أصدرَ حكمًا على العالم بما يتفق ومزاجه الشخصى: البحث عن إيميل سيوران

أصدرَ حكمًا على العالم بما يتفق ومزاجه الشخصى: البحث عن إيميل سيوران
أصدرَ حكمًا على العالم بما يتفق ومزاجه الشخصى: البحث عن إيميل سيوران

بقلم : أحمد الزناتى

يصفُ سيوران بورخيس بأنه ممن أصيبوا بلعنة المُعتَرف بهم. لم يتعمد الرجل ذلك، لكنه كان يستحق الأفضل، أن يبقى فى الظل، ألا يفارق برجه العاجي، فهذا هو مكانه الصحيح بحسب رأى سيوران.

أظرف تعليق عن إيميل سيوران سمعته من صديق قبل سنوات، ســخِــر قائلًا إن الرجل المغرق فى التشاؤم والكآبة، الذى طالما كتبَ عن لا جدوى الحياة والانتحار قد عـَـمَّـــر حتى ناهز الرابعة والثمانين، ولم يُقدم على الانتحار مثلما فعل سلفه الألمانى فيليب ماينلاندِر الذى مدحه بشدة فى الكتاب الذى سأناقشه لاحقًا، أو مثلما فعل صديقه باول تسيلان، ولم يحرق أعماله يأسًا من جدواها، وطبَقَ صيته الآفاق فى صورة مجدٍ متأخّر، بل حتى فى فترات شبابه المضطربة قبيل الحرب العالمية الثانية كان يقطع عشرات الكيلو مترات مشيًا على الأقدام أو راكبًا دراجته الهوائية الأثيرة، متجولاً بين القرى، يأكل ما يشتهي، ويشرب النبيذ، ويضاجع من يصادفهنّ من بائعات الهوى، والحياة فل. 

فى سنة 1970 انتحر صديق سيوران، الكاتب المسرحى آرثر أداموف، وشهدت السنة نفسها انتحار صديقه المقرب الشاعر باول تسيلان، الذى ترجمَ أعمال سيوران إلى الألمانية، وبعدها بثلاث سنوات توفى صديقه الفيلسوف الوجودى جابريل مارسيل وبقى هو على وضعه. رفض سيوران العديد من عروض الدعم المالي، فضلاً عن العديد من الجوائز الأدبية، والعديد منها مجزٍ ماليًا (قرأتُ مرة أن صمويل بيكيت كان يقرضه المال بسخاء ثم يوبّخه لرفضه هذه الجوائز). حياة سيوران معروفة. هل أحتاج إلى أن أقول إنه استمر طوال حياته فى العيش عيشة متواضعة فى شقته المستأجرة؟ يجلس إلى مكتبه الصغير المكدس بالكتب، يكتب فى دفاتر التدوين ويمشى كثيرًا. قال مرة عبارة لم تقنعنى قط: «لا ينتحر إلا المتفائلون..المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار فى التفاؤل، أما الآخرون فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا يملكون مبررًا للحياة؟»، لكنه لم يدلّل بأمثلة ولم يمدّنا بأسماء المتفائلين الذين انتحروا على مدار التاريخ!


لست من مريدى سيوران لنفورٍ شخصى من السوداويين، ولم تثر رؤيته حول عبثية الحياة ولا جدواها أدنى اهتمام عندي. أسلوبه هو ما يعجبني، «أناقة نحيلة ممشوقة مُعـرّاة عن كل فضول» لو استعرت تعبير إدوار الخراط وهو يصف لغة بيكيت. ما يعجبنى ثقافته الرفيعة، شغفه بالنبش فى جذور التراث الإنسانى واستخراج نصوص موغلة فى القِدم، وكشط الصدأ عنها وإعادة صوغها و تقديمها للتعبير عن هموم معاصرة. تحفل نصوص سيوران بإحالات ثرية إلى كتب كنزا رابا، الفيدا، العلّامة إيكهارت والصوفية المسلمين (راجع اعترافات ولعنات مثلًا). ما يعجبنى هو انشغاله بتنميق الأفكار، بالأناقة والابتهاج بالجُملة. لم أنـسَ أبدًا شذرة:» الحُلم يلغى الزمن فيلغى الموت»، أو شذرة: «كثيرًا ما يتراءى لنا الجوهرى فى خاتمة محادثة طويلة، الأفكار الكبرى تُقال على الباب»، وهى جُمل لا تخرج إلا من كاتب حقيقى.


