الحوار الأخير مع راهب الدراسات الأندلسية

الطاهر أحمد مكي: عبدالناصر تحكم بأرزاق المثقفين وحول الثقافة إلى وزارة | حوار

د. الطاهر أحمد مكي
د. الطاهر أحمد مكي

- هناك مُنتفعون بطه حُسين يُدافعون عنه بالحق والباطل

- عبد الناصر تحكَّم فى أرزاق المثقفين وحوَّل الثقافة إلى وزارة للتوجيه الناصرى
 

علاقة ممتدة الجذور إلى مراحل الدراسة الجامعية، تلك التى ربطتنى براهب الدراسات الأندلسية وأحد المراجع الموثوقة فى علوم التحقيق والترجمة، والحاصل بعد وفاته على جائزة النيل فى الآداب، وهى الأرفع فى مصر، والتقديرية من قبل 1992، والتميز من جامعة القاهرة 2009، وغيرها الكثير من الجوائز التى لم تكن تمثل أهميةً تُذكر للراحل الكريم.. إنه الأستاذ الدكتور الطاهر أحمد مكى (7 أبريل 1924- 5 أبريل 2017)، وكنتُ قد أجريتُ معه هذا الحديث قُبيل وفاته بثلاثة أشهر، حيث كان قد خرج لتوه من المستشفى بعدما قضى أيامًا فى غرفة العناية المركزة، ولم يكن من المنتظر أن أقابله إذ لم يكن يقابل أحدا فى أيامه تلك، لولا قيَّض الله لى الدكتور محمد عليوة، أستاذ الأدب المقارن بدار العلوم جامعة القاهرة، وكنتُ بصبحته بحى الدقى ووجدنا أنفسنا أمام البيت الذى يقطنه الطاهر مكى، فاتصل عليه د. عليوة يستأذنه فى الصعود إن كانت صحته تسمح باللقاء للاطمئنان عليه، فأذن لنا..


وهكذا صعدنا- ولم تكن المرة الأولى لى إذ زرتُ أستاذى مرتين من قبل- إلى تلك البناية العالية التابعة لجامعة القاهرة والتى يقطنها عددٌ من الأساتذة الكبار، ويكفى أن نعلم أن الشقة المواجهة للطاهر مكى هى شقة رفيقه فى الدراسات الأدبية د. حسين نصار، واللذان شاء الله أن يقبضهما إليه فى العام نفسه 2017م.. مرت خمس سنوات على رحيل «الطاهر» ورأيت أن أنشر نصه، ولا أكتفى بوضعه بين دفتى كتاب أقوم بإعداده.

كان الطاهر مكى يعرفنى جيدًا فقد درَّس لى فى الدراسات العليا، كما أننى نشرتُ له آراء كثيرة فى جريدة «الأخبار» التى أعمل بها، لذلك وجدتُ الفرصة سانحةً لإجراء حديثٍ ثقافى ومعرفى مُطوَّل مع هذا الأستاذ الكبير، خاصة بعدما وجدتُ منه قبولًا وأريحيةً وبعض النشاط الصحى..
بدأ أستاذُنا ضاحكًا وموجهًا بأنه سيقول كلامًا قد يُسبب لى حرجًا فى عملى، فاستشهدتُ ببيت عمرو بن براقة الهمدانى:
متى تجمع القلبَ الذكى وصارمًا

وأنفًا حميًّا تجتنبكَ المظالمُ

وقلتُ له إننى لن أردد بيتَ زهير، سامح الله زهيرًا: 
ومَنْ لم يُصانع فى أمورٍ كثيرةٍ

يُضرَّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
فابتسم لى وهو يهز رأسه إعجابًا بتلميذه المشاكس، فعلمتُ أنها إشارةٌ للبدءِ: 

