حديث الاسبوع

أوروبا فى مواجهة افتقادها لقرارها السيادى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

من باب السماء فوق رؤوسنا القول اليوم بأن القارة العجوز تعيش إحدى أدق وأخطر مراحلها فى تاريخها الحديث، وهى تواجه أصعب فتراتها فى ضوء المستجدات الكبيرة والوازنة التى تعرفها منذ مدة ليست بالطويلة، ستكون لها تداعيات وازنة على مستقبلها القريب والمتوسط والبعيد. إن الأمر يتعلق بأصعب امتحان يكاد يكون غير مسبوق فى تاريخها المعاصر بما لا يختلف كثيرا عما عاشته وعرفته هذه القارة إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية.


فما إن استفاقت دول القارة الأوربية من صدمة بداية تفكك اتحادها القارى الذى كان، ولايزال، يمثل أحد أقوى التكتلات الاقتصادية فى العالم، حينما أعلنت المملكة المتحدة انسحابها من الاتحاد الأوربى، وهو الخروج الذى طرح تحديات جديدة وكبيرة أمام هذا الاتحاد القارى، وما أن خرجت دولة مشدوهة من أزمة صحية عالمية طارئة كشفت أن هذا الاتحاد ليس بتلك القوة التى كان يروج ويسوق لها، حتى اندلعت حرب ضروس فوق ترابها هذه المرة، وفى عمق جغرافيتها، وهو المعطى الذى كان مستبعدا إلى حد بعيد، حيث اعتادت دول هذا الاتحاد المشاركة فى حروب تجرى أطوارها الخطيرة فى مناطق بعيدة عنها، الأمر يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية التى ابتلت بها القارة العجوز، وهى الحرب التى أمطرت النظام العالمى بأسره بوابل من التداعيات لا يملك أحد إلى الآن جوابا شافيا ونهائيا عن مداها وحجم تأثيراتها على الأوضاع، ليس فى القارة الأوربية لوحدها، ولكن على الأوضاع فى العالم.


نبدأ بالقول بأن الحرب نغصت على دول الاتحاد الأوربى الاحتفال هذه السنة بالذكرى الثانية والسبعين لتأسيس وتشكيل الاتحاد الأوربى، وهى التى اعتادت انتهاز هذه الفرصة السنوية لاستحضار المكاسب واستعراض المنجزات وللاستقواء أمام العالم بهذا التكتل الاقتصادى الضخم، وهذا التجمع القوى فى مواجهة التحديات الكبيرة والكثيرة التى يواجهها فى علاقات دولية بالغة التعقيد، ووجدت هذه الدول نفسها مضطرة إلى التصدى لتطور اعتبرته يشكل أكبر تهديد لمستقبلها.


فإن تضطر دولتا السويد وفلندة لطلب الانضمام لحلف الناتو، بعدما تحصنتا لسنين طويلة تصل بالنسبة للسويد إلى مائتى سنة، وبالنسبة إلى دولة فلندة إلى خمسة وسبعين سنة فى موقف وموقع الحياد تجاه المواجهة التقليدية بين حلفى وارسو والنيتو، فإن ذلك يؤشر إلى  وجود مزاج عام فى أوربا يتخوف من المستقبل القريب جدا، مما سيجبر كثيرا من دول أخرى على الاحتماء من الخطر الأمنى والعسكرى الحقيقى الذى يواجهها، والذى مثلت الحرب الروسية الأوكرانية إعلانا رسميا واضحا له، إن ذلك يعنى بكل وضوح أن دول القارة الأوربية وجدت نفسها فى مفترق طرق جديد سيجبرها على اتخاذ مواقف لم تكن تعتقد ولا تتصور أنها ستكون يوما مضطرة إلى اتخاذها.


