عائشة المراغى تكتب: مثقفو الوطن العربي يحتفون بجابر عصفور في بيته

فخرى كريم، فاطمة الصايغ، د. إيناس عبد الدايم ، د. هشام عزمى
فخرى كريم، فاطمة الصايغ، د. إيناس عبد الدايم ، د. هشام عزمى

الأسرة تعلن عن إنشاء مكتبة ثقافية لطلاب الدراسات العليا فى منزله بالسادس من أكتوبر

إطلاق اسمه على الدورة القادمة من مؤتمر الرواية فى سبتمبر

د. أنور مغيث: الترجمة العكسية من العربية للغات الأخرى تتطلب تقديم الدعم للناشرين والمترجمين الأجانب، كما تفعل مختلف البلدان معنا

لطالما كان د. جابر عصفور مثيرًا للقضايا الجدلية، يميل إلى التجديد والنقاش، ولا يرتكن إلى الثوابت والفِكر التقليدى، وهكذا ظلَّت أفكاره تثير الجدل حتى بعد رحيله، فجاء ملتقاه الدولى «جابر عصفور.. الإنجاز والتنوير» الذى أقامه المجلس الأعلى للثقافة الأسبوع الماضى على مدار يومين، بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن على العويس الثقافية؛ استكمالًا لرحلته الفكرية فى حياته، حيث شهدت الجلسات مناقشات ساخنة بين المتحدثين والحضور، كاد بعضها أن يتحول  إلى معارك كلامية لولا سيطرة مديرى الجلسات عليها.

فى الافتتاح كانت البداية مع د. هالة فؤاد زوجة د. جابر، التى ألقت كلمة الأسرة، وحاولت فيها أن تتجاوز الأشكال الرسمية لتصبح الجلسة أسرية يملؤها الدفء الإنسانى، ولذلك لم تتوجه بالشكر للقائمين على المؤتمر، متسائلة «كيف أشكر أهل البيت على تكريم صاحب البيت؟» إذ رأت أن عصفور هو من منح هذا المكان حضوره المتوهج والفعّال.

على مدى سنوات طويلة، وجعله قبلة للمثقفين العرب والمصريين، وعمل من خلال سياسته الثقافية داخل المكان على استعادة مصر لمكانتها بين شقيقاتها من الدول بعد قطيعة طويلة نالت من مكانتها وقوتها الناعمة.

واستطردت: «أما مؤسسة العويس فأرى أنه من المنطقى والطبيعى أن تكون تلك المؤسسة من أوائل المشاركين فى تكريم جابر عصفور، لأن رسالتها تنطوى على معنى الاحتفاء بالقيمة».


وأعلنت فؤاد أنه سيتم قريبًا جمع الكتابات التى انهمرت كالمطر فى الصحف والمجلات، وخصت بالذكر منها أربع مطبوعات رئيسية، الأولى مجموعة دار المدى التى جاء بها فخرى كريم.

وكتاب حارس التنوير» وهى مجموعة أبحاث مهداة لروح عصفور إعداد وتقديم على السعدى من العراق، وكتاب الدكتور طارق نعمان «خطاب عصفور النقدى.. قراءات تأسيسية» الذى التقط فيه نقاطًا جوهرية فى مشروع جابر عصفور الثقافى.

وتوقف فيها عند علاقة الناقد الأدبى بالفلسفة وبالمنجز الفلسفى، وأخيرًا العدد المعنون بـ «الرحيل والإقامة» من مجلة فصول التى يرأس تحريرها الدكتور حسين حمودة.


وأضافت د. هالة: «لم يكن جابر زوجًا وحبيبًا فقط، بل كان رفقة العمر الجميل وهو الأستاذ الذى أدين له بالفضل، ووفاء بدينى لهذا الرجل الاستثنائى بكل ما للكلمة من معنى فلابد من أداء الأمانة، لذا أعلن اليوم عليكم الاستراتيجية الثقافية التى أعدها الراحل العظيم مع فريق عمل ممتاز.

وهى وصيته إلى بلاده، لا أستطيع قراءتها كاملة لأنها تزيد على 50 صفحة، وسوف تُطبع قريبًا، وضعها عصفور مع فريق كبير عام 2015، ومنهم: الراحل السيد يسين، وطارق النعمان، وعماد أبو غازى، وجمال غطاس، وأحمد عاطف، وسعيد المصرى، وأنور مغيث، والراحل سيد حجاب، وسمير مرقص، ومحمد حافظ دياب، وأسماء عديدة أخرى.

