جوخة الحارثى: الأدب واقع موازٍ

جوخة الحارثى: الأدب واقع موازٍ
جوخة الحارثى: الأدب واقع موازٍ

حوار: سيونا جينكز

>أحاول أن أكون صادقة مع نفسي. لا أحب جذب الانتباه. جُل ما أريده هو أن أكتب، لأن الكتابة تمنحني متعة هائلة».

في ليلة نشر أحدث رواياتها «نارنجة» باللغة الإنجليزية، ينتاب القلق جوخة الحارثي، ليس بشأن استقبال الرواية، بل بشأن احتمالية تقديمي لها بصورة يُساء فهمها. «لقد قرأت في أحد المقالات عناوين صادمة (عني)، جعلتني أحجم عن إجراء الحوارات».
هذا القلق مدهش بُرغم الضوء المسلط عليها طيلة ثلاث سنوات بعد فوز روايتها «سيدات القمر» بجائزة البوكر الدولية في عام 2019. تُعد جوخة الحارثي أول كاتبة عربية تحصد الجائزة.

والتي تقاسمتها مع المترجمة مارلين بوث. وقد تُرجمت الرواية، التي ترصد حيوات ثلاث شقيقات في عمان، مسقط رأس الكاتبة، إلى 22 لغة، ولاقت ثناء دولياً واسعاً.


تحدثت مع الكاتبة عبر الفيديو، من غرفة أحد الفنادق الأمريكية، قبيل صدور روايتها «نارنجة» في الولايات المتحدة. وقد وصفت فوزها بالجائزة بأنه «شرف عظيم»، إلا أنها تقر بأن هذا الاهتمام كان «ممتعاً ومربكاً» في آن واحد، وأنه وضع عملها التالي تحت ضغط ثقيل الوطأة. 


وقد شغلت توقعات العالم الأدبي تفكيرها طوال الفترة الزمنية الفاصلة بين نشر الرواية وترجمتها. صدرت رواية «سيدات القمر» باللغة العربية في عام 2010،  واستقطبت العديد من الأقلام النقدية العربية وقتذاك، لكن صيتها لم يطبق الآفاق إلا بعد فوزها بالبوكر بعد مضي قرابة العشر سنوات. كما نُشرت لها رواية أخرى بالعربية بعنوان «حرير الغزالة».

وتأمل في أن تُترجم أيضاً.


تقول جوخة، التي تشغل منصب أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة السلطان قابوس بمسقط، وصدر لها حتى الآن أربع روايات باللغة العربية، بجانب العديد من الكتب غير الروائية في الأدب العربي: «علمني هذا التأخير الصبر. أعتقد أن كل كتاب ينتظره القارئ المناسب.

عاجلاً أو آجلاً سيأتي. وأتمنى أن تجد «نارنجة» قارئها المناسب كذلك».نُشرت «نارنجة» بالعربية في عام 2016، وترجمتها أيضاً مارلين بوث، تدور أحداثها، مثل «سيدات القمر»، في عمان، متناولة شخصيات شكلتها التغيرات السياسية والاجتماعية العميقة التي شهدتها البلاد عقب الحرب العالمية الثانية.


كانت عمان فيما مضى إمبراطورية تجارية واسعة الثراء تمتد أطرافها حتى الساحل الشرقي لأفريقيا. حكمها السلطان سعيد بن تيمور قرابة 40 عاماً، وكان يتوخى سياسة محافظة ومعارضة لأي تحديث. ثم تولى ابنه مقاليد الحكم في عام 1970. كانت البلاد حينذاك تكاد تخلو من الطرق المعبدة، ويعاني معظم سكانها من الفقر والأمية وسوء التغذية. إلا إنه باحتياطي النفط والغاز، تمدنت البلاد بسرعة في عهد السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، وتغيرت الحياة جذرياً خلال السنوات التالية.


تنسج روايات جوخة هذا التاريخ ببراعة وحذق. فنجد أن بنت عامر، بطلة رواية «نارنجة»، تعايش التغير المربك الذي طرأ على المجتمع وتحوله من نظام قروي تقليدي إلى دولة حديثة مزدهرة. بنت عامر امرأة غير متعلمة، فقدت إحدى عينيها.

ولم تتزوج أبداً، وعاشت معظم حياتها في منزل أحد أقاربها. نقرأ قصتها عبر عيني حفيدتها زهور، التي تدرس في إحدى الجامعات البريطانية، وتتخبط بين ماضي زائل وتقاليد بالية.
تكتب جوخة: «ظلت تجلس هناك كما كانت منذ الأزل: بالطرحة الملونة القطنية، بالرداء الأسود المشغول عند الصدر والمنسدل حتى أسفل الركبة... كانت تعيش معنا فقط، لا تملك البيت ولا الشجر ولا حتى نحن، فلم نكن أحفادها في الحقيقة».


