حكايات إنسانية من ميكروباص الموت بالمنيا

ميكروباص الموت بالمنيا
ميكروباص الموت بالمنيا

كتب: محمود صالح

ذلك الذي توفي في كنف أبيه قد سمع صوت صرخات الصديقتين من خلفه، ومعهما «مارتينا»، وهو يحتضن أبيه الحضن الأخير، وجد في هذه الصرخات علامة الرحيل، حُلم النجاة الذي غمرته المياه، حلم النجاة الذي مات، رحيل ٦ في حادث ميكروباص البرجاية بالمنيا وإصابة ٥ غيرهم، كان حادث بشع، بشاعته في تفاصيله، وأن لكل من المتوفيين قصة وحكاية، اختلفت فيما بينهما، لكن نهايتها اجتمعت على مشهد واحد، في مكان واحد، داخل ميكروباص الموت. تفاصيل تلك الواقعة ترويها السطور التالية:- 

 

كانت "مارتينا" هي الإبنة الكبرى لـ منير يوسف، ذلك الرجل الخمسيني الذي أصابه الوهن قبل عامين، وتداعى عليه المرض وخارت قواه، ومن يومها.. انقلبت حياة الفتاة العشرينية من النقيض إلى النقيض، حتى مرض والدها؛ كانت هي الفتاة المدللة التي تأمر فتُجاب، لا يتأخر عليها شيء، لأنها - بجانب كونها أول فرحة الأسرة - كانت على قدر كبير من الطيبة والسماحة ولين القلب، وبرها بوالديها كما يجب أن يكون البر، لا تتأخر عن شيء فيه سعادتهما، ولا تنام إلا على راحتهما.

 

كانت صاحبة الـ ٢٨ عامًا فتاة ذكية، لماحة، وكان جل آمل الأسرة فيها، يرونها وهي في ريعان شبابها شعلة من النشاط والحيوية، وعلى ذلك، كانت الفتاة التي عاشت خفيفة محبوبة قد رحلت، لكن تركت لأسرتها ومحبيها حزن لا ينسى، وجرح لا يندمل، أبنة مركز مغاغة تحملت عبء الأسرة كلها على أكتافها، فـ "مارتينا" على الرغم من عدم كونها الأبنة الكبرى، لكن ما أصاب والدتها - حزنًا على مرض والدها - أدخلها وهي في ريعان شبابها دوامة من الخوف والترقب، خوفًا على  والدتها من المرض الذي أوصلها إلى إجراء أسبوعيا ثلاث مرات عمليات غسيل الكلى، وهو أمر مكلف ومتعب، يحتاج إلى مجهود كبير، وتكاليف أكبر، وترقب من أن يشعر ما حولها وخصوصا أبيها ثقل ما تحمله على أعناقها، وهي على هذه الحالة ظلت صامدة صابرة. لكن رحيلها صادم ومؤثر.

 

كانت "مارتينا" تسعى كل السعي إلى أن تجهز أوراق علاج والدتها على نفقة الدولة، وهذه الأوراق حتى تتجزها كانت عليها أن تسلمها في مستشفى المنيا، حتى تستكمل الإجراءات، وأثناء عودتها، توفيت في حادث ترعة البرجاية بعد أن سقط بهم سائق الميكروباص المدمن. ماتت وفي يدها أوراق علاج والدتها، والذي لم يسعفها الوقت لتطمئن مَن حولها أنها أنهت كافة الإجراءات.

 

حكاية حامد

كان "حامد" شابًا يافعا ومهذبا، يحبه الجميع لدماثة خلقه وطيبة قلبه، لكن سر حب الجميع له هو بره الشديد بوالده، بر يصل إلى حد يصعب تخيله، حتى ذُكر أنه كان لا يترك والده في مشوار إلا وذهب معه، كان ظل والده وعكازه، سندًا بحق، وابن يفخر الرجل إن أنجب مثله.

 

كان العشريني يعرف مقدار والده حق المعرفة، وبالرغم من انشغاله الدائم في عمله إلا أنه كان ملازما لأبيه، خصوصا بعد أن بلغ أبيه الشيب وضعفت صحته، يومها، كان الشاب بصحبة والده البالغ من العمر ٧٣ سنة في محافظة المنيا لإجراء بعض الفحوصات الطبية التي طلبها الطبيب لأبيه.

 

كان في الصباح موعد الذهاب، حاول الحاج "حسن" أن يثني ابنه عن الذهاب بصحبته، وقال له أنه سيذهب وحده وأن الأمر لن يكلفه وقت أو تعب، لكن "حامد' كان مصمما على أن يذهب مع والده، ونتيجة تصميم الابن رضخ الرجل ووافق، على مضض، وكأن الرجل يشعر أن نهايته أوشكت، فأراد أن يذهب وحده، لكن ابنه فطن إلى الأمر، وعرف مغزى والده ومراده، وأبى إلا أن يذهب معه، ذهابه الأخير، وكما عاش الأبن في كنف أبيه طوال عمره، مات بجواره وهو ممسكًا يده، سلام بلا دموع.

