«مهرجان سرد المتوسط».. العالم الرقمي ذاكرة تقاوم النسيان

مهرجان سرد المتوسط
مهرجان سرد المتوسط

فى دورته العاشرة، استضاف مهرجان «كتابة وسرد البحر المتوسط» الذى ينظمه المعهد الفرنسى فى مدينة الإسكندرية تحت عنوان «التواصل بين الأمس واليوم» عددًا من الكُتّاب والفلاسفة الفرنسيين ممن لديهم تجارب جديدة فى السرد، ورؤى حول تأثير العصر الرقمى على الكتابة، من بينهم إريك سادين، الذى أثار كلامه جدلًا كبيرًا، إذ يرى أننا كبشر -قبل أن نكون كُتّابًا- مهددون، لأننا صرنا نقيم ذواتنا ونشعر بوجودنا عبر شىء واحد، وهو: «اللايك».

سيديف إيسير: العالم الرقمى ذاكرة تقاوم النسيان


كان سادين يتحدث بقلق بالغ عن مصيرى البشرية والكتابة معًا، يقول: «علاقتنا بالحاضر تغيرت منذ أصبحنا خاضعين لنظام التفاعل اللحظى، الكل يريد أن يشارك فيما أسميه حوار الخرس، فالتقارب الذى تُحدثه مواقع التواصل الاجتماعى زائف إلى حد كبير، لأن الإنسان اليوم يريد أن يتحدث عن ذاته كما لو أننا فى عرض مُبهر، وهو ما خلق شكلًا جديدًا للفرد المستبد، الذى يريد أن يقود الحوار فقط نحو إنجازاته وتفضيلاته، فأى تقارب هذا الذى تتحدثون عنه، إن علاقتنا حتى بأجسادنا تغيرت منذ صرنا لا نلمس سوى الشاشات، فالكلام على مواقع التواصل لا يبدأ كما يحدث فى الواقع بالمصافحة، واللقاءات لا تبدأ بالأحضان، كل شىء تحول إلى الرقمية».



 

لا ينكر الفيلسوف إريك سادين فى الوقت نفسه أن للعصر الرقمى إيجابياته، التى من أهمها القدرة على الوصول إلى المعلومات بأقصى سرعة ممكنة، وظهور أشكال جديدة فى الكتابة، فالرسائل الإلكترونية تحدد لنا عدد الكلمات التى يجب أن نقول من خلالها كل ما نريده، وهو ما ساعد البعض على تعلم كتابة النصوص القصيرة المكثفة، حتى صار كل شخص هو السارد الوحيد لحياته، وقد تنبأ بذلك الفيلسوف ميشيل فوكو، عندما قال «سوف يأتى وقت تتحرك فيه الرسائل وحدها دون ساعى بريد»، الأمر الذى يستدعى التأمل، لأن هناك أجيالًا كثيرة عاشت على الخطابات الورقية، وهو ما أسس لأحد الفروع المهمة فى الأدب، وهو «أدب الرسائل»، الذى لم يعد موجودًا اليوم.


وأشار سادين إلى خطورة العالم الرقمى، خاصة على النشء والأطفال، لأنهم صاروا يتلقون علومهم على «التابلت»، وعبر المواقع الحديثة، التى أعطتهم شعورًا وصل إلى اليقين بعدم أهمية المدرس، ومن ثم عدم أهمية الكتاب، فـ «التابلت» يتفاعل معهم ويرد على أسئلتهم، أما الكتاب فلا يترك رغبة فى الرد، وإنما التفكير، وهو ما لم يعتد عليه الجيل الجديد.

 

 

كريم أملال: التكنولوجيا ساعدتنا على تجاوز عزلة كورونا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سيديف إيسير ولنا حبيب وفوزية الزوارى

فيما اختلف كريم أملال الكاتب الفرنسى الجزائرى، مع رؤية سادين التشاؤمية تجاه العالم الرقمى، قائلًا إن العالم الرقمى بمختلف أشكاله أحدث ثورة هائلة، ساعدتنا على مواجهة مشكلة وباء كورونا، ففى العزلة استطعنا مواصلة العمل والتعليم، كما استطعنا التواصل مع عائلتنا وأصدقائنا والتجول افتراضيًا فى عدد كبير من الدول.