تم هذا وفقًا لحوارات جادة مع المثقفين وجمعيات المجتمع المدنى والوزارات المعنية، وأهم فكرة فى الاستراتيجية ليست صناعتها، وإنما المنظومة الثقافية، فعمل كهذا يحتاج إلى التعاون، وقد تم إبرام بروتوكولات مع 16 وزارة، لتأسيس مجموعة وزارية ثقافية، مثلما حدث فى التنمية الاقتصادية.واختتمت د. هالة فؤاد كلمتها بأبيات كان يرددها الراحل من ديوان «أحلام الفارس القديم» لصلاح عبد الصبور:
صافيةً أراكِ يا حبيبتى كأنما كبرتِ خارجَ الزمنْ
وحينما التقينا يا حبيبتى أيقنتُ أننا
مُفترقانْ
وأننى سوف أظلُّ واقفًا بلا مكانْ
لو لم يُعدنى حبُّكِ الرقيقُ للطهارةْ
فنعرفُ الحبَّ كغصنى شجرةْ
كنجمتين جارتينْ
كموجتين توأمينْ
مثل جناحَى نورسٍ رقيقْ
عندئذٍ لا نفترقْ
يضمُّنا معًا طريقْ
يضمّنا معًا طريقْ.
وعن المشاركين تحدث المفكر العراقى فخرى كريم، قائلًا إن الدكتور جابر عصفور كان يتمتع بثقة ومكانة بين المثقفين والمفكرين فى العالم العربى، لذا تمكّن بالتعاون معهم من تجاوز «السياسى» لصالح الثقافى كحامل همٍ لكشف مكامن القوة فى الأمة، ومصادر استنهاضٍ لطاقاتها.

والارتقاء بكل ما يقود إلى كشف مكامن الضعف، والعوامل التى تغذى الأزمات المستدامة وتدويرها، والسبل الكفيلة بالتصدى لها. واستطاع عصفور بذلك أن يجعل من المجلس الأعلى للثقافة قبلة للمثقفين ومنبرًا للاستنارة والتحديث والتجديد، ولم يقتصر دوره على ما حُدد له من مهام تأسيسية، بل تخطاها، بما تلبس جابر عصفور، من هواجس للتمدد والتوسع فى كل اتجاهٍ يُسرّع فيه حركة تفعيل العمل الإبداعى والثقافى. 


وأضاف كريم: «لكن من اللافت أن كل ما تميز به عصفور من نشاط وفعالية، سواء فى ميادين مسؤولياته فى المجلس أو مشاركاته فى الفعاليات العربية والأجنبية، لم يحد من جهده الكتابى ناقدًا ومثقفًا تنويريًا. كان يقبل على الكتابة مثل تلميذ ملزم بإنجاز وظائفه المدرسية البيتية. قال لى مرة.

وهو عندى فى إحدى زياراته لى مع شريكته الأثيرة الدكتورة هالة، وأنا منشغل فى متابعة أحد الاصدقاء مؤجلًا كتابة افتتاحية الجريدة: يا أخى أترك هذه العادة المتخلفة، وقت الكتابة مقدس. تصور لو أن المرحوم والدى وهو حى يزورنى يوم الثلاثاء وقت كتابة مقالتى لما فتحت له باب مكتبى إلا بعد انتهائى من كتابة المقال».


بينما ألقى د. جمال الشاذلى، نائب رئيس جامعة القاهرة لشؤون التعليم والطلاب، كلمة الجامعة بالنيابة عن د. محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، قائلًا: «إذا كان هذا الملتقى الدولى يتم تنظيمه احتفاء وتخليدًا لقيمة المبدع الراحل التنويرية، فإننا فى حاجة ماسة وجادة للإلمام بفكره وآراءه النقدية والفكرية الداعمة لتحقيق كافة القضايا التنويرية». مضيفًا أن الراحل الدكتور جابر عصفور كان أحد الرموز الذين شاركوا فى الإعداد لوثيقة التنوير التى أعدتها الجامعة، حيث لا يمكن أبدًا الحديث عن التنوير دون أن تكون هذه القيمة التنويرية الكبيرة حاضرة بقوة، فهو رمز من رموز الثقافة العربية وصاحب مبدأ لا يحيد عنه قيد أنملة.