سأحاول الاقتراب من سيوران عبر كتابين؛ صدر الأول قبل سنوات بعنوان البحث عن سيوران عن دار Indiana University Press ، والثانى مترجم إلى العربية صدر مؤخرًا بعنوان تمارين فى الإعجاب نقله الشاعر والمترجم آدم فتحي، وسيكون منظورى هـو جذور/خلفية رؤية سيوران الكلية للعالم أو ما يطلق عليه الفلاسفة الألمان Weltanschauung.

تركّز السيرة الذاتية النقدية التى ألفّتها إلينكا زريفوبول- جونستون (ولم تكملها بسبب وفاتها المبكرة) على حياة الطفل ثم الشاب ثم الشيخ إميل ميهاى سيوران، وعلى سنواته التكوينية الحاسمة كرومانسى ثورى انجذب إلى السياسة القومية اليمينية فى رومانيا فى فترة ما بين الحربين العالميتين، ثم كتاباته عن هذه الفترة ونفيه إلى فرنسا. فى فترة شبابه أصبح سيوران مدافعًا عن الحرس الحديدي، وهو حِراك يمينى متشدد معادٍ للماركسية (مثله مثل صديقه وابن بلده ميرتشا إلياده)، كان سيوران معجبًا – وإن أنكر ذلك لاحقًا- بهتلر والدوتشى كتجسيد لمحاولات إحياء روح الحضارة الأوروبية المتعفنة وإحياء مجد الإمبراطورية الرومانية.


الكتاب – على امتداد صفحاته- عمل شائق للمهتمين بالسير الذاتية، لكن ما همّنى فى الكتاب هو التماس جذور التكوين النفسى لسيوران. وصَفَ سيوران نفسه بأنه كان طفلًا مفعمًا بالحيوية، خجولًا قلقًا، فضوليًا إلى المعرفة إلى أقصى درجة، حسّاسًا، لا يحب إلا العالم السحرى البدائى لقريته ومسقط رأسه، يرى نفسه فلاحًا صغيرًا قويًا منعزلًا وحيدًا متأججًا بالبهجة والحيوية حتى طُرد منها، وغادر فردوسه فخضع لنوبات كآبة وتملّكه مزاج سوداوى (لنتذكّر كلمة مزاج) لازَمه طوال حياته. فى فترة شبابه كان سيوران واسع الاطلاع يلتهم كتب مونتينى وشكسبير ونوفاليس وشليجل وبوشكين ونيتشه وتولستوى وتورجنيف ودوستويفسكي، الذى أُعجِب به أكثر من أى كاتب آخر. 


تنقل المؤلفة عن لسانه: «لا أعرف أى شخص لديه طفولة أسعد من طفولتي، عشتُ بالقرب من الجبال والوديان، ألعب بحرية فى الغيطان، دون أية واجبات أو التزامات»، وتبرز المؤلفة فى كلامها عن ذكريات سيوران حول قريته الأسطورية على العناصر الطبيعية: النهر والحقول والمناظر الطبيعية، ولما طُرد من فردوسه وفقد أى أمل فى العودة إليه تشكّل مزاجه المتطرّف الذى طبع  أسلوبه وأعماله. 


وربما كان مُحقًا فالطبيعة الساحرة لقرى رومانيا التى تجولتُ وعشت بين ربوعها زمان، وربما الطبيعة الجغرافية لدول أوروبا الشرقية عمومًا قادرةٌ على حفر أثرها داخل ذاكرة/ روح أى إنسان.


فى حضرة سيوران نحن أمام حالة مزاجية رومانسية جامحة، رجل عاشق للطبيعة والحرية والتجوال مثلما كان يفعل الرومانسيون الألمان والإنجليز والفرنسيون. هل ينبغى أن أذكّر إذن بأنَّ الشاب سيوران كان مجبولًا على التطرف وجموح المشاعر الفطرى تحت تأثير ظروف عدة أشار إليها آدم فتحى فى مقدمة المياه كلها بلون الغرق، منها علاقته المتوترة بوالدته، الاغتراب الطويل فى بوخارست بعيدًا عن مسقط رأسه، ثم برلين، وأخيرًا فرنسا حيث عاش ومات. هو نفسه اعترف بذلك فى تمارين فى الإعجاب لما قال: «كنت فى السابعة عشرة من العُمر نهمًا إلى كل شكل من أشكال التطرف والمروق» (ص 183). ربما كانت فكرة الانقسام بين فردوس مفقود أى مسقط رأسه رومانيا وجحيم مفروض وهو وطنه الجديد فرنسا كانت نقطة ارتكاز انطلقتْ منها أعماله المكتوبة بالفرنسية بعد انتقاله إلى فرنسا.