المثقفون والثورة
سألته عن دور المثقفين الآن بعد ثورتين كاملتين.. وهل العمل الثقافى المصرى كان موازيًا لهذا الحراك المجتمعى الثورى؟
- فأجابنى: المثقفون عندنا انقسموا إلى طوائف: كبار المثقفين، وأعنى بكبارهم شيوخَهم فى السن وليس فى المكانة، وهؤلاء عاشوا فترةً تختلفُ جذريًّا عن فترتكم (يقصد الشباب) وغير راضين عن شىء بعدما اعتزلوا الحياة وظلوا فى بيوتهم، ولا يكاد يسمعهم أحدٌ.. فأنت لا تسمع شيئًا عن ثروت بدوى [1928- 2015]، وهو أستاذ قانون دستورى، كان ملء السمع والبصر على أيامنا، وهؤلاء معذورون، فقد كبروا فى السن وتعاورتهم الأمراضُ والمتاعب، فآثروا ألا يخونوا الأمانة واعتكفوا فى بيوتهم.. أما الجيلُ الوسط فينقسم إلى قسمين: قسم يُحاول أن يتماسك وقسمٌ آخر يُحاول أن يُطبق المثل العامي: «اللى تكسب به العب به»، وهم يُريدون أن يجدوا لهم مكانًا تحت الشمس.. كما أن مُعظم المثقفين قادمون من الريف يملكون العبقرية والموهبة ولا يملكون المال، فلما أفاء الله عليهم وذاقوا حلاوة الدنيا وجدوها جميلةً فخانوا الأمانة وقرروا أن يبحثوا عن المالِ بأى ثمنٍ.. فترى أحدَهم يُوظف مبادئه، يوظفُ أفكارَه.. كله ماشى.. قلةٌ من الشبان موجودون وإلا ما قاموا بهذه الثورات، ولكن مع الأسف الشديد هذه القلة مُحاصرةٌ، بعضهم هاجر وبعضهم يئس وعاد فاحتمى ببيته عملًا بالحديث الشريف: «فليسعك بيتك»، فليس لنا أملٌ الآن فيما يُسمَّى مُثقفون.


 الثقافة.. قصة وزارة!
ولماذا قبعتْ وزارة الثقافة فى غيابات الجُبِّ ودفنتْ رأسَها فى الرمال وسط هذا التشظى الثقافى.. أليس منوطًا بها فتح آفاق أرحب لاستيعاب هؤلاء الشباب؟


- لا يوجد فى أى بلد فى العالم شىء اسمه وزارة الثقافة إلا عندنا، وأرجو ألا ينسى الشبان- لأن المؤرخين لا يتحدثون عنه- أنه لم يكن هناك شىء اسمه وزارة الثقافة، وإنما كان اسمها وزارة الإرشاد القومى، وعندما أتى عبد الناصر وأراد أن يُحوِّل المصريين إلى يساريين واشتراكيين احتاج إلى الإعلام فأنشأ وزارة الإعلام، وكان رجلًا ذكيًّا حيث علم أن الإعلام بلا ثقافةٍ سيكون سطحيًّا فقرر إنشاء وزارة الإرشاد القومى، ووضع على رأسِها رجلًا وطنيًّا مشهورًا وهو فتحى رضوان، وهو أول وزير للإرشاد القومى، وقرَّر أن يُسيطر على أرزاق المُثقفين شيئًا فشيئًا، وبالفعلِ أصبحت المطابعُ تبعًا للحكومةِ، والنشرُ تبعًا للحكومةِ، والأرزاقُ تبعًا للحكومةِ.. معاهم تعيش.. مش معاهم هتموت من الجوع.. ثم تحوَّلت وزارة الإرشاد القومى إلى وزارة للتوجيه الناصرى..


يستدركُ الطاهر مكى سريعًا: نعم، كان التوجيه وطنيًّا فى جانبٍ كبيرٍ منه، لكنْ يظل إلزامُ الناسِ على السَّيْرِ فى طريقٍ واحدٍ شيئًا خاطئًا، ولذلك تحوَّلت وزارة الإرشاد القومى إلى وزارةٍ للتحكم فى الثقافة والنشر وفى كل شىء، وكان أنه إما أن تنشر لك مطابعُ الحكومة أو لا تُنشر لك ورقةٌ واحدةٌ.. وبعدما كان فى مصر عشراتُ الصحفيين الكبار أصبح لدينا صحفى واحدٌ هو محمد حسنين هيكل، هو الذى يملكُ الأخبار، وهو الذى يملكُ الأسرار، وهو الذى يملك الصحافة.. وكان هيكل قد قرَّر أن يكون الصحفى الأوحد، ولذلك سعى لقتل مدرسة الصحافة الناشئة بزعامة مصطفى أمين وعلى أمين، حيث أوشكت على القضاء على الأهرام وعلى أسطورة الصحفيين الشوام، وأصبحت أخبار اليوم وصحفها هى الأولى ولكن هيكل قضى عليها، وفى فترةٍ من الفترات ضمَّها إليه فكان رئيس مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم فى الوقت نفسه.. ومما يُروى أنه فصل صحفيًّا بالأخبار لأنه قال له إن لدينا صحفيين بالأخبار لا يعملون ولا يأتون ويقبضون رواتبهم، فقال له: مَن هم؟ فأجابه: حضرتك!.. فكان جزاؤه الفصل.. وقد تحوَّلت مصر إلى صحفى واحدٍ!

