رحيق السطور | فرسان الروح الثلاثة

رحيق السطور | فرسان الروح الثلاثة
رحيق السطور | فرسان الروح الثلاثة

«كل شىء لا يصدر عن الروح  لايعول عليه، فلكى تصل فى الكتابة إلى نقطة الذروة، لابد أن تكون قد مشيت على جمر روحك، وأمسكت النار غير خائف، بعيدًا عن التكلف والتصنع والتعمد، وما طريق الفطرة والتلقائية إلا الجسر الواصل بين الذات وروحها.. وكل تجربة كتابية لا تتأسس أو تقوم أو تنطلق من تجربة روحية هى ناقصة»..   هكذا يرى الشاعروالكاتب الصوفى أحمد الشهاوى.. وربما كان هذا سر عشقه وشغفه بالأدب الصوفى، والحياة الصوفية وبرجالتها على مر العصور.

وفى كتابه  الجديد «سلاطين الوجد» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية - وعبر 277 صفحة يحدد لنا من هم سلاطين الوجد: «المتصوفة هم أصحاب السلطة الروحية بسلوكهم وأفعالهم ونتاجهم الشعرى أو النثرى وكرامتهم الصوفية، والتصوف هو الثورة الروحية فى الإسلام بحسب تعبير أبى العلا عفيقى «يا مليح الذل والغُنُح  لك سلطان المُهج»..

فقلد استحق المتصوفة لقب (السلطان)، لأنهم سلاطين زمانهم، ولأن كل سلطان صوفى يرى نفسه سلطان زمانه. وتحت العديد من العناوين يقدم الصوفى، والعارف، وأهل النظر، ومن يقتلون أهل الله، والقتل فى المساجد، والموالد ليست خطرا.. ومن بعد يقدم الشهاوى ثلاثة من سلاطين الوجد أو فرسانه، عاش معهم زمنا ممتدا من حياته ومع آخرين أثروا فى حياته وأثُروا تجربته.. ويؤكد أنه لا يكتب عن متصوفة أحبهم بقدر ما يكتب عن أهل له، لهم فضل كبير عليه منذ صباه فى قريته كفر المياسرة.

وهم: ذو النون المصرى، وأبو بكر الشبلى، والنفرى الذى عاصر المتنبى وتوفى معه فى سنة واحدة، أنهم سلاطين زمانهم، ولهم سطوة روحية على من عاصرهم، ويقول الشهاوى: الصوفيون لا يكفرون أحدا من أية ملة.  

وهم ليسوا أهل استبداد أو طغيان أو عدوان، إنهم فقط قريبون من الله لا يعرفون غلوا أو تعنتا، بل هم أبناء السماحة والاعتدال، بديعون وليسوا مبتدعين، متفانون فى عبادته، وزاهدون فى الثروة والمظاهر.. يقدم الشهاوى دراسة وافية حول ذو النون المصرى علي مدي صفحات من «69 إلى165» شعرا ونثرا وحكما فيقول: يكاد يكون ذو النون المصرى -الذى كانت له زاوية فى أخميم يرتادها رجال الطريق الصوفى- أسطوريا من فرط القصص التى نسجت حوله.

والمتصل أغلبها بكراماته وقدراته الخارقة للعادات، فهو ابن لتراث مصرى يونانى.. ويؤكد المؤلف أنه يفرح كثيرا كلما كتب حرفا عن ذى النون المصرى لأسباب كثيرة من بينها أنه أول متصوف إشراقى تعرف على حياته الشخصية الثرية والغريبة، المليء بالأحداث والوقائع والمحن.

وطريقه الصوفى، وعجائبه، وكراماته ومدى تأثيره فيمن جاء بعده من أهل الوقت، ومن إشارات ذوالنون.. سئل: لم أحب الناس الدنيا؟ قال: لأن الله تعالى جعلها خزانة أرزاقهم فمدوا أعينهم إليها. وقال: من تزين بعمله كانت حسناته سيئات، أما أبوبكر الشبلى فقد عاش بين القرنين الثالث والرابع الهجريين، وولد زمن الخليفة العباسى المنتصر بالله، وحين سئل: ما علامة العارف؟ قال: صدره مشروح، وقلبه مجروح وجسمه مطروح، وقال أيضا: التصوف الجلوس مع الله بلا هم.

ورؤى الشبلى فى المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ناقشنى حتى أيست، فلما رأى تغمدنى برحمته، أما النفرى الغامض المختفى الذى لم يكتب «المواقف والمخاطبات» يذكر الشهاوى انه لم يشتهر كتاب صوفى بين الشعراء فى العقود الأخيرة مثلما اشتهر كتاب المواقف والمخاطبات «للنفرى»، والمدهش أن هذا الكتاب ليس للنفرى، وإنما هو لمتصوف يدعى أبو عبدالله محمد بن عبدالله، وما محمد بن الجبار النفرى، المنسوب إليه الكتاب سوى حفيد مؤلف الكتاب الذى اقتصر جهده على جمع وترتيب كتاب جده.

والتأليف بين مادته، وقت أن كان حيا وحتى بعد رحيله، لقد عاش النفرى بعد محنة الحلاج وقتله متحفظا كتوما مرتعدا خائفا من بطش الخلفاء والأمراء... فكان يخفى ويكتم ويقنع فى لغة مجردة محمولة على الترميز والإشارة طوال الوقت، فلا أحد يعرف الكثير عن حياته إذ عاش معتزلا بعيدا عن الناس مستترا مخفيا..

وكتابا النفرى اللذان نشرهما المستشرق أرثر يوحنا أربرى فى القاهرة سنة 1934م وكتب عن النفرى فى تقديمه للكتاب إنه «سائح وكاتب مسترسل، لكنه كان قبل كل شىء مفكرا أصيلا، متقدا، ذا قناعة واضحة بأصالة تجربته» ويذكر المؤلف أنها من الكتب القليلة فى حياتى التى استعيد قراءتها مرات، لأننى فى كل مرة أرى جديدا، وأضيف إلى نفسى معرفة  كانت مستترة ومضمرة بين السطور، فأنا أحب أن أكون ضيفا عليه، محتفيا به ومحتفلا.

اقرأ ايضا | صلاح جاهين : قال‭ ‬لى‭ ‬هيكل:‭ ‬ارسم‭ ‬ ما‭ ‬تشاء‭ ‬ولى‭ ‬حق‭ ‬الفيتو!