يوميات الاخبار

الأضحية فى التراث الإنسانى

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

إن فكرة التضحية موجودة فى التراث الدينى والأدبى والتاريخى للإنسان فى كل العصور، لأنها تؤكد قيماً سامية.

فى مقتبل العمر كنت أظن أن فكرة الأضحية ترتبط بالمسلمين والإسلام وحدهما، وأنها تختص بسيدنا إسماعيل فقط، لكنى حين تعمقت فى القراءة تبينت أن الفكرة ليست مقصورة على المسلمين وحدهم، لأنها تؤكد على معانٍ رائعة، أولها طاعة الله، وثانيها طاعة الأبناء للآباء، وثالثها أن الله سبحانه وتعالى يكافئ عبده المطيع، لذا رأيت أن أعرض بعض تجلياتها التى اطلعت عليها فى هذه اليوميات.
الأضحية عند اليونان


من المسرحيات اليونانية القديمة مسرحية اسمها «إيفيجنيا فى أوليس» للكاتب الشهير يوربيديس، وهذه المسرحية تحكى قصة شبيهة بأضحية بشرية تم فداؤها بحيوان، مما يذكرنا بقصة سيدنا إسماعيل إلى حد كبير..
لم يكن اليونان يعرفون الأديان السماوية، لكنهم عرفوا فكرة الأضحية البشرية لإرضاء الإلهة أرتميس، وعرفوا فكرة الفداء بغزالة، وعرفوا فكرة طاعة الأبناء للآباء احتراماً لإرادة الله.


الأضحية فى الديانة اليهودية
إذا كنا نحن المسلمين نعتقد أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام فإن اليهود يعتقدون أن الذبيح هو إسحق عليه السلام، ابن سيدنا إبراهيم من سارة. وسنروى القصة بالاعتماد على الإصحاح الثانى والعشرين من سفر التكوين، من التوراة.
ها هو إبراهيم عليه السلام فى أرض الفلسطينيين، وإذا به يسمع صوتاً يناديه:
- يا إبراهيم
- ها أنذا
- خذ ابنك وحيدك الذى تحبه، إسحق، واذهب إلى أرض المُرِيّا، وأصعده هناك مُحرَقة على أحد الجبال الذى أقول لك.
فى الصباح الباكر شد إبراهيم عليه السلام على حماره، وأخذ ولده، واثنين من غلمانه معه. جمعوا الحطب. جهزوه ليناسب المحرقة. ساروا إلى الموضع الذى أمر الله نبيه أن ينزل به، وفى اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد. ثم قال للغلامين: اجلسا ها هنا مع الحمار، أما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما.
وأوكل إبراهيم عليه السلام أمر حمل الحطب لولده، وأخذ بيده النار والسكين، وذهبا كلاهما معاً. وخاطب إسحق والده: يا أبي
- ها أنذا يا بني.
- هو ذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟
- الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني.
واستمرا فى المسير. ونلاحظ هنا أن إبراهيم عليه السلام لم يقل لولده إنه سيذبحه كما هو الحال مع إسماعيل عليه السلام فى القصة القرآنية.
بنى الأب مذبحاً، ورتب الحطب فوقه، ثم ربط ابنه إسحق، ووضعه فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، حينئذ ناداه ملاك الرب من السماء وقال:
- إبراهيم.. إبراهيم
- ها أنذا
- لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. لأنى أنا الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني.
فرفع إبراهيم عينيه وإذا كبش وراءه مربوطاً من قرنيه فى الغابة، فذهب وأخذ الكبش، وأصعده المحرقة عوضاً عن ابنه.
هذه هى قصة إسحق الذبيح كما ترويها التوراة، وهى تؤكد على ثلاثة عناصر رأيناها من قبل فى مسرحية إفيجينيا:
- طاعة الأب لربه.
- طاعة الابن لأبيه لما أمر به الله.
- الفداء بكبش (فى قصة إفيجينيا كان الفداء بغزالة).
وربما لاحظنا أن القصة هنا لا تكتفى بالذبح، بل يقترن فيها الذبح بالحرق، لكن هذا اختلاف يسير لا يمس جوهر الموضوع.
ذبيحان
إذا كانت الديانة اليهودية تؤمن بفكرة إسحق الذبيح، فإن الديانة الإسلامية فيها أكثر من ذبيح. فقد نسب إلى النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال «أنا ابن الذبيحين» والذبيحان هما إسماعيل عليه السلام، وعبد الله والد النبي. وها نحن نروى القصتين:
إسماعيل
وردت قصة إسماعيل عليه السلام فى القرآن، وموجزها أن إبراهيم عليه السلام كان بلا ذرية، وحين بلغ به الكبر عتيا سأل ربه أن يعطيه الولد «رَبِّ هَب لِى مِنَ الصَّلِحِينَ» واستجاب الله للدعاء «فبشرناه بِغُلَمٍ حَلِيم» ولما اشتد عود إسماعيل عليه السلام رأى إبراهيم فى منامه أن الله يأمره بأن يذبح ولده، فذهب إلى ولده، وها هو يحاوره:
- (يا بني إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى).
- (يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين).
وأخذ إبراهيم ولده لمكان الذبح. واستسلم الأب والابن لأمر الله، وتل إبراهيم ولده للجبين، أى صرعه على شقه. وحينئذ جاءه صوت ينادى:
- يا إبراهيم قد صَدَّقتَ الرؤيا إنا كذلك نَجزى المحسنين. إن هذا لهو البلاء (الاختبار) المبين.
والتفت إبراهيم فرأى كبشاً عظيماً أرسلته السماء فداءً لولده: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).