وألقت د. فاطمة الصايغ كلمة مؤسسة سلطان بن على العويس الثقافية، مشيرة إلى أن هذا الملتقى بمثابة تأكيد على قيمة العمل الثقافى المشترك النابع من رغبة أكيدة، خاصة أن الاحتفاء يطال شخصية ثقافية واسعة الطيف عربيًا، حيث كان الراحل جابر عصفور ضميرًا ثقافيًا تنويرًا عربيًا، وقد أثر حضوره على كثير من مفاصل العمل الثقافى داخل مصر وخارجها، وكان له حضور فكرى متميز فى المحافل الثقافية وكذلك الأكاديمية، مما جعل منه قيمة مضافة استحقت التقدير والعرفان.


بينما بدأ الدكتور هشام عزمى الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، كلمته بالترحيب بمؤسسة العويس وممثلتها د. فاطمة، ثم قال: «نجتمع اليوم لنحتفى بجابر عصفور، تلك الشخصية المتفردة التى احتلت مكانةً خاصةً فى الثقافةِ المصريةِ والعربيةِ، امتد تأثيرُها ليتجاوزَ حدود مصر إلى العالم العربى الكبير من محيطهِ إلى خليجهِ.

ولم يكن هذا التفرد يقينًا محض صُدفةٍ، بل كان نتاجًا لمشوارٍ طويل من العمل الدؤوب والجهد المخلص والفكر الجاد المستنير، حتى تبوأ مكانته كواحدٍ من أبرز وأهم المثقفين والمفكرين العرب خلال العقود الخمسة الأخيرة».


وأضاف عزمى: «مآثر الراحل كثيرة وإنجازاته عديدة، فهل نتحدثُ عن جابر عُصفور التنويرى البارز الذى آل على نفسه استكمال جهود التنويرين الأوائل محمد عبده وطه حسين وقاسم أمين وغيرهَم، فى فترة حرجة مر بها الوطن، فكتب الكثير عن قضية التنوير راصدًا لمحنته، ومدافعًا عنه، أم نتحدث عن الأستاذ الأكاديمى والناقد الكبير صاحب الرصيد الزاخر بالدراسات الأدبية والنقدية، أم نرصد أعمال هذا المترجم العظيم؟».

واستطرد: «ربما يكون الجسد قد رحل لكن اسم جابر عصفور سيظل باقيًا فى قلوب كل من عاصره وزامنه أو نهل من علمه أو أفاد من مشروعه الثقافى وفكره ومنهجه، وهم كُثر». 


اختتمت الجلسة د. إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة، بقولها إن د. جابر استطاع فى كل فتراته أن يعطى دروسًا فى فنون الإدارة، وإن رحيله سيترك فراغًا لن يشغله غيره، لذا لم يكن من المستغرب أن تأتى كل تلك الكوكبة من رفاقه وتلاميذه الذين استشعروا فداحة الخسارة.

والملتقى ما هو إلا تقدير لمكانة وقيمة هذا الرجل، واعتراف بدوره فى مصر والعالم العربي، وستبقى إنجازاته وبصماته فى الساحة الثقافية خالدة على مر العصور تشهد لمسيرة عمل مشرف وعظيم.


وقبل رفع الجلسة أعلنت الدكتورة هالة فؤاد عن نية الأسرة فى أن يصير منزل الراحل جابر عصفور فى مدينة السادس من أكتوبر مكتبة ثقافية لطلاب الدراسات العليا، وكذلك لإقامة الندوات والأمسيات الثقافية.


انحياز للنقد الشعرى
حملت الجلسة الأولى عنوان «جابر عصفور أستاذًا وناقدًا» ورأسها الكاتب السعودى د. عبد العزيز السبيل، الذى يعود إلى نفس المكان بعد ست سنوات، إذ كان يجلس على يمين د. جابر عصفور عام 2016 بإحدى الندوات فى المجلس، يقول: «من خلال مطالعة عناوين كتبه يمكننى القول إن د. جابر عصفور وقف أمام المرايا المتجاورة، فعاصر زمن الرواية وناقش مفهوم الشعر واحتفظ بذاكرته.

