُ،‭ ‬تُسمَّى‭ ‬حُريةً‭ ‬مَكفول،‭. ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬الرَّحم‭ ‬وُلدَ‭ ‬جَنينًا‭ ‬مُشوَهً،‭ ‬وَقُودُ‭ ‬الأمَّةِ‭ ‬صارَ‭ ‬حَطبَها‭. ‬باتَ‭ ‬النشءُ‭ ‬ضَحيةَ‭ ‬قُدوةٍ‭ ‬مُشوهة،‭ ‬وثقافاتٍ،‭ ‬مَسمُوعةٍ‭ ‬ومَرئيٍّةٍ‭ ‬ومقروءة،‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬حالُها‭. ‬ومن‭ ‬فَرْطِ‭ ‬شُيوعهِ،‭ ‬واعتباره‭ ‬من‭ ‬قبلِ‭ ‬كثيرين‭ ‬كشفًا‭ ‬لواقع،‭ ‬زُيِّنَ‭ ‬لهم‭ ‬فَرأَوهُ‭ ‬حَسنًا،‭ ‬فكان‭ ‬جُرمِ‭ ‬اليوم‭ ‬له‭ ‬نِتاجَا‭. ‬أفَتذهبُ‭ ‬نَفسُنا‭ ‬عليهم‭ ‬حسَرات؟‭!‬،‭ ‬إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الخَللَ،‭ ‬إنْ‭ ‬لم‭ ‬نأخذ‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬المَوتورينَ‭ ‬ومُروِّجيهِ؛‭ ‬استفحَلَ‭ ‬ضَرَرُه،‭ ‬وعَزَّ‭ ‬اتقاءُ‭ ‬شَرِّه،‭ ‬واتسَع‭ ‬الرَّتقُ‭ ‬على‭ ‬الراتق‮»‬‭. ‬

وليس‭ ‬غريبًا‭ ‬أن‭ ‬يحتفي‭ ‬به‭ ‬رواد‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬واعتبره‭ ‬البعض‭ ‬‮«‬أديب‭ ‬القضاة‮»‬،‭ ‬فالمستشار‭ ‬المري‭ ‬عضو‭ ‬باتحاد‭ ‬كتاب‭ ‬مصر‭ ‬ونادي‭ ‬القصة،‭ ‬وله‭ ‬مؤلفات‭ ‬قانونية،‭ ‬وأدبية‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬والشعر‭ ‬والرواية،‭ ‬ويعتبره‭ ‬نقاد‭ ‬وأدباء‭ ‬أحد‭ ‬كتاب‭ ‬الأدب‭ ‬القضائي،‭ ‬وأجريت‭ ‬دراسات‭ ‬نقدية‭ ‬على‭ ‬أعماله‭ ‬الأدبية،‭ ‬وهل‭ ‬ننسى‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬ربة‭ ‬منزل‭ ‬هتكت‭ ‬عرض‭ ‬طفلة‭ ‬‮«‬4‭ ‬سنوات‮»‬،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬تلا‭ ‬الحكم‭ ‬بمعاقبتها‭ ‬بالسجن‭ ‬المؤبد‭ ‬قال‭ ‬لها؛‭ ‬‮«‬هل‭ ‬بين‭ ‬جَنبَيْكِ‭ ‬قلبٌ‭ ‬يَنبض؟‭ ‬إنَّ‭ ‬ما‭ ‬جِئتِهِ‭ ‬شُذوذٌ‭ ‬وتَنكيلٌ‭ ‬اعتَرفتِ‭ ‬به‭ ‬وكأنك‭ ‬تتباهَيْن،‭ ‬الأمرُ‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يَسَعْ‭ ‬المحكمةُ‭ ‬معهُ‭ ‬إلاَّ‭ ‬أنْ‭ ‬تُنزلَ‭ ‬بكِ‭ ‬حَدَّ‭ ‬العقاب‭ ‬الأقصى،‭ ‬بل‭ ‬إنها‭ ‬لتَراهُ‭ - ‬وهو‭ ‬الأقصَى‭- ‬قليلاً‮»‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬البليغة‭ ‬بعث‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المتهمين‭ ‬عبر‭ ‬الأحكام‭ ‬التي‭ ‬قضي‭ ‬فيها‭. ‬