مؤكد أن أسلوب سيوران نسيج وحده (Sui generis)، لكن قراءاته لغيره فى هذا الكتاب المختلف عن بقية أعماله كشفتْ لى عن مواطن أخرى خفية فى تكوينه ورؤيته للأدب والكتابة، ربما أوضح مما كشفتْ كتاباته الشذرية الأخرى. لنتأمل ما كتبه سيوران فى تمارين فى الإعجاب الذى قدم فيه بوتريهات لطائفة من الفلاسفة والكُتاب الذى قرأ لهم وتأثّر بهم أو قابلهم: اليمينى المتشدد، جوزيف دى ميستر (سبق وأن ناقشتُ كتابه الأشهر رحلات فى حجرتى بالتفصيل هنا قبل سنة)، بول فاليري، بيكيت، ميرتشا إلياده، بورخيس، وهى بورتريهات مكتوبة بمِداد العاطفة والانفعال، لا الموضوعية أو الحياد. قرأتُ هذه البورتريهات كمرآة عاكسة لروح سيوران ذاته، وكأن العين التى كان يرى بها غيره كان يبصر بها نفسه. 


مثلًا ينتقد بول فاليرى لأنه كشف عن نفسه أكثر من اللازم، فضَّ غلالة الغموض التى ينبغى أن تحيط بمغزى أعمال الكاتب. عبارة جميلة يقولها: «ينصب اهتمامنا أكثر فأكثر لا على ما قاله المؤلف، بل على ما أراد قوله، لا على أعماله، بل مشاريعه»، كأن سيوران يقول لقارئه: لو استعصى عليكَ شيء فى نصوصى فهذا هو أنا، أما ما أكتُبه وتفهمه فهمًا سهلًا فتسويد أوراق لقتل الوقت ودفع الضجر والكآبة، أنا من عشاق العمل الشاق الذى أُجهِضُه فى أية لحظة لو شاء مزاجى ذلك. 


يختص سيوران صمويل بيكيت بكلمات إعجاب لا تخلو من مديح مبطّن لنفسه. كان بيكيت صموتًا كـقبر، حصن منيع يستحيل اختراقه، لا يغتاب أحدًا لأنه أكبر من ذلك، يتجنب الخوض فى كتبه وأعماله، يندمج فيما هو بصدد كتابته ثم ينساه، يجحده بقلب جامد، وكأنما يقول: أنا الذى هو أنا. ما كتبتُه جثث خلف ظهرى [هل تذكرون أول صفحة فى مولوى حينما كان يدخل الغريب إلى غرفة أمـه ويصحّح مسوّدات ما يكتبه مولوي، لكنه لا يبالي؟] كان بيكيت يكره سؤال مَـن الكاتب الأفضل ومن يستحق مكانة كذا أو كذا. كان كل تقييم لعمله أو لأعمال غيره يثير سخطه، يهرب كالملدوغ لو مُدِحت أعماله ويقول: ما الغرض من كل هذا؟ لا يعنينى كثيرًا، سيطوينا النسيان جميعًا عما قريب. كان يقول عن الكلمات:مـن تراه أحبها كما أحبها هو، إنها صحبته وسنده الوحيد.


أما عن صديقه الصدوق وابن بلده مؤرخ الأديان والروائى الروماني/الفرنسى ميرتشا إلياده فيقول إنه كان مولعًا ببلزاك، أى بنمط الروايات المسهبة المزدحمة بالأحداث والشخصيات مثل الكوميديا الإنسانية، لأنها النغمة الحاضرة للانهائية للكون أو مرادف انشغاله الفكرى بالأساطير فى شتى ثقافات العالم، بينما سيوران مولع بأدب الشذرات والنصوص القصيرة والمقالات المدبّجة، أسلوب شامفور وجوزيف جوبير وليشتيبيرج (ونيتشه فلسفيًا، وبورخيس أدبيًا)، أولئك الذين يودون قول كل شيء فى جُملة أو صفحة. هنا يكشف سيوران عن «مِزاجه الشخصي» المُشمَّع بخاتم الضجر، قال مرة إن عملًا مفرطًا فى التماسك والصلابة والإسهاب لا يمكن أن يكون حقيقيًا، بل زائفًا (لا أعرف ماذا لو سمعه توماس مان أو تولستوى الآن؟)