وقع فى غواية التراث وسنّ قلمه دفاعًا عن التراث. وقف ضد التعصب وصمد فى مواجهة الإرهاب. عاش محنة التنوير وسخر فكره دفاعًا عنه. رحل لكنه سيبقى رمزًا تنويريًا خالدًا فى تاريخ الثقافة العربية».


شارك فى الجلسة النقاد د. محمد بدوى، د. أحمد درويش، د. طارق النعمان، والروائية المغربية زهور كرام.تحدث د. محمد بدوى عن علاقة د. جابر كناقد، بالشعر، قائلًا: «الشعر هو الفن الذى نتربى عليه صغارًا ويظل معنا حتى كهولتنا.

وقد كان جابر عصفور مهيئًا لأن يكون ناقدًا متميزًا للشعر، وقد كانت تلك النقطة الأكثر إضاءة وأهمية فى مسيرته، رغم ما أثاره كتاب «زمن الرواية» من عاصفة نقدية وسياسية واجتماعية حين صدر قبل ذلك. لكن نقاد الشعر، للأسف، يتناقصون، بل يكادون أن يختفوا، لأسباب كثيرة من أبرزها الضعف العام فى الأكاديميات العربية، فهو أكثر نوع أدبى يحتاج إلى عدة معقدة.

وناقد الشعر عليه أن يتمتع بالحساسية والكفاءة القرائية لهذا الفن الصعب المراوغ. وقد كان عصفور يعرف عن الشعر كثيرًا، ثم أنه رُبى فى عقدى الخمسينيات والستينيات على احترامه، فى تلك الفترة التى كان لايزال الشعر يتصدر المشهد خلالها».


وأضاف بدوى: «كان عميق المعرفة بتراث الأمم المجاورة، لذا نجد وجه المفكر الإغريقى الشهير أرسطوفى كتابات عصفور عن التراث البلاغى والنقدى، بجانب الأسس الجمالية التى طالما كان يتبناها، وما بين المسار الأكاديمى ومحاولة الانفلات منه، تكشفت قضية الحداثة والتنوير فى فكره». 


بينما وصفه د. أحمد درويش قائلًا: «من السمات الرئيسية لجابر عصفور أنه كان رجلًا من عامة الناس، ينتمى مثلنا إلى أبناء الفقراء خارج العاصمة، نحن القادمون من قرانا لنواجه الحياة فى القاهرة، أتى بهذا الطموح من المحلة الكبرى فى العِقد الأخير من الأربعينيات ليتلقى الزخم والتكوين العلمى فى الجامعة.

ويتسلح بهذا الوعى العلمى النفاذ والرغبة فى التغيير، فهو يملك نوعًا من التمرد الإيجابى، مارسه فى مجال الثقافة عندما تولى المجلس، وأذكر أننى كنت معه فى اليوم الأول، وشهدتُ الحيرة التى كان يعانيها من الروتين والرغبة فى دفع هذه الأمور دفعًا جديدًا مختلفًا أمام المسئولين التقليديين ممن لا يفهمون طموحاته الواسعة فى تغيير مسيرة الثقافة». وأضاف: «جابر عصفور صنع أشياء عظيمة ستظل نبراسًا لأجيال تالية، وقد أصبحت القاهرة فى عصر إدارته  الثقافية ملتقى عظيم لكل المثقفين العرب».


أما د. زهور كرام، فقد انطلقت كلمتها من تساؤل «كيف يمكن لمشروع جابر عصفور النقدى أن يساعدنا فى التفكير فى اللحظة الراهنة؟». واستكملت: «الثقافة العلمية تعلمنا أن أى مشروع تتسع رؤيته بعاملين؛ الأول هو الزمن لأن طرق التفكير حين تتغير يحدث معها تغييرًا فى التأويلات.

والثانى هو النضج المفترَض فى التلقى، والعلاقة بين العاملين تفاعلية. وإذا وضعنا مشروع جابر عصفور النقدى بين هذين العاملين سنلاحظ أن هناك فرق فى المفاهيم بين المرحلة التى تم فيها تأسيس والوقت الراهن، لذا نجد اليوم ما يُسمى بمراجعة المفاهيم على مستوى البلدان المختلفة،لأننا نعيش زمنًا ثقافيًا جديدًا. ولذلك نحن فى حاجة إلى إدخال مشروع عصفور إلى البحث الأكاديمى». واقترحت د. زهور بعض العناصر التى يمكن استلهامها من مشروع د. جابر النقدى، من بينها: مفهوم المشروع، تاريخية المفهوم، صناعة الأسئلة، والاستمرار.