هل‭ ‬ينسي‭ ‬التاريخ‭ ‬–‭ ‬علي‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر‭ ‬أيضًا‭- ‬موقف‭ ‬القضاء‭ ‬المصري‭ ‬من‭ ‬قضية‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الخمسينات،‭ ‬حين‭ ‬تقدم‭ ‬الشيخ‭ ‬خليل‭ ‬حسانين‭ ‬الطالب‭ ‬بالقسم‭ ‬العالي‭ ‬بالأزهر‭ ‬الشريف‭ ‬في‭ ‬30‭ ‬مايو‭ ‬سنة‭  ‬1926‭ ‬ببلاغ‭ ‬يتهم‭ ‬فيه‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بالجامعة‭ ‬المصرية،‭ ‬أنه‭ ‬ألف‭ ‬كتابًا‭ ‬اسماه‭ ‬‮«‬الشعر‭ ‬الجاهلي‮»‬‭ ‬ونشره‭ ‬علي‭ ‬الجمهور‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬طعن‭ ‬صريح‭ ‬علي‭ ‬القرآن‭ ‬العظيم،‭ ‬حيث‭ ‬نسب‭ ‬الخرافة‭ ‬والكذب‭ ‬لهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬السماوي‭ ‬الكريم‭ ‬الي‭ ‬آخر‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬في‭ ‬بلاغه‭ ‬وقد‭ ‬تضامن‭ ‬فضيلة‭ ‬شيخ‭ ‬الأزهر‭ ‬وقتذاك،‭ ‬وأرسل‭ ‬بلاغا‭ ‬للنائب‭ ‬العمومي‭ ‬ويتهم‭ ‬فيه‭ ‬الكاتب‭ ‬بنفس‭ ‬التهم‭ ‬السابقة‭ ‬وانضم‭ ‬ببلاغ‭ ‬آخر‭ ‬‮«‬حضرة‮»‬‭ ‬عبد‭ ‬الحميد‭ ‬أفندي‭ ‬عضو‭ ‬مجلس‭ ‬النواب‭ ‬واتهم‭ ‬الدكتور‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬بنفس‭ ‬الاتهامات‭ ‬السابقة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬نيابة‭ ‬مصر‭ ‬محمد‭ ‬نور‭ ‬قد‭ ‬قرر‭ ‬حفظ‭ ‬الأوراق‭ ‬إداريًا‭ ‬وفند‭ ‬كل‭ ‬الاتهامات‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬صفحة‭ ‬منتهيًا‭ ‬الي‭ ‬‮«‬أن‭ ‬غرض‭ ‬المؤلف‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬الطعن‭ ‬والتعدي‭ ‬علي‭ ‬الدين،‭ ‬بل‭ ‬أن‭ ‬العبارات‭ ‬الماسة‭ ‬بالدين‭ ‬التي‭ ‬أوردها‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضع‭ ‬من‭ ‬كتابه،‭ ‬إنما‭ ‬قد‭ ‬أوردها‭ ‬في‭ ‬سبيل‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭ ‬مع‭ ‬اعتقاده‭ ‬أن‭ ‬بحثه‭ ‬يقتضيها،‭ ‬وحيث‭ ‬أنه‭ ‬كذلك‭ ‬يكون‭ ‬القصد‭ ‬الجنائي‭ ‬غير‭ ‬متوفر،‭ ‬فلذلك‭ ‬تُحفظ‭ ‬الأوراق‭ ‬إداريًا‭. ‬

‭ ‬نعم‭ ‬إيماني‭ ‬راسخ‭ ‬بالقضاء‭ ‬المصري‭ ‬الذي‭ ‬أفخر‭ ‬به‭ ‬دومًا،‭ ‬فأحكامه‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬عنوانا‭ ‬للحقيقة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬حامية‭ ‬لمدنية‭ ‬الدولة،‭ ‬وحصنًا‭ ‬منيعًا‭ ‬لحرية‭ ‬الفكر‭ ‬والإبداع،‭ ‬جيلًا‭ ‬بعد‭ ‬جيل‭ ‬حتي‭ ‬تقوم‭ ‬الساعة‭.‬

[email protected]