هذا هو الذبيح الأول الذى صارت ذكراه عيداً للمسلمين يحتفلون به كل عام ليتذكروا معنى طاعة الله وطاعة الأب.
الذبيح الثانى
يروى ابن هشام فى السيرة النبوية أن عبد المطلب، جد النبى صلى الله عليه وسلم أقسم أن يذبح أحد أولاده إذا هو أنجب عشرة أولاد، وقد رأى حين اشتد عود أبنائه أن يبر بقسمه، فذهب لمن يضرب بالقداح (ضرب القداح شيء أشبه بالقرعة فى زماننا، لكنه كان مقدسا، وكانوا يظنون أن الآلهة هى التى تقوم بالاختيار فيه)، ووقعت القداح على عبد الله من بين كل الأبناء كى يذبح. وحينئذ رفض القرشيون ذبح عبد الله، وبحثوا عن مخرج من هذه السنة التى لو اتبعها الناس لأفنوا أولادهم. وانتهى أمرهم بأن أشاروا على عبد المطلب بأن يذهب لكاهنة فى الحجاز يبحث عندها عن مخرج، ولم يجد عبد المطلب الكاهنة، بل أخبروه أنها فى خيبر، فذهب إليها فى خيبر، وحين قابلها سألته: كم دية الرجل عندكم؟ فأخبرها أنها عشر من الإبل، فقالت له ولمن معه: «فارجعوا إلى بلدكم ثم قربوا صاحبكم وقربوا عشراً من الإبل حتى يرضى ربكم، فإن خرجت على الإبل فانحروها عنه فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم». وعاد القوم إلى مكة، وأعادوا ضرب القداح، فخرجت القداح بذبح عبد الله، فزادوا عشرا أخرى، فخرجت بذبح عبد الله، ولا زالوا يزيدون حتى وصل عدد الإبل مائة، وعندئذ جاءت القداح على الإبل، فنجا عبد الله، ولولا أنه نجا ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم إلى الوجود.


وما يهمنا فى قصة الذبيحين هو المغزى الإيمانى العميق لطاعة الله، وطاعة الأبناء للآباء، وأنه سبحانه يكافئ الطائعين.
تضحية دون فداء
فى القصص السابقة رأينا أن التضحية ترتبط بالفداء، أى يتم افتداء الإنسان المزمع التضحية به بحيوان:
- فى قصة إفيجينيا كان الفداء بغزالة.
- فى قصة إسحق وإسماعيل كان الفداء بكبش.


- فى قصة عبد الله والد الرسول كان الفداء بمائة من الإبل.
لكن هناك قصصا أخرى تتم فيها التضحية بالإنسان دون فداء، ومن قصص الأضحيات البشرية التى ليس فيها فداء قصة عروس النيل المصرية. ومصدر هذه القصة هو المؤرخ ابن عبد الحكم فى كتابه فتوح مصر والمغرب. قال ابن عبد الحكم إنه لما فتحت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل شهر بؤونة (من الأشهر القبطية) فقالوا: أيها الأمير، لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت اثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر، فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النيل .


فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون فى الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله.


قال: فأقاموا (شهور) بؤونة وأبيب ومسرى والنيل لا يجرى قليلا ولا كثيرا، حتى هموا بالجلاء (أى ترك البلد خوفاً من المجاعة)، فكتب عمرو إلى (الخليفة) عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أَصبت بالذى فعلت، وإنى قد بعثت إليك بطاقة داخل كتابي، فألقها فى النيل.
فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة فإذا فيها «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجرى من قِبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجرى بأمر الله الواحد القهار، وهو الذى يجريك، فنسأل الله تعالى أن يجريك».
قال: فألقى البطاقة فى النيل، فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ست عشرة ذراعا فى ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنّة عن أهل مصر إلى اليوم».


وينكر بعض المؤرخين هذه القصة، ويؤكدون أن التاريخ المصرى القديم برىء من التضحية بالبشر، لكن من المؤكد أن فكرة العروس استمرت بعد الإسلام لأكثر من ألف سنة، مما يؤكد إيمان المصريين بها، إلا أنها حدث فيها تعديل، فقد استبدلت العروس الحقيقية بعروس من طين، وقد رأى المستشرق إدوارد لين الذى زار مصر فى بداية القرن التاسع عشر هذه العروس ووصفها فى كتابه «المصريون المحدثون».