فى حين وصفه د. طارق النعمان بأنه متعدد الوجوه والمرايا والأسئلة، لديه بركان من الطموح والتساؤلات التى ظلت تراوده وتتردد بداخله منذ تخرجه. وأضاف: «موقف جابر عصفور كمثقف من السُلطة قد يبدو لكثيرين إشكاليًا وغير اعتيادى، سواء ممن تربوا فى أحضان تلك السُلطة أو ممن يكرهونها سلفًا،لكن حضوره ظل طاغيًا، وحين تولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة استطاع من خلاله أن يعيد للقوة الناعمة دورها التاريخى، ولمصر مكانتها الرائدة». 


واستطرد النعمان: «على مستوى العالم العربى يوجد عدة نماذج للمثقف؛ نموذج للمثقف الخادم للسلطة، وآخر انعزالى، وثالث هو المثقف اليسوعى أو السقراطى الذى تكون نهايته بائسة. وقد نال عصفور جزاءه عام 1981 حين طُرد مع آخرين من الجامعة، لكنه كان عمليًا وذكيًا جدًا، وانتهز تلك اللحظة التى بدا فيها النظام أكثر حيرة بعد اغتيال فرج فودة، فذهب لسمير سرحان لإصدار تراث التنوير».


وفى نهاية كلمته أوصى النعمان أن تكون الدورة القادمة من ملتقى الرواية وجائزته باسم جابر عصفور، فهذا أقل ما يمكن تقديمه من ملتقى هو مؤسسه، فردَّت د. إيناس عبد الدايم بأن ذلك مقرر بالفعل. وفى نهاية الجلسة أعلنت أن ملتقى الرواية سيُعقد فى سبتمبر القادم باسم د. جابر عصفور.


وقبيل انتهاء الجلسة تداخلت د. هالة فؤاد  لتعقب على كلمات المتحدثين، مؤكدة أن علاقة المثقف بالسُلطة معقدة جدًا، لكن اختيار عصفور الدائم كان الوطن، إلا أنه كان حالمًا ولم يقبل سوى أن يحاول ظنًا منه أنه يستطيع التغيير والمقاومة.

وحين أدرك الخديعة انسحب، وتتذكر قائلة: «لقد رأيته وزوجته الأولى الراحلة د. ثرية وهما يبكيان كالأطفال عند إعلان أسماء شهداء يناير فى 2011». وأشارت إلى أنه كان مستقبليًا بامتياز، ومنحازًا للشعر بشكل خاص، فأدخل كثيرًا من الأسماء الشعرية للحياة الثقافية، كأدونيس مثلًا. 


رائد التنوير
وحول «قضايا التنوير» دارت الجلسة الثانية للملتقى، برئاسة الكاتب الإماراتى ناصر الظاهرى، الذى ذكر أن لقائه الأول بجابر عصفور كان فى باريس عام 1995، وأنه يفتقده قارئًا وطارحًا للأسئلة.  


شارك فى الجلسة كل من: الكاتب الجزائرى واسينى الأعرج، الناقد شعبان يوسف، د. نبيل عبد الفتاح، والمفكر البحرينى د. حسن مدن.تحدث واسينى الأعرج عن اليوتوبيا فى مشروع جابر عصفور، مؤكدًا أن رحيله خسارة قومية كبيرة لا مصرية فقط.وعن أزمة التنوير قال: «التنوير فى مجتمعات لا تزال حتى اليوم يسودها الظلام شىء ليس باليسير.

وقد ظهر كرؤية ومصطلح فى فترة شديدة القسوة تمتلئ بسلسلة من الخيبات والخسائر فى المجتمعات العربية، فجاءت أسئلة عصفور كى تضع سـؤال: لماذا كل تلك الهزائم؟ وأسئلة وكتابات عصفور النقدية والفكرية غيرت كثيرًا من أسلوب وأسس الطرح لمعظم القضايا الثقافية والنقدية، ونجده فى مسيرته منحازًا للأسئلة المجتمعية».