ودلل على أهمية العالم الرقمى التونسى محمد على ميدانى، مؤسس DCX التى تتيح للشباب فرصة للتعرف على بلادهم، إذ قال إن التكنولوجيا ليست فقط ساحة للمتطرفين، كما يتم الترويج لذلك طيلة الوقت، إنما هى أيضًا بوابة لعبورنا إلى الماضى، فمن خلال العالم الرقمى نستطيع أن نذهب إلى قرطاج وروما القديمة، وهو ما حاولنا التركيز عليه فى مبادرتنا من خلال ١٢ عملًا رقميًا بالتعاون مع المركز الثقافى الفرنسى فى تونس، ولاحظنا أن الطلبة فى المدارس يطلبون زيارة الأماكن التاريخية التى نعرفهم بها عبر هذه الأعمال الرقمية، وهو ما يعيدهم إلى الواقع من جديد. 


وأضاف: «هناك مخاطر طيلة الوقت سواء فى العالم الواقعى أو العالم الرقمى، المهم أن نحمى أطفالنا من التأثير السلبى للعالمين، عبر جذبهم إلى عوالم أكثر ثراء مثل التراث الثقافى لبلادهم»، كما سلط المهرجان الضوء على تجربتين مهمتين فى السرد المكتوب باللغة الفرانكفونية، أولهما للكاتبة الفرنسية التركية سيديف إيسير، والتى كانت معروفة فى طفولتها كنجمة سينمائية ومسرحية، فعندما حدث الانقلاب العسكرى فى تركيا عام ٢٠١٦، شعرت ككل الكُتاب بالرغبة فى العودة إلى الماضى، فطلبت من والدتها أن ترسل لها صورها التى توثق لفترة طفولتها، وبوسترات الأفلام التى شاركت فيها، لتفاجأ فيما بعد بأن تاريخها موثق بالفعل على العالم الرقمى.  


تقول: «عندما عدت إلى المواقع ورأيت أفلامى، شعرت أن العالم الرقمى هو ذاكرتنا التى تقاوم النسيان، فقررت أن أكتب رواية عن أول امرأة التحقت بمجال التمثيل فى تركيا، وأسرد معاناتها فى مواجهة المجتمع، فقد كانت جدتى واحدة من الممثلات الأوائل، وقد كانت تتلقى اتهامات كثيرة ويعاملها الناس بقلة احترام.. الرواية لا تتحدث بالطبع عن سيرتها، لأننى قررت دمج حكايتها مع حكايات عدد من الممثلات، فخرجت الرواية كبورتريه تكعيبى يحكى عن شخصية واحدة».


التجربة الثانية للكاتبة الفرنسية التونسية فوزية الزوارى، صاحبة رواية «جسد أمى» الفائزة بجائزة «القارات الخمس»، تقول إنها ترددت كثيرًا قبل الكتابة عن أمها، لما يجب أن تحمله هذه الكتابة من تقديس، فلا أحد يجرؤ أن يسىء لهذا الكيان مهما صدر منه، لكنها لم تستطع فعل ذلك، خاصة وأن أمها كانت تستخدم على الدوام ألفاظًا بذيئة وهو ما يعد صادمًا لمجتمعاتنا العربية.


تواصل: «لم تكن أمى تعترف بلغة سوى العربية، وهو ما جعلنى أخشى الكتابة عنها بالفرنسية، حتى لا أعجز عن تقديمها بصورتها الحقيقية، كنموذج لامرأة ريفية عاشت من أجل قيم جميلة وأصيلة، وذلك بعيدًا عن أى رياء أخلاقى».


ولفوزية الزوارى عمل آخر مهم يتناول سيرة امرأة فرنسية عاشت فى مصر، بالتحديد فى شارع عماد الدين بمنطقة وسط البلد، وهى فالنتين بوان، حفيدة الشاعر الفرنسى لامارتين، وقد جاءت فوزية خصيصًا لمصر عندما كان عمرها ٢٥ عامًا من أجل البحث عن سيرة فالنتين، كنوع من رد الجميل لها، فقد كانت حفيدة لامارتين تحلم بخلق إمبراطورية للعرب، وقد سارت فى ذلك على نهج جدها، الذى دافع عن الشرق وقضايا العرب وتاريخهم وآدابهم، ورغم أنها انضمت لكل الحركات التحررية ضد الاستعمار فى مصر، إلا أنها لم تستطع أن تكسب ثقة المصريين أو الفرنسيين، فكلاهما تعامل معها على اعتبار أنها جاسوسة، لكنها رغم ذلك لم تترك مصر حتى ماتت فيها ودفنت على ضفاف النيل.

اقرأ ايضا

محمود الورداني يكتب: عن المخزنجي في عُزلته (4)