مريم الساعدى تكتب | الإنحياز للنص وحده

مريم الساعدى تكتب | الانحياز للنص وحده
مريم الساعدى تكتب | الانحياز للنص وحده

الشوفينية مرض اجتماعى قد يصيب أى مجتمع لديه أزمة مع هويته، مثل الفرد الفارغ من الداخل الذى يصل لمنصب يربك نظرته لنفسه فينهال عليه المديح ويعجبه ويظل يطلبه ويتوقعه حتى يجرحه الرأى الحر فيتجبر ويطغى، والمجتمعات تكونها الأفراد، يأتى دور الثقافة كى يُحجم النعرات، ويصقل الشخصيات ويهذب السلوكيات ويرتقى بالفكر عبر ترسيخ فضيلة «السؤال» حول مفاهيم الوطنية والقومية ومعنى الانتماء والولاء وكيف يكون الإنسان عظيما بتواضعه، وإلى أى درجة يصبح المجتمع متطورا ومتفوقا بتسامحه، فعندما يُوّجه السؤال يتولد الشك، والشك هو الدبوس الذى يقضى على بالونة التعالى و العنجهية والغطرسة. ليس الشك فى قيمة الذات، ولكن فى تفوقها على الآخر بالضرورة.


دور الثقافة لمجابهة هذا المرض حيوى لا يجب أن يهدأ طوال الوقت، إذ حين يقودها شخصيات حقيقية مؤثرة تمتلك الوعى الصادق بدورها النهضوى والإخلاص التام لرسالتها الأخلاقية تسهم بالتصحيح للمجتمع، بالتعديل لوضعه.

والكشف عن علاته لعلاجها وتداركها قبل أن تستفحل، لا أن تتسق معه فى أوضاعه المشوهة، ويحدث أن تساهم الثقافة ذاتها بتغذية الروح الشوفينية فى المجتمعات وذلك حين تتخلى عن شعلة النور وتنضم للريح التى تطفئها رغبة فى اكتساب رضا وتصفيق التيار الشعبى، يكون ذلك حين يتسلق إلى المشهد الثقافى أشخاص يهتمون بالمكسب الشخصى الآنى ويسعون لحجز مكانة شعبية تمنحهم الاعتراف الجماهيرى الذى يتضورون إليه. 


ومسايرة النعرات الشعبية يمنح المثقف المتسلق شعبية يحتاجها لترسيخ مكانته الحاضرة، يريد المرء منهم الغوص فى إناء المنفعة العاجلة قدر الإمكان بغض النظر عن النتائج الكارثية على الفكر المجتمعى والنص الأدبي.


النعرات الشوفينية فطرية يمكن تغذيتها بمنتهى السهولة فالطفل يولد ويقول «أنا» ثم ينتزع اللعبة من أخيه، لكن يتم التعامل معها بالانفتاح على التجربة الإنسانية وتطعيم النفوس بالقيم والعبر عبر وسائل الثقافة المختلفة.

وحين تنضم عناصر الثقافة للركب الشعبى المنادى «أنا ومن بعدى الطوفان» تُصبح الشوفينية صورة المشهد العام ويصبح المنادى بالحياد والتجرد من النعرات مغرد خارج السرب إن لم يتم اتهامه فى انتماءه وولاءه لوطنه.


وساهمت بعض الجوائز الأدبية فى تغذية هذه النعرات حين راحت تختار الأعمال المرشحة بناء على البلد الذى جاء منه الكاتب، ففى هذه الدورة فاز كاتب من البلد الفلانى إذا الدورة القادمة يجب أن يفوز كاتب من بلد أخرى.

وهكذا من باب العدالة الجغرافية بغض النظر عن تفوق القيمة الفنية للعمل الأدبى، حتى وإن لم يكن هذا المعيار مُعلن صراحة لكنه متداول ومتفق ضمنيًا عليه. أيضا انتشار وسائل التواصل الاجتماعى خلق بيئة اصطفاف جماهيرية سهلة ومتاحة، فصار الاصطفاف خلف كاتب البلد المرشح مهمة وطنية حتى ممن لم يقرؤوه أو ممن لا تعنيهم القراءة فى الأساس.

وسائل التواصل أتاحت فرصة التجييش والتجمهر وإن افتراضيا، وفى هذا الزمن صار الصوت الافتراضى هادر أكثر من الواقع الذى يقبع أغلب أفراده بصمت خلف الشاشة: ميدان التجمهر الشعبى الحديث. 


ويمكن تحجيم هذه الظاهرة بالانتصار الفنى للنص، بغض النظر عن ضغوطات السوشيال ميديا أو الخرائط الجغرافية. وأن تحصل دراسات نقدية حقيقية تنشط فيها الصحافة والمؤسسات الثقافية بدون أى مجاملة أو محاباة، فيكون النص وحده سيد المشهد، كائن من كان كاتبه. 

اقرأ ايضا | الفائز بجائزة البوكر البريطانية «دامون جالجوت»: أشعر بالذنب لفوزي بالجائزة