نجوم زمان| حكاية محمود مرسى .. الفنان الذى نعى نفسه

محمود مرسى
محمود مرسى

كتب: مايسة أحمد

رغم ملامحه الحادة وطريقته الحاسمة في الكلام وطبيعته المنعزلة بعيدا عن أضواء الشهرة، إلا أن النجم محمود مرسي كان يحمل بداخله قلب رومانسي وعاشق، والدليل قصة زواجه في بداية مشواره من الفنانة القديرة سميحة أيوب.. وتسرد جوانب أخرى من حياته في السطور التالية..

مرسي كان عازفًا عن الزواج في بداية مشواره، لكن سميحة أيوب هي الوحيدة التي استطاعت أن تخرجه من صومعة اعتزال النساء بعد أن وقع في غرامها، كيف لا وهي من عشقت محاضراته، حيث كان مدرساً للتمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ومن بعدها أحبت أداءه على شاشة السينما، وهو اقتنع بها كفنانة موهوبة تستطيع تحقيق المزيد في مستقبلها المنتظر، حيث توطدت علاقتهما بالعمل بعد ذلك في الإذاعة، وأخفيا إعجابهما ببعضهما لمدة عام ونصف.

زواجة غريبة

مرسي كان يستفسر دومًا من أصدقائها عن ظروفها الإجتماعية وحياتها الخاصة، وفي إحدى المرات فاتحها قائلًا: “تعرفي أن الست أم كلثوم رائعة بحق”، فقالت له سميحة: “لماذا؟”، وأجابها: “لأنها بتقول ولمّا أشوف حد يحبك يحلالي أجيب سيرتك ويّاه”، فإبتسمت ولم تعلق، ثم إلتقيا بعد ذلك في زيارة لأحد الزملاء وأثناء مغادرتهما طلب منها مرسي أن توصله بسيارتها، ورحبت بذلك، واستمر الحديث بينهما طوال المسافة إلى أن صدمها بقوله: “أريد أن أخبرك أنني لا أتزوج”، فأجابته وبسرعة الصاروخ بصدمة مضادة قائلة: “ومن قال لك أن هناك من يريد الزواج؟!”.

وفي اليوم التالي اتصل وأعتذر عما بدر منه، وصارحها على الفور أنه معجب بها بشدة وعرض عليها الزواج، وبالفعل تمت الزيجة شديدة الغرابة، وأنجبا أبنهما الوحيد علاء، لكن بعد فترة من الزواج أكتشفا أن زواجهما كان خطأ كبير، فقد أحبت سميحة فيه الأستاذ والممثل وهو أحب فيها قدراتها التمثيلية، ومن هنا أدركا استحالة الحياة الزوجية، واختلف شكل الأحاديث بينهما عما كانت عليه قبل الزواج.

فقررا الانفصال، لكن ظلت هناك علاقة أقوى بينهما، هي الصداقة المخلصة والزمالة الفنية، وهو ما بدا واضحاً في الحزن الذي سكن الفنانة القديرة بعد رحيل الأستاذ والصديق.

العنصرية الإيطالية

نعود إلى نشأته وفترة الطفولة.. حيث ولد محمود مرسي بالإسكندرية في يوم 7 يونيو عام 1923، وألحقه والده بالمدرسة الإيطالية الثانوية بالإسكندرية قسم داخلي، ولم تكن له علاقة بالعالم الخارجي إلا من خلال والدته التي انفصلت عن والده وكانت تزوره يومي الخميس والأحد، هذا إلى جانب نظرات عقدة “الفاشية” والعنصرية التي لازمت نظرات أساتذته الإيطاليين، مما كان له أثر في تشكيل وجدانه كفنان ذو طبيعة خاصة دون أن يشعر، وبعد إنتهاءه من الدراسة الثانوية التحق بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية قسم الفلسفة، وبعد تخرجه من الجامعة عمل مدرساً إلى أن استقال منها، وقرر السفر إلى فرنسا ليدرس الإخراج السينمائي بمعهد الدراسات العليا السينمائية – إيديك - بباريس.

الطريد

أمضى مرسي 5 سنوات في فرنسا حتى نفذت أمواله، فقرر العمل، وبالفعل حصل على وظيفة مذيع في القسم العربي بالإذاعة الفرنسية، وما كاد يستقر بها وينظم وقته بين العمل والدراسة حتى فوجئ أن عليه أن يغادر باريس مطروداً!

غادر مرسي فرنسا بقرار السلطات هناك، والتي قررت الانتقام لقرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بطرد الخبراء الفرنسيين وتأميم شركة قناة السويس بقرار مماثل بطرد المصريين من فرنسا، فغادرها حاملاً في عقله الفكر والعلم الفرنسي، وبين ضلوعه وأحشائه جرح الطرد والعنصرية وحب الوطن.

لندن كانت المحطة التي استقبلت مرسي بعدها، وهناك ألتحق بالقسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية “BBC”، وبعد 7 أشهر من تعيينه وجد نفسه مرة أخرى يحزم حقائبه ويعود إلى القاهرة، لكن هذه المرة مرفوع الرأس، فقد قرر بنفسه الاستقالة من “BBC”، إذ منعته أخلاقه ووطنيته من الإستمرار في العيش بالدولة التي أرادت تدمير بلده وتقتل بقذائفها أهله في مصر.