هيكل.. الوزير الأول!
وهل أدرك عبد الناصر خطورة ما يقوم به هيكل على الوضع الإعلامى والثقافى؟


- يُتابع د. الطاهر مكى فى تسلسلٍ: عبد الناصر أحسَّ فى أواخر حياته بهذا وشعر أن هناك صحفيًّا واحدًا يتعاملُ مع الوزراء كلهم من علٍ، حتى إن أى وزيرٍ كان يذهبُ إلى مكتبِ هيكل بالأهرام وينتظرُ بالساعة حتى يُقابله، فقرَّر عبد الناصر سحب البساط من تحتهِ فأصدر قرارًا بتعيينهِ وزيرًا للإعلام، على الرغم أنه- أى هيكل- لم يكن يُحب ذلك، لأن وزير الإعلام منصبٌ عادى، فالبروتوكولُ هو الذى يُحدد مكان الوزير بحسب الأقدمية.. أما مكانته الصحفية فقد جعلته الوزير الأول.


وكيف تعامل السادات مع هذه التركة الثقافية؟
- عندما جاء السادات حاول أن يُغرى هيكل بأن يبقى وزيرًا، ولكنه رفض، ليس زهدًا فى الوزارة، ولكن لأنه كان يرى أنه أكبر من كل هؤلاء الوزراء معدومى القيمة.


أبناء الجيل الماضى
ورغم هذا فقد كانت مصر رائدةً فى كل المناحى الثقافية والفنية وقتها.. كيف تُفسر ذلك؟
- لأن الذى كان يُعطى وقتها لم يكونوا أبناء اللحظة، وإنما أبناء الجيل الماضى.. وأقول إن الجيل التالى للجيل الملكى لم يُنجب أحدًا، فى الشعر أنجب أدعياء كثيرين يسبُّون الأدب العربى والتراث العربى والقومية العربية.. هؤلاء كثيرون، ولكنه لم يُبدع ولا حتى شاعرًا فى العامية: فؤاد حداد ليس من هذا الجيل وغيره كثير.. أما الذين يكتبون الآن بالعامية فأدعياء.


بذكر شعراء العامية، لك رأى مشهور فى عبد الرحمن الأبنودى والمساحة التى حازها..
- طبعًا طبعًا.. إنهم يعتبرونه أمير الشعراء، ويحتل مناصب كبرى فى لجان الشعر.. ولقد رأيتُ فى التلفزيون أنه هو الذى قام بمسرحة رواية (أديب) لطه حسين.. هذا شىء لا يُوجد فى العالم.. لا يُوجد شىء اسمه أدب عامى فى العالم إلا فى مصر.


أدب شعبى
إذن أنت لا تعترفُ بالأدب الشعبى الذى يُدرَّس بكليات الآداب فى مصر؟


- هناك بالطبع أدب شعبى.. لكنه ليس الذى يُكتب بالعامية، ولكن الأدب الشعبى هو الذى ليس له مُؤلفٌ واحدٌ وإنما ألَّفته الأمة، وكل واحدٍ أسهم فيه بنصيبٍ: ألف ليلة وليلة مثلًا أدبٌ شعبى، ليس لأنه يُكتب بالعامية، بل لأنه ليس له مؤلفٌ واحدٌ وإنما ألفته الجماعة لتُعبر عن وجدانها.. ولذلك اصنع وزارة للإعلام أو وزارة للثقافة، ليس هذا هو المطلوب، ولكن انظر إلى ما كان يدرسه التلاميذ بمصر منذ خمسين عامًا.. وما دُمت تُدرس للتلاميذ «كلاماً فارغاً» فالمثل يقول: «مَن يزرع الشوك لا يجنى العنب».


ربما يحكى لنا واقعُ الشِّعر الآن عن أوضاعنا الثقافية.. ولك خبراتٌ طويلةٌ فى الشعر القديم والحديث والأجنبى.. هل تعتقد أن الشعر لا يزال ديوان العرب أم زحزحته ألوانٌ فنية أخرى؟


- بالطبع لا يزال الشعرُ ديوانَ العربِ، ولكن ليس فى مصر وإنما فى العراق.. والغريبُ أن الفرنسى جان بيرك زار العراقَ منذ خمسين عامًا واستمعَ إلى الشِّعر هناك، فقال: ذهب العراقُ بالشعر وذهبت مصرُ بالرواية، والحقيقة أن كل ما عندنا الآن ليسوا شعراء وإنما أدعياء للشعر.