واستكمالًا لحديث واسينى الأعرج؛ قال شعبان يوسف: «جابر عصفور هو ناقد أدبى فى الأساس، واستطاع من خلال طاقة التنوير التى أطلقها منذ سنواته الأولى أن يضع الكثير من الأفكارالنقدية والرؤى، خاصة فى الشعر، سواء القديم أو الحديث.

وكان نتاجها عددًا من الكتب فى هذا الشأن». ثم تناول تجربة عصفور النقدية مع صلاح عبد الصبور الذى ربطته به علاقة صداقة قوية استمرت حتى وقت رحيله، إذ كان عصفور يرى أن كتابات عبد الصبور وأشعاره تتضمن رؤية تنويرية، وقد ربطت أشعاره  بين الأحداث السياسية والمفردات الشعبية.


بينما صرح د. نبيل عبد الفتاح بأنه لا يميل لاستخدام المجاز التنويرى فى الحديث عن صديقه د. جابر، وإنما يميل إلى وضعه ضمن مسار التجريب الذى بدأ فى القرن الثامن عشر،وبالتالى يمكن وضع إنتاجه الفكرى كجزء من تيار واسع بدأ مع رفاعة الطهطاوى وسلامة موسى ولطفى السيد ومحمود شلتوت، استطاع الانفتاح على العالم الغربى.

ربط بين العقلانية والحرية والعدالة». واختتم قائلًا: «أتمنى ألا يقتصر دورنا فقط على تناول الجوانب المهمة لجابر عصفور، رغم أهمية إنجازه الخلاق كناقد كبير، لكن لابد أن نركز على ثقافة السؤال فى لحظة تشهد حالة من حالات التحول الجذرى فى العالم».


واقترح د. حسن مدن أن تكون هناك جائزة باسم الدكتور جابر عصفور تحمل صيغة التنوير، باعتبار أنه أحد رواد التنوير فى الوطن العربى، مشيرًا إلى أن د. جابر قد تعرض لشتى مناحى التنوير من خلال رصده للتراث وبعض الأحداث التاريخية التى توقف عندها وطرح حولها التساؤلات وأعاد قراءتها برؤية جديدة.


وانتهى اليوم الأول بجلسة شهادات حول ريادة جابر عصفور فى الثقافة العربية، أدارها د. محمد صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، وشارك فيها د. حسين حمودة، د. شريف الجيار، د. عبد الرحيم علام، د. فوزى الحداد، د. محمد عفيفى، د. نبيل حداد، د. فخرى كريم، وأرسل الروائى السورى خليل النعيمى «فيديو» مسجَّل.


استرجع د. حسين حمودة ذكريات لقاءه الأول مع د. جابر قائلًا: «لقاؤنا الأول، أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان فى مدرج مجاور لقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة. كان عائدًا من الولايات المتحدة، وكان يدرّس لى مادة النقد الحديث. وكنت تلميذًا مشاغبًا، أكتب الشعر.

وأعتدّ بما أتصوره مفاهيم صحيحة عن الأدب والنقد. عندما فتح باب النقاش تحدثت مختلفًا معه، مؤيدًا حديثى بالأسانيد، وظل هو مبتسمًا. بعد المحاضرة نادانى، وتعرّف علىّ، وشجعنى على الاختلاف. من يومها توطّدت الصلة بيننا. وبعد المحاضرات الأولى، وكان قد قرأ بعض قصائدى، اصطحبنى لتسجيل حلقتين بالإذاعة عن شعرى مع الأستاذة هدى العجيمى».


وأضاف حمودة: «الدور الذى قام به فى حياتى، كأستاذ لى، يكفى لكى يجعله باقيًا معى فيما تبقى لى من فترة للعيش فى هذه الحياة.. ولكن الأدوار الثقافية والنقدية الكبرى التى قام بها، فى مصر والوطن العربى، تجعله باقيًا لدى كل من عرفوه، أو اقتربوا منه..

وطبعًا مع كل من قرأوا أعماله المشهودة التى صاغت نتاجه الغزير.. الذى نجح فيه نجاحًا باهرًا فى أن يتخطى أسوارًا كثيرة، وأن يصل الكتابة بأسباب الحياة التى لا تكف عن التدفق والتجدد، وأن يدافع عن قضايا أبدية تستحق الدفاع عنها فى كل عصر وكل أوان».