يصفُ سيوران بورخيس بأنه ممن أصيبوا بلعنة المُعتَرف بهم. لم يتعمد الرجل ذلك، لكنه كان يستحق الأفضل، أن يبقى فى الظل، ألا يفارق برجه العاجي، فهذا هو مكانه الصحيح بحسب رأى سيوران. إعجابه ببورخيس مردّه عدم انجذابه إلى العقول المحصورة فى شكل واحد من الثقافة، عدم الانتماء إلى طائفة، عدم الاقتصار على قراءة أعمال رفاق الحانة، استُدرج بورخيس – والكلام هنا لسيوران- إلى ساحة الكاتب الجماهيري، حُوّلت نصوصه إلى مادة للاقتباسات، فتحوّل إلى كاتب جماهيرى مشهور، وهؤلاء أكثر من الهم على القلب، يزحمون الأزقة والحانات والمقاهى. كان الأحرى ببورخيس أن يُبقى عمله للخاصة، لأن الفنّ للخاصة، بل لخاصة الخاصة، كان الأجدر به أن يظل كاتبًا له قاريء يبحث عنه، لا جمهور. كاتب عصى على الإمساك مثل براءة هاربة. هل أقول مثل جون كوبر بويس أو كوتسى أو بيتر هاندكه؟ 


بالمناسبة نشرَ هاندكه بعد حصوله على نوبل روايتين ومسرحية، ولم تصادف إلا استقبالًا فاترًا وإشارات معدودة من بضعة قُرّاء مخلصين هنا وهناك، وختَمَ كوتسى ثلاثيته الرمزية الغامضة برواية «موت جيسوس» ولم تكن أفضل حالًا، وهى تحفة أليجورية رائعة تجمع الكيخوته وكارامازوف وكافكا والعهد الجديد فى سردٍ بسيط ساحر، بطله طفل «إليوشي» المصير. 

لنعد إلى سؤالى الأول؛ لِمَ أحجم سيوران عن الانتحار برغم ما تطفح به أعماله من سوداوية وعبث ولا جدوى؟ يقول فى المياه كلها بلون الغرق: «إن كل كتاب هو انتحار مُرجأ». 
فى ظنى كانت حالة سيوران المِزاجية temprament  هـى المسيّر لكتابته، وكلمة المِزاج temprament ليست جديدة فى تاريخ الفكر.  عند الفيلسوف الأمريكى وليام جيمس (راجع: البراجماتية- المركز القومى للترجمة، 2008، ص 20 وما يليها) إقرار صريح أن تاريخ الفلسفة هو تاريخ تصادم أمزجة فلسفية، والمِزاج ليس من دواعى التعقّل، ومن ثم فهو يدفع بأسباب غير شخصية لتسويغ استنتاجاته، فهو يعوّل على مزاجه ويثق به، ولكونه يريد عالمًا يتفق ومزاجه فهو مؤمن بأن أى تمثيل للكون يتفق معه، والفيلسوف عندما يحاول أن يتفلسف يحاول أن يوارى حقيقة مِزاجه ويسترها. ثمة حالات مزاجية تدفع أصحابها إلى الانتحار، لا شكّ فى ذلك، لكنى أظن أن هؤلاء من حسموا أمرَهم ووصلوا إلى قرار، أما المتردّد المتشكك الذى ما يزال يحدوه أملٌ غامض فاستطاع ولو بشق الأنفس دفعَ المراكب فى المياه العميقة ووسط الأمواج للوصول إلى أقرب شاطيء، حتى ولو كان شاطئًا مُتخيّلًا. 


بينما أكتب هذه السطور تشاء الصدفة القاصدة أن أتجول فى جروب لمناقشة كتب أجنبية على فيسبوك، وأن أقع على شذرة من يوميات سيوران التى قلبتُ عنها الدنيا بحثًا ولم أعثر عليها حتى اليوم  Notebooks by Emil M. Ciona, Arcade Publishing 2007 ، سأنقلها بنصّها: «أعلم أن الحزن خطيئة، ولكن ما باليد حيلة، ولا أملك وسيلة لدفعه. عندما لا يكون للحزن سبب واضح فإنه يتغذى على نفسه، على منبع وجوده الخاص. فى الواقع ليس الحزن خطيئة، لكنه إدمان. هل يمكن أن يكون الحزن نتيجة العادة؟ ولكن ماذا لو كنتُ مجبولًا على هذه العادة؟» 


