مشاهد من معرض الفنان التشكيلي عز الدين نجيب .. «حارس الهوية»

عز الدين نجيب أثناء افتتاح المعرض
عز الدين نجيب أثناء افتتاح المعرض

رشيد غمرى

آخر معرض للفنان الكبير عز الدين نجيب، ضم أكثر من مائتى عمل، بعضها تم عرضه لأول مرة. وخلال حفل افتتاحه، قام بتوقيع كتابه الجديد "الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية"، ويتناول رؤيته حول علاقة التشكيليين المصريين بهويتهم، وسط التيارات الحداثية، من خلال قراءة نقدية فى أعمال أكثر من مائة وخمسين فنانا. ويعتبر سؤال الهوية أحد المحاور الرئيسية فى حياة الفنان وممارساته الإبداعية والفكرية.

عندما تخرَّج عز الدين نجيب فى كلية الفنون الجميلة عام 1962، كانت الحركة التشكيلية المصرية، تجنى ثمار ثلاثة أجيال كبرى، أثرت الواقع الفنى المصرى بتجارب متنوعة، انفتح بعضها على العالم حتى أوشك على التماهى ضمن تيارات الحداثة الغربية مثل جماعة "الفن والحرية"، وآثر آخرون العمل على خلق مدرسة تشكيلية مصرية، مستلهمين التراث بروافده. وكان قد مضى نحو عقد ونصف على ما طرحته جماعة الفن المعاصر، بتقديم فن حداثى مصرى الطابع، بزغ ضمنها نجم عدد من أهم الفنانين المصريين، ومنهم عبد الهادى الجزار وحامد ندا وفى المهجر سمير رافع، طارحين تجاربهم فى تقديم فن مصرى الهوية ومواكب للحداثة.

ووسط هذه الحالة الفنية والفكرية بدأ الفنان الشاب وقتها عز الدين نجيب بتأسيس مشروعه الإبداعى، وقدم تجربة مميزة ذات طابع اجتماعى، ليس غريبا عن طبيعة المرحلة وطموحاتها. واستطاع لفت الانتباه وسط توهج تجارب الرواد والأساتذة. وبالتوازى نجح فى فرض حضوره الفاعل فيما يتعلق بالتنظير النقدى والفكرى والعمل الثقافى الجماهيرى، والاهتمام العملى بملف الحرف التقليدية والتراث بالإضافة لنشاطه الأدبى.

لم يمِل الفنان إلى مقولة "الفن للفن"، ولكن آمن برسالة الإبداع، وظل هاجس الهوية أحد أهم مرتكزات تجربته. وكانت عينه على وصل ما انقطع بين الفنان المصرى وتراثه الطويل والممتد. خصوصا أن الإبداع التشكيلى المعاصر هو ابن المناهج الغربية مطلع القرن الماضى على يد الأساتذة الأجانب. وهكذا اختار الفنان موقعه، وكرّس تجربته للتواصل مع الروح المصرية، وفى الوقت نفسه، اللحاق ومواكبة تطورات الوعى البصرى والذائقة الفنية التى كانت تتلاحق فى الخارج. ويمكن النظر إليه باعتباره ينتمى إلى قبيلة المشغولين بتمصير الفن على مستويى الإبداع والتنظير، الممتدة من راغب عياد ومحمود مختار، إلى الآن، ونظنه السلسال الأرسخ ضمن تاريخ الحركة التشكيلية المصرية، وإن كان يتبادل الحضور مع التيار الآخر، ويتلاقح معه فى علاقة جدلية دائمة.   

المنجز الكبير للفنان هو أنه قدم فنا حداثيا، يبدو، وكأنه نبت ونضج هنا، وليس فى أى مكان آخر. وهذا ما يجعلنا نشعر بالألفة مع أعماله. ليس فقط لأنه صوّر الطبيعة والوجوه والشخصيات والبيوت المصرية، فكم كانت كل هذه موضوعات مفضلة لدى المستشرقين، ولكن ما أكسب لوحاته ألفتها، هو أنها تبدو كامتداد للفن المصرى بروافده وتجلياته فى العصور المختلفة. ومن هنا سنجد فى أعماله ألوانا من التأثيرية، الواقعية، التعبيرية، التجريد، وحتى بعض الغرائبية الميتافيزيقية أحيانا، لكنها جميعا تبدو، وكأنها خلقت وتطورت هنا، وليس فى مدارس الغرب. وهو واحد من القلائل الذين تطرق أعمالهم أبواب اللاوعى الجمعى، وتفتح سراديبه.  

قرر نجيب البحث عن الجوهر، فغادر المركز، وذهب إلى الأطراف. وكانت بغيته فى سيوة والنوبة والواحات الداخلة والخارجة وسيناء، وكأنه أراد لمس حدود الوطن التى تحتضن روحه، فى مأمن من التبدلات السريعة. وقد صورها كما رآها، مرة بعين مستكشفة لطبيعة اللون والضوء والتكوين والأرواح الهائمة وسط الصحارى، ومرة بعين الخيال التى رأت خلف كل مادة، حكاية وأسطورة يمكن أن يلمح لها، أو يسمح بحضورها فى الخفية غير المرئية. ولم تعدم لوحاته لعبا فنيا على المنظور، لامس التكعيبية فى بعض تصويره لعمارة الواحات. 

ويبدو أن توجهه المبكر نحو الأماكن النائية أكسبه سمات حراس الحدود الذين يعيشون فى وضع الاستعداد الدائم للدفاع ضد كل تهديد، وعينه على الثقافة، والهوية، والروح المصرية. وتبدو فرادته فى أنه رغم تشعب اهتماماته، وصرفه الكثير من الجهد فى أنشطة فكرية وثقافية وتراثية، إلا أنه قدَّم تجربة فنية ثرية، تضعه ضمن أبرز الأسماء فى تاريخ الحركة التشكيلية المصرية.