بينما أشار د. شريف الجيار إلى أن عصفور قدم مشروعًا لحماية الأمن الثقافى المصرى والعربى، وتحدث عن تأثره بطه حسين قائلًا: «كان تأثير طه حسين على د. جابر هو التأثير الأكبر من بين جميع الشخصيات التنويرية التى تعرف عليها فى نشأته، ارتبط به منذ صباه.

وأصبح نموذجًا يسعى إلى أن يكون مثله، وقد أثمر هذا التماهى مع فكر طه حسين مشروعًا تنويريًا جسورًا، أسسه ذلك المثقف العضوى جابر عصفور، بحضوره وطموحه وشجاعته وعناده، عبر منجزه النقدى والفكرى، لا سيما كتبه التى جسدت رؤاه التنويرية الإصلاحية». 


عقب ذلك عُرضت بالفيديو مداخلة قصيرة لخليل النعيمى، وتمحورت حول علاقته بعصفور، التى امتدت منذ أعوام حينما شهدت مدينة النور «باريس» لقاءهم خلال إحدى التظاهرات الثقافية المنعقدة آنذاك، وأشار إلى أن عصفور كان غزير الحكى بشكل عام، وكانت أحاديثه عادة ما تدور حول الأفكار الثقافية التنويرية، بما لها من أهمية ثقافية كبرى.


وأوضح عبد الرحيم العلام أن عصفور انتصر للفكر التنويرى، من منطلق امتلاكه لرؤية ثقافية ونقدية عقلانية فريدة من نوعها، وهو ما جعله يحظى بمكانة اعتبارية رفيعة، فى بلده وفى مختلف البلاد العربية وخارجها، كما عمل طوال رحلته الزاخرة بالعطاء والإنتاج والتأمل وتجديد أسئلة فكرنا النقدى العربى، على تشييد مشروعه الثقافى والفكرى الكبير والمؤثر، عبر ما خلفه للمكتبة العربية من مؤلفات وكتب رائدة فى مجالها، وعبر ما نشره من مقالات ودراسات وأبحاث وترجمات، منشغلًا فيها بقضايا عديدة.


ومن خلال عمله تحت إدارته قال د. محمد عفيفى إن د. جابر عندما صار وزيرًا، كان يفضل الإقامة فى مكتبه بالمجلس الأعلى للثقافة عن مكتب الوزارة، ووصل به الأمر أن فكر فى نقل مكتب الوزير بشكل دائم إليه، إذ كان يعتبر المجلس عقل الوزارة.

وأضاف: «كانت لديه قدرة على تجاوز الأزمات، وأدرك أن المعركة تخص ثقافة المجتمع بشكل أساسى».وقال د. نبيل حداد: «رفض جابر عصفور بضراوة أن تتحول الثقافة إلى سلعة، أو أن يخضع العطاء الثقافى للتسليع بأى شكل من أشكال الربحية أو بأى صورة من الصور من قبيل فرض رسوم رمزية أو تقاضى جزء ولو زهيد من الكلفة الباهظة للفعاليات التى تنظم للمئات من الضيوف من شتى بقاع الأرض»..


وتحدث د. فخرى كريم عن علاقته بالدكتور جابر الممتدة لثلاثة عقود، مضيفًا: «كان همّه الأساسى البحث عن آلية لاستنهاض الحركة الثقافية من خلال الشباب لخلق قيادات قادرة على التطوير والإدارة، ولذلك كان يترصد أى كفاءة، بحيث تصبح أداة حقيقية لوقف الانحدار السياسى، فإسهامه السياسى كان ثقافيًا، ونحن نحتاج الآن إلى أن نتعكز على الثقافة». 


العمل المؤسسى
بدأ اليوم الثانى من الملتقى مع جلسة حول «قضايا الترجمة»، أدارها المترجم الأردنى د. محمد شاهين، وشارك فيها د. أنور مغيث، د. محمد حمدى إبراهيم، د. مكارم الغمرى، و«فيديو» مسجَّل من د. ثائر ديب.


تناول المتحدثون المشروع القومى للترجمة ومن ثم المركز، إذ أكد مغيث وديب أن عصفور تحرر من «المركزية الغربية»، ولذا استطاع المشروع أن يغطى 36 لغة من بلدان مختلفة، وأضاف د. محمد حمدى إبراهيم أن أهم مميزات مشروع عصفور للترجمة أنه كان يرفض الترجمة سوى عن الأصل، ولا يجيز أى كتاب إلا بعد مراجعة شخص ذى ثقة فى علمه.