شعرٌ.. وقواعد
وما رأيك فى الأنواع الشِّعرية الموجودةِ الآن.. إذ لا يزال الصراعُ موجودًا بين الشعر الموزون وقصيدة النثر وشعر التفعيلة؟


- أنت تقولُ شِعرًا بالطريقة التى تُعجبك، المهم أن تقولَ شعرًا، فى الأندلس عندما رووا شعر التفعيلة وأنشأوا الموشحات لم يفرضوا ذلك بالقانون، وإنما أخذت الموشحاتُ فترتها وعاد الناس للشِّعر، فأنت الآن قُل ما تشاء وسمِّه ما تشاء، لكن لا بد أن يكون أدبًا تتوافر فيه دعامتان: الدعامة ألاولى أن يستشعر مطالب.

الناس الفنية، والدعامة الثانية أن يُعبِّر عن هذه المطالب.. إن التزم الشاعر بهاتين الدعامتين فسيلتفت إليه الناسُ ويستمعون إليه، وإلا فلن يلتفتْ إليه أحدٌ.. وبيرم التونسى واحدٌ من هؤلاء الذين عبَّروا عن مشاعر الناس فتغنى الناسُ بشِعره:
يا بائعَ الفجلِ بالمليمِ أربعةٌ
كمْ للعيالِ وكمْ للمجلسِ البلدى


والناسُ كانت قد زهقت من الضرائب التى تُلاحقها فى كلِّ مكانٍ.. والسؤالُ الآن: كم شاعرًا قال مثل هذا البيت الذى يُعبِّر عن أحوال الناس، بالفصحى أو العامية؟ فالمهم ليس التسمية.. والشىء الآخر هو أن يكون ما تقوله فنًّا نستطيع أن نجدَ له قواعد نحتكمُ إليها..


ويستطرد د. الطاهر مكى سابحًا فى ذكرياته: أذكر منذ نحو عشرين عامًا وحتى قبل أن أدخل مجمع اللغة العربية أن الدكتور كمال بشر، رحمه الله، صحيح كانت له عيوبُه لكنه كان رجلًا عالمًا- كان قمَّةً يا ولدى- قال إنكم تُرشحون أعضاء للمجمع لا نعرفهم، وأقترحُ أن نُقيم لهم ندوةً نعرفُهم فيها حتى إذا جاءت الانتخاباتُ نكون قد تعرَّفنا إليهم، وبالفعل تم اختيار ثلاثة: اختارونى للحديث عن الشِّعر الفصيح، واختاروا د. عز الدين إسماعيل للحديثِ عن شِعر التفعيلة، واختاروا صديقنا د. محمد عبد المطلب للحديث عن قصيدةِ النثر.. وتحدَّثتُ أولًا وقلتُ إننى أعرفُ مئة كتابٍ تحتوى على قواعد نحتكم إليها إذا اختلفنا حول الشِّعر الفصيحِ، فهل يعرف أحدُكم كتابًا نحتكمُ إليه إذا اختلفنا حول الشِّعر الحُر؟.. كيف نُؤمن بفن ليست له قواعد؟! حتى إن الدكتور عز الدين إسماعيل استأذن ولم يُلق محاضرَته ووعد بأن يُلقيها فى وقتٍ لاحقٍ، وبالطبع لم يفعل، ولم يدخل المجمع!


ارتباطاً بالقصة السابقة الخاصة بمجمع اللغة العربية.. ماذا كان موقف د. محمد عبد المطلب من قصيدة النثر؟
- د. محمد عبد المطلب تراجع، وأخبرته أن الشاعر فى اللغة العربية ليس فقط الذى يقولُ الشعر وإنما هو الكاهن والمتنبئ، ولذلك قال المشركون فى النبى بأنه شاعر، والمتنبى الشاعرُ قالوا إن التسمية ليست بسبب أنه ادَّعى النبوة، وإنما لأن العرب كانوا يعتقدون أن الشاعر القوى كالنبى مُهمته أن يقول شعرًا يتنبأ فيه بالمستقبل.. فالأمورُ عندنا «هيصة» ويتصدَّى للفتوى مَن لا يعرف، و«يقاوح» وهو لا يملك البراهين ولا الأدلة.