حياة بنت عامر مأساوية من عدة نواحي، لكنها اُنتشلت من براثن الفقر، واستقرت في بيت بفضل الروابط الأسرية التي تمثل نظام رفاهية غير رسمي. نشأة جوخة الحارثي في عائلة كبيرة، إذ إن لها من الأخوة 8 شقيقات و4 أشقاء، مكنتها من فهم شخصياتها النسائية وحياتهن في «فترة زمنية عصيبة في عمان».


ولدت جوخة الحارثي في عام 1978، بعد أقل من عشر سنوات من الإطاحة بحكم بن تيمور، ونشأت في فترة التمدن العمانية، حين فتحت المدارس أبوابها للصبية والفتيات، ولأنها تمتعت بذكاء منذ الصغر، ألحقها أبوها بالمدرسة في سن الخامسة. تقول متذكرة: «كان يؤمن بأهمية التعليم». وجميع أخواتها يحملون درجات علمية رفيعة أو بصدد الحصول عليها.


«لقد ترعرعت بين العديد من الأقارب. وتسنت لي الفرصة لسماع شتى أنواع النساء؛ المتعلمة وغير المتعلمة، الكبيرة والصغيرة. كان تنوع ذلك المجتمع الصغير مدهشاً؛ ما بين امرأة لم تمسك كتاباً في حياتها إلى أخرى حاصلة على شهادة الدكتوراه من كامبريدج أو أكسفورد، أو ما بين امرأة ذات عزيمة قوية، حتى إن كانت غير متعلمة، وامرأة ضعيفة، حصلت على أسمى الدرجات العلمية وأُتيحت لها خيارات لم تتوافر لجدتها».


تردد «نارنجة» أصداء من حياة جوخة. فقد درست جوخة، شأنها شأن بطلتها زهور، في المملكة المتحدة، ونالت درجة الدكتوراه في الأدب العربي الكلاسيكي من جامعة إدنبرة. لكنها تصر على أن أي تشابه بينها وبين شخصيات رواياتها من قبيل الصدفة. فتقول: «لا أظن أني أبحث عمداً عن الإلهام بعيش تجاربي، وإلا سأنغمس في ملاحظة الحياة عوضاً عن التمتع بها. لقد مررت بتجارب سفر ووطدت صداقات، ثم استرجعتها في شكل شظايا ذكريات أو مشاعر أو أفكار».


وربما ينسى أحياناً قُرّاء الروايات التي تصف مجتمعاً غريباً أن الأدب يغربل التاريخ والتجارب. لكن ينتابها الانزعاج حينما تعرف أن العديد من القراء الأجانب يعتبرون «سيدات القمر» كتاباً تعليمياً عن عمان. فتقول بلباقة: «لا أحب إطلاق الأحكام على الناس. لا ريب أننا نتعرف أكثر على المجتمعات عن طريق قراءة أدبها، لكن علينا ألا ننسى أنه خيال.

إن اعتبار الأدب نوعاً من التوثيق هو أمر ينطوي على بعض الخطورة، ويتجاهل العناصر الجمالية في العمل... الخيال واللعب بالزمن والمكان والواقع... مثلاً، نحن نتعلم عن اليابان من كتابات ياسوناري كواباتا. لكن لو أردت فهم المجتمع الياباني، هل سنعرف عنه من مجتمع كواباتا أم موراكامي؟ في اعتقادي أن الأدب هو واقع موازي. إنه يشبه تلك المرايا التي نجدها في الحدائق الترفيهية، والتي تضخم حجم الأشياء وتقلصها».


اضطرت جوخة إلى الدفاع عن أعمالها بعدما وصلتها تهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، واُتهمت بتشويه صورة البلاد بسبب تصويرها الصريح والصادق للعبودية في «سيدات القمر» لم يُجّرم الرق في عمان إلا بعد انتهاء حكم بن تيمور في عام 1970.

وظل الموضوع شائكاً وحساساً. إلا أنها لاحظت أن هذا الغضب لم يحدث إلا بعدما جذبت الانتباه العالمي فور فوزها بالجائزة. وتستطرد: «استشاط الناس غضباً. لكن العبودية كانت متفشية في كل أنحاء العالم، في مختلف الأزمنة، بل تضرب بجذورها عبر آلاف السنين. ولابد أن نتناولها كبشر أولاً؛ إذ إنها جزء من تاريخنا وعلينا تأمله».


ربما تفسر هذه الانتقادات مخاوف جوخة في بداية حوارنا، لكنها تلاشت بعد حوار استغرق ساعة بأكملها، تحدثت فيه عن الأدب والتاريخ، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على أسرتها. لكن قبل ابتعادها عن وسائل التواصل، كتبت بتحد إلى من يذمونها: «إنني أكتب عن الأشياء التي أرغب في الكتابة عنها، الأشياء المهمة بالنسبة لي. إنني أحاول أن أكون صادقة مع نفسي. لا أحب جذب الانتباه. جُل ما أريده هو أن أكتب، لأن الكتابة تمنحني متعة هائلة».

اقرأ ايضا | أدب الحرب بين التغني والإدانة مُتتالية نيميروفسكي وطيور باورز.. 14 رواية كُبرى استوحت أحداثها من الحرب