لا غرابة فى القول فى إطار تحليل رزمة المعطيات المستجدة التى ألقت بها الحرب الجديدة بأن دول الاتحاد الأوربى التى يتجاوز مجموع سكانها 450 مليون شخص، وأن اتحادها الذى يتشكل من 27 دولة ذات تأثير قوى جدا على الاقتصاد العالمى، ليست بتلك القوة الدولية الكبرى التى يمكنها الحسم فى مسار التطورات فى النظام العالمى السائد، وأن مسألة استقلاليته الاستراتيجية ليست محسومة، وأنه لايزال مرتبطا ورهينا بالقرارات الاستراتيجية التى تتخذها عواصم غير أوربية، وأنه اكتفى إلى اليوم بالتفاعل مع هذه القرارات، حدث مثل هذا الأمر فى تجارب ومحطات سابقة، فى حرب الخليج الثانية، وفى أفغانستان وفى سوريا، وفى اليمن، حينما اكتفت الدول الأوربية بتصريف مواقف قوى عظمى ولم يكن لها دور حاسم فى هذه النزاعات، التى غيرت مجرى الأحداث والتطورات فى العالم، بل إن الحرب الروسية الأوكرانية فرضت على كثير من الدول الأوربية تكريس افتقادها للاستقلالية الاستراتيجية بانتقالها إلى مرحلة اللاعودة عن هذا الخيار، بأن أعلنت انخراطها الكامل وغير المشروط فى مسار العقوبات التى فرضتها الإدارة الأمريكية على روسيا، ومساهمتها الفعلية فى تسليح أوكرانيا فى حربها، وهى مساهمة تكشف من جهة أخرى عن عدم قدرة دول القارة العجوز عن المواجهة المباشرة مع الدب الروسى، فهى تكتفى بالمساعدة المالية وبإمدادات السلاح، لكنها لا تصل مستوى المواجهة المباشرة كما فعلت فى مرات سابقة حينما كان الخصم والعدو من صنف ووزن وطبيعة أخرى.


من الناحية الاقتصادية هذه المرة، فإن الاقتصاديات الأوربية أبانت عن هشاشة مثيرة حقا، وإذا كانت هذه الاقتصاديات نجحت بمنسوب متواضع فى مواجهة التداعيات الخطيرة للأزمة المالية العالمية لسنة 2008، فإنها هذه المرة تتعرض لانتكاسة حقيقية، فمن جهة كشفت الحرب عن ضعف كبير جدا فى الاستقلالية الطاقية لكثير من الدول الأوربية التى راحت تبحث فى جميع الاتجاهات عن مصادر طاقة جديدة، بعدما تقطعت بها السبل، كما أن الحرب عبرت عن محدودية هذه الدول فى ضمان الأمن الغذائى العالمى، حيث برز النفوذ الروسى والأوكرانى فى هذا الصدد، ومرة أخرى لم تجد دول هذا التكتل الاقتصادى من خلاص لمواجهة الارتفاعات المهولة فى كثير من أسعار المواد الطاقية والاستهلاكية الأساسية داخل دولها قبل النظر إلى ارتفاعها فى باقى دول العالم، والأدهى من كل ذلك فإن خبراء اقتصاديين متخصصين نبهوا إلى الخطورة البالغة التى يكرسها عجز البنك المركزى الأوربى فى التوفيق بين مكافحة التضخم ودعم الأنشطة الاقتصادية داخل القارة الأوربية.


هذه المعطيات والمستجدات المتشابكة وضعت المنظومة الأوربية برمتها فى ورطة حقيقية غير مسبوقة، فهى لا تمتلك القدرة على حسم الحرب، وأن دورها فى هذا الصدد لا يتعدى التمنى والترقب، وأن قرار الحسم فى هذه الحرب فى أيادى جهة أخرى فى واشنطن وفى موسكو، وهى أيضا تفتقد إلى اللياقة الاقتصادية والمالية الكاملة لمجاراة الحرب الدائرة بما يتطلب ذلك من إمكانيات ووسائل ومزاج عام مساند.
إن دول الاتحاد الأوروبى تعيش زمنا صعبا مغايرا غير معهود وضعها فى سياق لم تكن تتوقعه، ولا تملك غير انتظار ما ستفعله بها التطورات القادمة.
نقيب الصحفيين المغاربة