شاعرٌ عبقرى
قبل أن نترك الشعر.. أريدك أن تقول كلمة فى أبى همام الشاعر وليس الصديق ونحن على أعتاب العام الثانى لوفاته!
- من الأمورِ التى تعلَّمتُها أن الشَّاعر العبقرى لا يكون كلامُه فى مستوى واحدٍ، وإنما الشَّاعرُ العبقرى هو الذى يعلو مرةً ويهبط مرةً أخرى.. والشَّاعرُ الذى لا يُخطئ هو الشَّاعرُ المتوسط الجيد، لأنه صناعةٌ ظل يحبكها طويلًا بنصف وعي، لكن الشَّاعر العبقرى يقول من وراء اللاوعى كما تأتَّى.. وكنتُ أقولُ هذا الكلام لأبى همام.. وأبو همام له قصائدُ أندلسيةٌ تميَّز فيها لم يقلها غيره، لكن عندما يترك الأندلسيات إلى الشعر الآخر فهو مثل الشعراء العموديين التقليديين.. وميزتُه فى الأندلسيات أنه كان يعرفُ الإسبانية، وهذا أتاح له أن يتصل بالناس وأن يعرفَ الشخصيةَ الأندلسيةَ، ولذلك أنا أعتبرُ من روائعِ شِعرهِ قصيدته فى وصفِ البواب الآلى (سنيور خوستو والبوابُ الآلى) فهى قصيدةٌ بها صورةٌ طِبق الأصل، وهى صورة لم يرسمها أحدٌ من قبل.. فكل الذين ذهبوا إلى الأندلس وصفوا الآثار وحنينهم إليها والآثار لا تتكلم: شوقى، سليمان العيسى، وغيرهما.. أما أبو همام فقد ملك ميزةً لم تُوجد عند غيرِه.


حزبُ الكسَالى!
عشتَ عمرًا مديدًا فى رحاب جامعة القاهرة.. كيف ترى المُستوى الثقافى والعِلمى لأعضاء هيئة التدريس فضلًا عن الطلاب؟


- من الأشياء التى خرجتُ بها من تجربتى، أننى وأنا مريضٌ الآن يجب ألا تقول لى لا تمرض، لأن المرض سُنة الحياة ومن أجل أن أصحو لا بد أن يصحو الجسدُ كله، وهكذا أنت لا تستطيع أن تقول إننا نريد جامعة القاهرة أفضل جامعة فى العالم.. وكيف ذلك؟ لكى تكون جامعةُ القاهرة طيبةً لا بد أن يسبقَها تعليمٌ طيِّبٌ، لا بد أن يكونَ أساتذتُها طيبين.. نحن نادينا كثيرًا بذلك.. الطلبة الآن يهربون من البعثات، أما الآن فالطلابُ لا يرغبون فى البعثات.. فى أيامنا كانت البعثةُ عملًا يُتاح لك ولا يُتاح لغيرك وتزهو به طوالَ حياتك، أما الآن فالطلابُ لا يرغبون فى التعب من أجل العِلم، وإنما يقولُ أنا أقعد فى مصر وأحصل سريعًا على الماجستير والدكتوراه ثم أذهبُ إلى بلدٍ عربى أجمع ثلاثة أو أربعة ملايين جنيه، ونحن أدركنا هذا وطالبنا أن تُحسب السَّنة بالأقدمية باثنتين لطالبِ البعثةِ وأن تكون له الأفضلية.. حزبُ الكسالى فى الجامعة الآن هو الأقوى.. وليس الأقوى فى الجامعةِ الآن مَن له بحثٌ جيدٌ أو كتابٌ قيِّمٌ أو الذى يُترجم عملًا، لا.. إنما الممتازُ فى الجامعةِ الآن مَن يمتلكُ شقتين: واحدة جيدة يسكنُ فيها والأخرى يؤجِّرها مفروشًا ودخله فى الشهر عشرون ألف جنيه، ودخله هذا ليس للاستمتاع وإنما لكى يُصبح بعد سنتين أو ثلاث سنواتٍ مئة ألف جنيه ومئتى ألف.. هذا هو ما يجرى فى الجامعة!