 

مؤسسة التضامن

تسمى مؤسسة "التضامن للتمويل الأصغر" وهي لمن لا يعرفها، مؤسسة معنية بمساعدة المحتاجين وتنمية القرى ومساعدة الشباب في تمويل مشروعاتهم، وكذا أعمال خيرية من هذا القبيل، هذه المؤسسة كان يعمل بها فتاتان، أحدهما تدعى "آية" والأخرى تدعى "هالة"، صديقتان لكن من النظرة الأولى تحسبهما وكأنهما توأمتان، ليس في الشكل فقط، بل في الطباع والنظرة والضحكة، ابتسامتهما آخاذة، وقلبيهما يفيضا من الحب ويكفي.

 

وعلى الرغم من كون الأولى خريجة كلية التربية جامعة عين شمس، والثانية خريجة كلية التجارة جامعة بني سويف، وأن الحياة الجامعية فرقتهما، لكن حياتهما بعدها قد جُمع شملها بعد أن انتسبن للعمل في تلك المؤسسة، خصوصا وأنهما من مركز واحد.. وكانت صداقتهما وطيدة إلى حد تعجز الأماكن وبُعد المسافات عن تفريقهما.

 

كانت أية.. الفتاة الشابة الجميلة، قد تم خطبتها منذ قرابة العام، على شاب أحبته وأحبها، وحلما سويًا أن يبنيا عشًا يجمعها على كتاب الله وسنة رسوله.، كان محددًا لإتمام الزيجة بعد عيد الأضحى المبارك، وعليه كانت الفتاة مشغولة في تجهيز متطلبات فرحتها، تخرج يوميا بصحبة صديقاتها وتشتري طلبات الجهاز.

 

أما عن هالة صديقتها، فكانت جميلة الخُلق، يوم الحادث، ووقت الآجل، من المؤكد أن الفتاتين كانتا يصرخان من هول ما مرا به، لكن على صراخهما هذا كان هناك صوت يدوي في أرجاء المنطقة التي عاشا فيها معا، صوت ضحكاتهما الذي علا منذ زمن، وسكت في لحظة.

المدمن

النيابة العامة، في بيانها الذي نشرته عقب الحادث نفت صحة ما يتم تداوله، وقد أمرت بحبسه أربعة أيام احتياطيًّا بعد تسببه في الحادث، الذي كان السبب فيه إهماله ورعونته وعدم احترازه؛ لقيادته الحافلة بسرعة زائدة وهو متعاطٍ موادَّ مُخدِّرة، مما أدى لانحرافها وسقوطها في المياه، وقد أسفر الحادث حتى تاريخه عن وفاة ستة وإصابة خمسة من الركاب، ولا تزال عمليات البحث والإنقاذ والتحري جاريةً للتأكد من خلو المياه من آخرين. 

 

كانت النيابة العامة تلقت بلاغًا من الشرطة مساء الحادي والعشرين من شهر مايو الجاري بسقوط حافلة (ميكروباص) بترعة الإبراهيمية بقرية (البرجاية) بطريق مصر أسوان الزراعي بمحافظة المنيا، ووفاة وإصابة بعض مستقليها، وبالتزامن مع ذلك رصدت وحدة الرصد والتحليل بإدارة البيان بمكتب النائب العام منشورات متداولة حول الحادث بمواقع التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية المختلفة، منها إشاعات حول سبب وقوعها تفيد تهديد قائد الحافلة الركاب بإسقاطها في المياه عمدًا إذا لم يسددوا إليه أجرة زائدة على التي دفعوها، فتولت النيابة المختصة التحقيقات. 

 

إذ انتقلت إلى المستشفى لمناظرة جثامين المتوفين، وسؤال المصابين، الذين تواترت شهاداتهم حول محاولة قائد الحافلة تفادي (مطب صناعي) فوجئ به في الطريق حالَ سيره بسرعة زائدة، مما أسفر عن اختلال عجلة القيادة من يده وسقوطهم بالمياه، وقد أكد اثنان منهم عدم صحة الإشاعات المتداولة حول تهديد قائد الحافلة الركاب قبل وقوع الحادث. 

 

كما سألت النيابة العامة شاهدًا على الحادث أكد؛ وقوعه وفق الصورة التي انتهت إليها شهادة المصابين، متهمًا قائد الحافلة بالتسبب فيه لقيادتها بسرعة زائدة، كما توافقت تحريات الشرطة مع هذه الرواية، مؤكدة عدم صحة التهديد المشاع عنه، وأن الحافلة اصطدمت بجسم كوبري (البرجاية) وسقطت في المياه عقب انحرافها واختلال عجلة القيادة من قائدها، وقد تبينت النيابة العامة من معاينة مسرح الحادث وجود إتلاف بسور كوبري (البرجاية)، وعدم وجود آثار لكبح الإطارات بالطريق، أو وجود أي آلات مراقبة مطلة عليه. 

 

وباستجواب النيابة العامة المتهم أنكر ما نُسب إليه من اتهامات، وادَّعى وقوع الحادث نتيجة عطل مفاجئ بمكابح الحافلة، فأمرت النيابة العامة بحبسه احتياطيًّا على ذمة التحقيقات وتحليل عينة منه لبيان مدى تعاطيه للمواد المخدرة، فأكد الفحص إيجابية تعاطيه مادتي الحشيش والأفيون، وجارٍ استكمال التحقيقات.