التشكيل الشعرى عند أمل دنقل:

د.رامي هلال يكتب: من قال لا في وجه من قالوا نعم!

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

صراع الواقعى والجمالى 


لا يمكن للقصيدة أن تطفر هكذا من الفراغ؛ لأنها تنضج فى وعى الشاعر من خلال بناء نقدى متخيل، وإطار فنى يعمل داخله، وإلا ظلت رهينة القراءة الأولى، ثم يصيبها العقم فلا تنجب من المعانى ما يضمن بقاءها؛ فالمسافة بين الباعث الشعرى والتشكيل الكتابي، هو ما يفسر لنا الجهود الفنية المبذولة فى القصيدة، فإذا استجابت إلى الباعث الواقعى واستنامت له، فإنها ربما تخصم بذلك من رصيدها الجمالى والفنى والتشكيلى.


وصراع الواقعى والجمالى يكمن فى الأعصاب البعيدة للقصيدة؛ فإذا كان النص منشغلا بالواقع واليومى والتسجيلى، فإنه ربما يقع فى وهدة المباشرة والتقريرية؛ نظرا لمتابعته للأحداث والوقائع، ولهاثه فى التعليق على الحدث، والنظم على إيقاعه العادي، وهنا تصبح القصيدة أشبه بالمقال الشعرى إن صح التعبير، لكن إن استفاد الشاعر من الواقع كباعث، واستبطن نبض هذا الواقع.

واستشعر الأصوات الكامنة داخله، وتنبأ من خلال رؤيته العميقة بما يقع، وكيف يحدث، وأجهد وعيه فى البناء الفنى لقصيدته، والتشكيل الجمالى لأبعادها.

هنا تتعدد طبقات المعنى، وتنهض قصيدته على أسس فنية وجمالية، تتجدد بتجدد الحدث، وتذهب أبعد من البواعث التى أنشأتها، والأحداث التى كانت سببا فى صياغتها.


دنقل والتشكيل الشعرى
وهذا ما فعله أمل دنقل داخل نصه الشعرى؛ فدنقل لو كان استجاب إلى الشعور الأول والخواطر السانحة انفعالا بالأحداث، لأصبحت قصائده كالتأريخ الصحافى لا هو فى التاريخ ولا فى الشعر، والذى عصم الشاعر من الوقوع لأسر هذا الواقع.

وعدم استجابته المباشرة إليه عدة أمور منها: أن جيله الشعرى قد جاء بعدما استوت قصيدة التفعيلة على سوقها، وأصبح منتجها الشعرى راسخاً فى توظيف: القناع والأسطورة والتحاور التناصى مع التراث.

والاستفادة من الفنون القولية والبصرية، وذلك على يد الرواد مثل : حجازى وعبد الصبور والسياب، فلو قدم دنقل قصيدة مباشرة لم يُسمع إليه، ولأصبح بذلك مرتدا عن الإطارات الجمالية السائدة فى عصره إلى شعراء الإحياء مرة أخرى، حين كانت الجرائد تنشر القصائد لكبار الشعراء؛ تعليقا على الأحداث اليومية الجارية، لكنه جعل من تضمين الواقع نغمة شعرية جديدة فى جيله، أبعدته عن شبهة الغموض والتعمية من جهة، ومنحته جماهيرية القصيدة من جهة أخرى.. 


  الأمر الثانى: أن دنقل فى طريقة بناء القصيدة من خلال حواراته، التى تبرز لنا علمه بصناعة الشعر وطريقته الفنية من داخل معمله الشعرى، لوجدنا رؤى مبعثرة تصبح مكتملة إذا استطعنا أن نجمعها فى عناوين مختلفة؛ فأمل من خلال الحوارات يفصح لنا عن رؤاه الفنية.

وعن رأيه فى شعراء عصره، وعن تقنيات القصائد، ويحدثنا عن رواد قصيدة التفعيلة، وعن الذين تأثر بهم من الشعراء، ويمكن أن نقسم موضوعات الحوارات إلى ثلاثة موضوعات رئيسة، هى ما الشعر ويشتمل على رؤيته: للشعر وللشاعر، وعن المتلقى، وعن آليات التشكيل الشعرى، وعن وموقفه من التراث. 


رؤيته الشعرية 
الشعر يقول دنقل: «القصيدة عندى ليست مجرد صورة تطرأ على الخاطر، بل لابد أن تكون متجانسة ومتكاملة من جميع الجوانب، لذلك فإن العملية التى أدعوها بالمونتاج الشعرى الشبيهة بالمونتاج السينمائى هى لحظة مهمة مثل لحظة الكتابة نفسها» () فهو ينفى عن نفسه الكتابة من الخاطر الأول أو الباعث الشعرى الذى يطرأ على وجدان الشاعر، ويسميه الشعراء بالوحى أو الإلهام، ودنقل يتفق فى هذه الفكرة مع مقولة قديمة تقول: قد تمنحك الآلهة البيت الأول لكن عليك أن تكمل القصيدة، ويوازن أمل بين الباعث والتشكيل بين ما هو واقعى وبين ما هو جمالي، فهو لا يخصم من الرصيد الفنى للشعر مقابل القضية أو الحادثة الواقعية التى يعالجها، فهل تستدعى قصيدة (لا تصالح) التى كتبت فى نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1976، بعد مرور أكثر من خمسة وأربعين عاما على كتابتها حدثها المنشئ؟