لو كُنا أكثر تحديدًا وقلنا: هل استطاعتْ كلية دار العلوم أن تُحافظ على فكرةِ الأصالةِ والمُعاصرة.. أم انفلتت الفكرةُ من يديْها؟


- المحافظة نسبية هنا.. ولو قلتُ لك إنها من بين الكليات التى ظلت نقية أكْذِبُكَ!.. لكن على رأى واحد سعودى أنهم كانوا يأتون لتوظيف الطلبة ولم تظهر نتائجهم بعدُ، ومَن ينجحْ منهم يحصلْ على الوظيفة، وقد يذهبُ إليهم طالبُ دار العلوم مليئًا بالمشاكل، لكنه بعد عامٍ واحدٍ تنصلحُ أحواله ويتحسَّن بخلافِ غيره من الكليات الأخرى الذى يزداد بلاؤه.. كانت هذه هى سُمعة دار العلوم منذ عشرين عامًا.. فمن الناحية النسبية لا يزال طلابُ دار العلوم الأفضل.. ومع هذا لو قٌلتُ لك إن طالب دار العلوم الآن هو نفسُه الطالب منذ خمسين عامًا فإنى أكذبُ عليك، ولكن هناك ملاحظة أن دار العلوم كانت تأخذُ مئة طالب منهم عشرة أو خمسة عشر طالبًا رائعًا، الآن تأخذُ أربعة آلاف ستجد من بينهم مئة طالب رائع.. ولكن المئة وسط الآلاف الأربعة قليلٌ ويتفرقون فى الأماكن.

لننتقلَ إلى مجمع اللغة العربية.. يظن الكثيرون أن المجمع يعيشُ فى جزيرةٍ مُنعزلةٍ تمامًا عن الحياةِ الثقافيةِ والاجتماعيةِ والتعليميةِ المصريةِ والعربية.. كيف ترى ذلك؟


- ليته كان كذلك، إذ لو كان يعيشُ فى جزيرةٍ منعزلةٍ لربما أثمر، بل هو يعيشُ فى قلبِ مُشكلاتِ القاهرةِ، وفيه كلُّ ما فى المجتمعِ المصرى من عيوبٍ وغيوب، ويكفى أن أقولَ لك إن المجمع به ثلاثة عشر مكانًا خاليًا، ومع هذا فلو استطعنا أن نشغل منها ثلاثة أو أربعة أماكن يكون جيدًا، ولكن أخشى ألا نستطيع أن نشغلَ سوى مكانٍ واحدٍ..


رموز ثقافية
اسمح لى أن أسألك عن تأثيرِ بعضِ رموزِ الثقافة المصرية فى حياتك الفكرية.. ولنبدأ من الأستاذِ العقَّاد.. ماذا مثَّل لك؟


- مثَّل لى العقَّادُ ما قاله هو بلسانهِ فى حديثهِ الوحيدِ للتلفزيون عندما سألته المذيعة عن الإضافةِ التى قدَّمها للثقافةِ، فقال إننى جعلتُ للثقافةِ قيمةً، لا صلة لها لا بالعائلة ولا بالأسرة ولا بالثروة ولا بالمكانة الاجتماعية، فالعقَّادُ جعل بالفعلِ من الثقافةِ قيمةً.. رجلٌ ليست له أسرةٌ كبيرةٌ، رجلٌ لم يحصل على ليسانس ولا دكتوراه، ومع ذلك فقد عُرضتْ عليه الوزارةُ ورفضَها، ومع ذلك كان يرى نفسه قمةً أدبيةً، وهو بالفعلِ كذلك لأنه جعلَ الثقافةَ قيمةً مستقلةً، أى أنه بلغ المكانةَ التى بلغها بثقافتهِ.


ثروت عكاشة؟


- وصل إلى ما وصل إليه بمكانته الاجتماعية.. أى أنه إن لم يكن ضابطًا من ضباط الثورة ما حسَّ به أحدٌ.


إبراهيم عبد القادر المازنى؟ 


- فى الأول لم أكن أفهم أدبَه، لأنه أدبٌ ساخرٌ، ونحن فى الصعيدِ السخريةُ غيرُ مُحببةٍ إلينا كثيرًا، الجدية أكثر، لما كبرتُ أعجبتنى سُخريته لأننى اكتشفتُ مِثلَه أن الحياةَ «قبض الريح»، لا شىء على الإطلاق، تجىء إلى الدنيا وتخرجُ منها وليس معك شىء، أى أنه كان فيلسوفًا فى الحياة.. ثم إن المازنى كان صادقًا، فهو الوحيدُ الذى اعترفَ بأنه هو والعقاد تجنَّيا على شوقي، سألته مجلة «الإثنين والدنيا» التى كانت تُصدرها دار الريال عن قِصَّته مع شوقى، فقال: ولا شىء، جئتُ والعقاد ووجدنا شوقى يسدُّ الأُفقَ فتشعبطنا على أكتافه ليرانا الناس!


مصطفى صادق الرافعى؟


- هذا رجلٌ قمةٌ، أُمةٌ وحدَه، فى أسلوبه، وفى لُغتهِ، وفى عقيدتهِ، وفى اتجاهِه.. وهب حياتَه للدفاعِ عن اللغة العربيةِ.