وامتد الحديث عن الترجمة والمركز القومى إلى الجلسة التالية حول «مؤسسات العمل الثقافى» التى أدارها د. سعيد المصرى، وشارك فيها بنسالم حميش، طالب الرفاعى، د. خالد زيادة، ود. عماد أبو غازى.


إذ قال طالب الرفاعى إن الوقت قد حان لتصدير الأدب العربى إلى العالم، ووضع خطة حقيقية لتقديم أدبائنا المبدعين والأدب الحقيقى إلى العالم. وهو ما أضاف إليه د. أنور مغيث فى مداخلة: «الترجمة العكسية من العربية للغات الأخرى تتطلب تقديم الدعم للناشرين والمترجمين الأجانب، كما تفعل مختلف البلدان معنا، لكن للأسف عندما طرحتُ الأمر على وزارتى الخارجية والثقافة أخبرونى بأنه لا توجد ميزانية».


بينما تحدث د. خالد زيادة عن دور المثقف فى المؤسسة، مؤكدًا أن عصفور كان نموذجًا للمثقف المصرى التنويرى، واستكمالًا لتجارب من سبقوه من المثقفين المصريين فى القرن التاسع عشر.


وتناول د. عماد أبو غازى فترة عمله معه حينما تولى أمانة المجلس الأعلى للثقافة، قائلًا: «كان مدركًا لطبيعة هذا الوطن، يمتلك مشروعًا ثقافيًا متكاملًا، وقد قبِل تولى المسؤولية وكله أمل فى تحقيقه، لكن ذلك كان يتطلب إحداث تعديلات فى البنية التحتية للمجلس.

وهو ما نجح فيه بالفعل خلال 14 عامًا، مضيفًا: «لقد صار المجلس برلمانًا للمثقفين، يضم بين أعضائه أكثر من خمسمائة من المبدعين من كل الاتجاهات الفكرية والثقافية والبحثية والسياسية أيضًا، وبعد أن ترك عصفور أمانة المجلس صار عضوًا من أعضائه المختارين، ليستمر فى العطاء من موقع آخر».


واختُتم الملتقى بحلقة نقاشية حول «المشروع الثقافى لجابر عصفور»،  أدارها الكاتب الصحفى حلمى النمنم، وزير الثقافة السابق، وشارك فيها كل من: د. فريدريك معتوق، عميد معهد العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية الأسبق، الناقد والكاتب الصحفى السودانى مجذوب عيدروس، الروائى الفلسطينى ناجى الناجى، د. خيرى دومة، الكاتبة الروائية د. رشا سمير، داستن كاول، أستاذ اللغة والأدب العربى بالولايات المتحدة، والدكتور هشام زغلول، آخِر تلاميذ د. جابر عصفور، كما قيل فى اللقاء.


وخلالها قال د. خيرى دومة إن جابر عصفور على مدار عقود كان يقلب أفكاره ويعمقها ويطورها حول نشأة الرواية العربية والظروف التي أحاطت بهذه النشأة، ضمن معركة أوسع خاضها على الأرض، منتصرًا لما كان يطلق عليه قيم «التنوير» و«الاستنارة» و«التحديث» و«المدنية» و«النهضة»، وذلك في مواجهة ما كان يخشاه من قيم «الإظلام» و«الإرهاب» و«التعصب».


فيما استرجع داستن كاول ذكرياته مع د. جابر فى الولايات المتحدة الأمريكية، حاملا كتاب «بعيدا عن مصر» للدكتور جابر والذى تتصدر غلافه جامعة ويسكونسن ماديسون، بينما ألقى د. هشام زغلول أبيات شعرية كتبها رثاءً لأستاذه الراحل، يقول فى جزء منها:
أضنته أسئلة المصير؟
أنى تعالجه تلك العقاقير؟!
يا عزمًا كماء النيل.. بعدك لم تفِض! 
ولم يهِض الجناح 
الأفق عالمك الأثير
فطف وحلق.. كيف شئت
فلا غدو.. ولا رواح!
إن كنت ثم قد استرحت.. فلا جناح!

اقرأ ايضا | بين جموح الإبداع وطموح المنصب.. جابر عصفور رائد أعمال