مكافأة وإنطلاقة

الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أراد مكافأة مرسي على موقفه الوطني وقراره الشجاع، فقرر تعيينه مخرج ومذيع في البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية، وفيها قدم برامج فنية وثقافية بمستوى عالمي، وحرص فيها على الإرتقاء بذوق المستمعين.

المخرج العالمي يوسف شاهين لمس موهبة مرسي الفنية في شكله وصوته وملامحه، فأراد أن يظهر ذلك للمشاهد من خلال الكاميرا الخاصة به، وبالفعل عرض عليه الاشتراك في فيلم “باب الحديد” عام 1957 لكنه رفض بسبب ضألة الأجر الذي عرضه عليه شاهين، وكان وقتها 50 جنيهاً فقط.

ثم دخل مرحلة جديدة، وبدأ الإتجاه للفن عن طريق الإخراج، فعمل مخرجا في التليفزيون المصري عام 1960، وأخرج عدة تمثيليات سهرة مثل “القطة” عن قصة لإحسان عبد القدوس، كما عمل في العام نفسه أستاذا في المعهد العالي للفنون المسرحية.

الأستاذ

في عام 1962 بدأ مرسي العمل السينمائي في فيلم “أنا الهارب” للمخرج نيازي مصطفى، وفيه تقاضى أجر 300 جنيهاً، وجسد فيه دور شرير أذهل به الصحفيين والنقاد الذين أشادوا بأدائه، كما أخرج عدد من المسرحيات والأفلام، منها “الخاطبة”، ثم جمع بين تدريس التمثيل والإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما عام 1968.

مع مطلع الستينيات، سافر إلى إيطاليا في بعثة قصيرة لدراسة الإخراج التليفزيوني، وعاد ليعمل مدرساً في معهدي السينما والفنون المسرحية إلى جانب استمراره في عمله كمخرج، حتى شعر بأنه أصبح مؤهلاً بخبراته لمنافسة كبار النجوم على الشاشة.

عتريس

انطلاقات مرسي الفنية توالت سريعاً بعد ذلك، إذ شارك كبار نجوم زمن الفن الجميل في أعمال أصبحت علامات في تاريخ السينما المصرية، وإن ظل دور “عتريس” في فيلم “شيء من الخوف” الأشهر في حياة الفنان الراحل، نظراً لفريق العمل بكامله من مؤلف وأبطال وموسيقى وأشعار، بالإضافة للإسقاطات السياسية الواضحة التي تضمنها الفيلم.

من أبرز أعمال مرسي أفلام “الخائنة، زوجتي والكلب، السمان والخريف.. وغيرها”، ومسلسلات “العائلة، بنات أفكاري، بين القصرين، زينب والعرش.. وغيرها”، لكن يظل مسلسل “رحلة أبو العلا البشري” مع الكاتب أسامة أنور عكاشة، أشهر أعمال مرسي التليفزيونية، إلى جانب إعادة تقديمه لثلاثية نجيب محفوظ، وتجسيده دور “السيد أحمد عبد الجواد”، الذي لعبه من قبل يحيى شاهين في الثلاثية الشهيرة سينمائيا.

تواجد مرسي ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، بـ6 أفلام، حسب استفتاء النقاد عام 1996، وهم: “السمان والخريف 1967 - شيء من الخوف 1969 - زوجتي والكلب 1971 - أغنية على الممر 1972 - ليل وقضبان 1973 - أبناء الصمت 1974”.

وقدم مرسي شخصيات عديدة طوال مشواره الفني، لكن كان هناك شخصية تمنى تقديمها، وهي “الليث بن سعد”، لأنه بالنسبة له خير مثال للإسلامي المستنير، وكان يريد تقديمه لأن الشخصية تحمل مبادئ الإسلام وأفكاره الحقيقية.

على الجانب الآخر

مرسي كان يرفض فكرة الظهور كضيف شرف في أي عمل، وقال عن هذا الأمر: “حكاية ضيف شرف ليوم واحد في منتهى السذاجة، ولا يقبل بها فنان محترم، لأنه بذلك يكون عامل باليومية مثل النجار أو السباك”.

وبشكل عام كان مرسي خجولاً جداً ومثقفاً وقارئاً جيداً، حيث عُرف عنه أنه أكثر فناني جيله حباً للقراءة، وكان له أصدقاء قليلون جداً، وعاش حياته بعيدا عن الأضواء والإعلام والصحافة، وكان دائمًا يردد بأنه لا يحب الكلام كثيرًا، وأن من يريد أن يراه فليشاهد أعماله.

كتب مرسي نعيه بنفسه، وأوصى أن يتم نشره بعد وفاته، وكتب فيه أسماء أصدقاء عمره وأقرب الناس له، ثم رحل بالإسكندرية - مسقط رأسه - إثر أزمة قلبية حادة في 23 إبريل 2004 عن 81 عاما بعد معاناته في أيامه الأخيرة أيضا من أزمات متفاوتة فى الكلى نتيجة تدخينه بشراهة وقبل يومين من استئناف التصوير في آخر أعماله مسلسل “وهج الصيف”.