الشيخ محمود محمد شاكر؟


- أنا كنتُ أتوقَّعُ منه أكثر وأكثر، هو رجلٌ عالمٌ مُحققٌ لا مثيل له، مجيدٌ، ورغم أنه لم يُحقق كثيرًا فإن ما حقَّقه لا يُعلى عليه.


محمد محيى الدين عبد الحميد؟


- خدم اللغة العربية كثيرًا، لكنها خِدمةٌ عجلةٌ، موسوعى، أدَّى وظيفته فى المجالِ الذى تخصص فيه، لكنه فى خارجِ مجالِه لا شىء.. أدى فى التحقيق وفى اللغة، ولكنه إذا خرج من اللغة إلى النواحى التاريخية فلا شىء.


الدكتور طه حُسين؟


- هناك مُنتفعون بطه حُسين، يُدافعون عنه بالحق وبالباطلِ، والأحرى لا يدافعون عنه بل عن مصالحهم.


إذن.. أيهما: العقَّاد أو طه حُسين، أسهم بعمقٍ فى التكوينِ الثقافى للطاهر مكى؟


- طه حُسين أسهم أكثر، لأننى عرفته قبل العقَّاد، كما أن أسلوب طه حُسين كان جميلًا بخلافِ الأسلوبِ الصَّعبِ للعقَّاد، حتى إننى لم أستطعْ هضمَ أسلوبِ العقَّادِ إلا بعد أنْ دخلتُ دار العلوم، فى الوقتِ الذى كنتُ أحفظُ كتاب (الأيام) لطه حُسين كاملًا وأنا لا أزال ولدًا صغيرًا.


ما انطباعاتُك عن تلاميذك.. وهل ترى من بينهم نوابغَ قادرينَ على إكمالِ مسيرتك العلمية؟ 


- رأيتُ من بينهم نوابغَ كثيرين، لكنْ ماذا ستصنعُ معهم الأيامُ.. أنت تعيشُ فى مُجتمعٍ، وهذا المجتمعُ من الممكنِ أن يُوجِّهك ويضغط عليكَ نحو الخيرِ، وممكن أنْ يُفشلَ كلَّ مسعاك.. وأتمنى على الله أنْ يُوجدوا فى بيئاتٍ تُمكنهم من تنفيذِ مناهجهِم واستخدامِ مواهبِهم وتحقيقِ ما يصبون إليه.


موتُ المُحقِّقين!
كيف ترى التحقيقَ فى مصر الآن.. ولماذا لا نملكُ أسماء كبيرةً كما كُنَّا نفعل من قبل؟


- المُحقِّقون ماتوا جميعًا مع آخر أعيانهم وهو د. محمود الطناحى.. ونحن نحتاجُ إلى مدارسَ جديدةٍ، إلى مدرسةٍ فى الإعدادِ ومدرسةٍ فى المكافأةِ.


الكتبُ كالأبناء، أى أبنائك أحبُّ إليك وآثرُ لديك؟


- فى كُتُبى أكونُ مثل المرأةِ البدويةِ التى أنجبتْ ثلاثة عشرَ ولدًا، وسألوها: أى بنيكِ خير؟ قالت: عبد الله، لا، محمد، لا، خالد.. حتى أتتْ عليهم جميعًا، ثم قالت: ثكلتُهم إنْ كنتُ أعلمُ أيهم أفضل.. فكتبى كالحلقةِ المُفرغةِ لا يُدرى أين طرفاها.. ولكنَّ لكلِّ كتابٍ قيمةً وقصَّةً وتاريخًا وظروفًا خاصَّةً تُذكِّرُ به وتُحبِّبُ فيه.


ألم تُحاولُ كتابة الشِّعرِ أو القصَّة أو الرِّواية.. ولو كانت مُحاولاتٍ قاصدةً؟


- الشِّعرُ لا. طبعًا حاولتُ وأنا صغيرٌ وفشلتُ، فقد شغلتنى أشياء كثيرة فى الحياة.. ولكنى كتبتُ القصة، وكتبتُ مجموعة حكاياتٍ شعبيةٍ التقطتُها من المغربِ بعدما أعجبتنى تحت عنوان: «السُّلطان يستفتى شعبَه.. وحكايات أخرى» وطُبعتْ مرَّتيْن، والمشكلة أننى أوقفتُ طبع كُتبى على دار المعارفِ وربحتُ منها كثيرًا لأنهم أناسٌ شُرفاء، يبيعون جيدًا ويأخذون مالهم ويُعطوننا مالنا، ولكنهم فى الأواخر أفلسوا وتوقف طبعُ كُتبى.. كذلك يُلحُّون فى إعادة طباعة كتابى «بابلو نيرودا» مرة أخرى، وأعتقد أن هذا الكتاب يحوى نوعًا من الإبداعِ، وكانت قد طبعته روزاليوسف فى سبعة آلاف نسخة نفدتْ فى أربعة أشهر فقط، ولا توجد منه نُسخة واحدة حتى عندى.