وهو وثيقة السلام التى كان الرئيس الراحل أنور السادات يرتب بنودها مع الطرف الإسرائيلى، ولم تبرد دماء الشهداء فى سيناء بعدُ، أم أنها تستدعى صوت تشكيلها الفذ, وقناعها التراثى الغائر فى الوجدان العربى المؤسس على قاعدة تراثية صلبة تمدها بالثبات والتنوع ما بقى هذا التراث؟ فصوت كليب فى وصاياه العشر هو الأبقى دراميا، ولا يزال يؤثر فى المتلقين الذين لم يعرفوا الحادثة، ولم يتوقفوا عند أسباب كتابتها. 


«لا تصالح / فما الصلح إلا معاهدة بين ندين... (فى شرف القلب )/ لا تنتقص / والذى اغتالنى محض لص/ سرق الأرض من بين عينىّ/ والصمت يطلق ضحكته الساخرة!» .


وكما يعالج السينمائى المواد الخام للمشاهد البصرية فى السينما، ويتحكم فى إيقاع الفيلم من خلال عملية صعبة ومرهقة يتوقف عليها نجاح الركام الهائل من المشاهد البصرية من خلال عملية المونتاج، هكذا يفعل (أمل) فى قصيدته.

وكلامه ينبئنا من طرف خفى على تأثر أمل بفن السينما، وتوظيفها كأسلوب فنى داخل نصه الشعري. مثل: قصائد (سبارتكوس)، (رسوم فى بهو عربى)، (من أوراق أبى نواس) يقول دنقل «أعتبر نفسى أكثر الشعراء تقريبا استخداما للرموز والحيل الفنية المعقدة جدا سواء كانت جناسا أو ترجيعا أو بلاغة تصل أحيانا لدرجة الاصطناع ، وهذا يتوقف على إدراك المتلقى لمفردات العالم الثورى» .


وهذا لا يتوقف عند الشعر الذى يحمل روح المناسبة، أو الشعر الذى هو صدى لأحداث سياسية أو اجتماعية، وإنما موقف شعرى يظهر حتى فى شعره عن الطبيعة والأشياء فيقول: « لست شاعرا انطباعيا أى لست شاعرا تنعكس عليه الطبيعة والأشياء بل، العكس فأنا أعكس ذات الشاعر على الأشياء.

وأحاول أن أغير الأشياء وليست الأشياء هى التى تغيرنى «() ربما تبدو قصيدة (أمل) انطباعية، لكن إذا نظرنا فى قصائد دواوينه الأخيرة الذى خفت فيها الواقع السياسى إلا قليلا.

وبدأ ينتبه إلى صوت جسده الخائر، والمرض اللعين الذى يستشرى فى خلاياه، هذه المرحلة الشعرية شاهدة على رؤيته الفنية التى يعكس بها رؤيته على الأشياء يقول من قصيدة زهور: 


« تتحدث لى الزهرات الجميلة/ أن أعينها اتسعت – هشة – لحظة القطف /لحظة القصف/ لحظة إعدامها فى الخميلة / تتحدث لي/ أنها سقطت من على عرشها فى البساتين/ ثم أفاقت على عرضها فى زجاج الدكاكين أو بين أيدى المنادين/ حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة/ تتحدث لى/ كيف جاءت إلىّ/ (وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر )/ كى تتمنى لى العمر!/ وهى تجود بأنفاسها الآخرة!! كل باقة/ بين إغماءه وإفاقة/ تتنفس مثلى – بالكاد – ثانية ثانية/ وعلى صدرها حملت راضية/ اسم قاتلها فى بطاقة!».


إن الشاعر يلون الموجودات والأشياء بالحالة الشعورية التى يمر بها فى الغرقة رقم (8) بمعهد السرطان، فهو يأسى أسىً شفيفا لهذه الزهرات الجميلة، وكيف أُعدمت وهى تبثه آلامها وأحزانها، كيف تحلّت بتيجانها الملكية؛ لتشتريها يد متفضلة عابرة.


ويشغّل الشاعر علامات التعجب سيمائيا؛ لصناعة الدلالة، كأنه يتساءل مستنكرا من خلال المفارقة التى يبثها، كيف لهذه المقصوفة العمر، المعدومة الحياة أن تتمنى العمر للشاعر؟! ويوحد الشاعر بينه وبين الزهرات فكلاهما يتنفس بالكاد، وعلى رقبتها تحمل اسم قاتلها راضية!!!


يظل أمل دنقل الذى قال (لا) فى وجه من قالوا (نعم)، صوت شعرى أصيل تفاعل مع واقعه وأنتج قصيدته كقدر متفرد؛ فالشعر هو ابن الزمن والناس والأرض والفرح والعذاب، على حد تعبيره.

اقرأ ايضا

فاطمـة ناعـُوت تكتب: بدلة الأستاذ منصور