الاقتباس السابق من يوميات سيوران وكلام مؤلفة كتاب سيرة سيوران يؤكدان بوضوح أن كآبته المزمنة كانت أقرب إلى فِطرة، طبع، أو إلى مزاج شخصى بحسب تعبير وليام جيمس. ربما يسأل أحد: وما الفرق؟ أقول الفرق فى امتلاك الوعى والحذر والبعد عن الغشامة ونحن نقارب النصوص والأفكار، أن نميّز وفق مبدأ - طوّرتُـه بنفسى لأفهم الأفكار على نحو الأفضل- بين المِزاج والنسَق الفلسفي؛ كانط وهيجل وماركس أصحاب أنساق فلسفية كبرى، أما كيركجارد ونيتشه وسيوران فأصحاب أمزجة فلسفية، النسق الفلسفى متماسك صارم بارد، والمزاج الفلسفى انفعالى حسّاس متطرف، يضرب بقوانين العقل عرض الحائط. المزاج الفلسفى لا يتخذ بِطانة، لا يسعى إلى تأسيس شيء أو البرهنة على شيء، يضرب ويجري، أما النسق الفلسفى طويل النفس، طموح وراسخ، يسعى إلى تأسيس/تفسير العالم (كانط وهيجل) أو تغييره (ماركس)، لو رشقتَه بحصاة صغيرة ستجد أشياعه فى انتظارك على قارعة الطريق مدججين بالأسلحة وبالشتائم أيضًا. 


سيوران أصدرَ حكمًا على العالم بما يتفق ومزاجه الشخصي، ولا ضير فى ذلك، بالعكس ينبغى للفيلسوف أن يرى الأشياء من منظوره، لكن المشكلة أن قُـراءه على تفاوت مستويات عقولهم ليست لهم أمزجة عقلية محددة، لأنهم مزيج من عناصر متباينة، كل عنصر منها حاضر بدرجةٍ ما، ومن ثم لا ينبغي- وفق ما أرى- تحويل رؤية سيوران إلى نسق فلسفى يفسّر الوجود الإنسانى برمته والاستشهاد به فى كل مكان و«تعميم» تجربته لفهم الشرط الإنساني، لأن الرجل أصلًا لم يرد تفسير الوجود، بل أراد أن يكتب الحياة بما يتفق مع مزاجه وحسب بدليل قوله إن أسوأ لحظات حياته هى لحظة أن تُقرأ أعماله وأن يُكتب لها الذيوع والانتشار. لماذا يكتب إذن؟ ربما بغرض التخفف من الشعور بالمسئولية على حد تعبير كافكا فى يومياته وهو يخاطب على استحياء إرنست روڤو ، مؤسس الدار الألمانية الشهيرة لنشر كتابه الصغير.


والحق أننى أرى أن سيوران نفسه- وهو ما أُجِلَّه فيه من سمات النزاهة الفكرية والصدق مع الذات- أحَبَّ أن يكون بلا أتباع، ، فبقيت كُتبه سنوات طويلة راكدة لا تُباع وهو ما كان موافِقًا لمزاجه وملائمًا لرؤيته. فى تراثنا العربى ترجح كفة أبى حيان التوحيدى كأديب ومتصوف وفيلسوف أخلاقي- كفة العشرات ممن سواه من المشتغلين بالفلسفة الصرفة. لحسن حظ القاريء أن سيوران كان مِزاجيًا عاطفيًا مثل نيتشه وكيركجارد، لا ذهنيًا متيبسًا مثل كانط أو هيجل، ولولا ذلك ما جادتْ قريحته بهذه النصوص الأدبية الرفيعة. 


أخيرًا؛ سيوران كان عاشقًا مُخلصًا، فى شذرة أخيرة بعنوان «لم تكن من هنا» كتب نصًا نثريًا فى غاية العذوبة عن امرأة لم يرَها سوى مرتين، سأنقل منه الفقرة التالية: «لم نلتق إلا مرّتين، وهذا قليل، لكن الخارق لا يُقاس بالزمن. وقعت فورًا أسير طيفها الفاتن، مفتونًا بهمساتها وحركاتها ونظراتها. من أنتِ ومن أين أنتِ؟ الوداع كان علامة طبعها وقانونه، دمغة مرورها على الأرض، الأمر الوحيد الذى لا شك فيه أنها لم تكن من هنا».


من المؤكد أن هذه المرأة لم تكن من هنا، ومن المؤكد أيضًا أنها ستبقى فى ذاكرة سيوران إلى الأبد حتى لو لم يظفر بها.

اقرأ ايضا | أدب الحرب بين التغني والإدانة مُتتالية نيميروفسكي وطيور باورز.. 14 رواية كُبرى استوحت أحداثها من الحرب