راهبُ الأدبِ!
اسمحْ لى أن أتطرقَ قليلًا إلى حياتك الشخصية.. الكثيرون يتساءلون عن عُزوفك عن الزواج واختيارك الرهبنة فى حقلِ الدراسات الأدبية؟


- الناسُ لا يعرفون وظيفةَ الزواجِ المُثلى ولا كيف تتم، والزواجُ الأمثلُ له مواصفاتٌ وله شروطٌ قد تتوافرُ وقد لا تتوافرُ، وإذا لم تتوافرُ تُصبحُ مُغامرةً أنْ تقسرَها وتقفزَ عليها، وأنا أحببتُ كثيرًا.. وحاولتُ الزواجَ مرتين وفشلتُ، وقررتُ بعدها ألا أُناطِحَ الزمن.. خطبتُ مرتين فى إسبانيا، إحداهما التى أهديتُ إليها كتابى «دراسةٌ فى مصادر الأدب».. وكنتُ أرفضُ الزواجَ على الطريقةِ المصريةِ، وكثيرًا ما قدَّمَ زملائى لى عُروضًا، وسرعان ما كنتُ أكتشفُ أنهم لا يُريدونَ حلَّ مُشكلتى أنا وإنما حلَّ مُشكلة الطرف الآخر.


صلاح الدِّين فى الأدبِ الأوربي
أعلم أنكَ تقومُ بإعدادِ كتابٍ عن صلاحِ الدين الأيوبى.. هل دفعتَ به إلى المطبعةِ؟


- لا لم أدفعْ به بعدُ، وعنوانُ الكتابِ هو «صورةُ صلاح الدِّين الأيوبى فى الأدبِ الأوربى الوسيط»، أى الإيطالى والفرنسى والإنجليزى والإسبانى، وكيف كان هؤلاء الأوربيون يرون هذا الرَّجل: فى الأساطير وفى المخيلةِ، وليس فى التاريخِ، فأنا لا أكتبُ تاريخًا.


وهل هناك كتبٌ أخرى تعملُ على ترجمتِها أو كتابتِها؟


- هناك كتبٌ كثيرةٌ أرجو الله أن يُعطينى الصِّحَّةَ لإتمامِها.. هناك كتابٌ عن رجلٍ على النقيضِ من صلاحِ الدِّين اسمه محمد بن تومارت، وهو مِن البربر، ومن دُعاةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهى عن المُنكرِ.. وكنتُ قد كتبتُ كتابًا كاملًا عن هذا الرَّجُلِ منذ ثلاثينَ عامًا، وقد وجدتهُ وأنا أُقلِّبُ فى أوراقى ويحتاجُ فقط إلى إعادة النظر.. وأنا من طبيعتى ألا أعملَ فى شىء واحدٍ وإنما أعملُ فى ثلاثة أو أربعة أعمال.. ويُقالُ إن هذه كانت طريقة أحمد أمين أيضًا. 


أسألك- ختامًا- عن نصيحةٍ تُوجِّهها إلينا نحن شباب الباحثين!


- الصَّبر والمُثابرة والتحمُّل، أنتم تقومون بعبءِ الدِّراسةِ والعملِ فى الوقتِ نفسِهِ، وهذا يحتاجُ إلى صبرٍ وتحمُّلٍ، لكن فى نهايةِ المطافِ أنتَ تخرجُ رابحًا.. وبعضُ الزُّملاءِ كانوا نُبهاء فى الدراسةِ لكنهم استعجلوا، خصوصًا أن العملَ كان سهلًا فى زمانِنَا، وتفرَّقتْ بنا الأيامُ والتقينا بعد زمنٍ طويلٍ، ومع أنهم أغنياء جدًّا فقد كانوا يغبطوننا على العلمِ، فالإنسانُ فى فترةٍ من الفتراتِ يستهزئ بالعلمِ ولكنه فى فترةٍ أخرى يتمنى لو سلكَ طريقَه وأكملَ الدِّراسةَ.

اقرأ أيضا | تحرك برلماني لوقف شطب حمام أثري