«البوكر العربية».. منافسة بين الناشرين لا الكُتَّاب

محمد النعاس
محمد النعاس

عائشة المراغى

«خُبز على طاوِلة الخال ميلاد» رؤية مغايِرة لفكرة مُستهلكة

أعلنت أمانة الجائزة العالمية للرواية العربية «البوكر»، الأسبوع الماضى، فوز رواية «خُبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الليبى محمد النعّاس، الصادرة عن دار مسكيليانى للنشر والتوزيع، مع عرض فيديو يعبِّر عن مضمون الرواية، وملخصًا جاء فيه: «فى مجتمع القرية المنغلق، يبحث ميلاد عن تعريف الرجولة المثالى حسبما يراها مجتمعه، يفشل طوال مسار حياته فى أن يكون رجلًا بعد محاولات عديدة، فيقرر أن يكون نفسه وأن ينسى هذا التعريف بعد أن يلتقى بحبيبته وزوجته المستقبلية زينب، يعيش أيامه داخل البيت يضطلع بأدوار خصَّ المجتمع المرأة بها، فيما تعمل حبيبته على إعالة البيت. يظلّ ميلاد مغيبًا عن حقيقة سُخرية مجتمعه منه حتى يفشى له ابن عمه ما يحدث حوله. تعيد هذه الرواية مساءلة التصوُّرات الجاهزة لمفهوم «الجِندر» وتنتصر للفرد فى وجه الأفكار الجماعية القاتلة».


ذلك التقديم للرواية من قِبل الكاتب ولجنة التحكيم، يوحى بتشابه محتمل بينها وبين أحد الأفلام الصادرة بالهند عام 2016 تحت عنوان «هى وهو»، أثار ضجَّة كبيرة فى مجتمعه بعد العرض، لما يتضمَّنه من أفكار اعتبرها الجمهور «شاذَّة» عن تقاليدهم، حيث يحكى قصة زوجين قررا العيش وفق إرادتهما ورؤيتهما المغايرة، لا حسب الإطار المتفق عليه لما يجب أن تكون عليه الحياة، فالزوج اختار أن يتبع خُطى والدته – مثلُه الأعلى – ويصبح «رب منزل» والزوجة لحقت طموحها الوظيفى وحقَّقت نجاحًا باهرًا، وسط سُخرية كبيرة من المحيطين ورفض مجتمعى.


فِكرة «رب المنزل» بشكل مجرد – بعيدًا عن الرواية ومضمونها العميق – يمكن القول إنها قُتِلت تناولًا بأشكال فنية مختلفة، سواء أفلام أو مسلسلات أو روايات أو حتى رسوم متحركة، جميعها يتبادل فيها الرجل والمرأة المهام المرسومة لهم من قِبل المجتمع، ومن الأمثلة عليها؛ المسلسل المصرى «يا رجال العالم اتحدوا» عام 2000، برنامج الواقع «أرباب المنزل» الذى قُدم بأكثر من لغة منها الأسترالية والإنجليزية، وروايتان بنفس العنوان إحداهما للكاتبة «كيم مالون سكوت» عام 2004 والأخرى للكاتب «أد هودلر» عام 2009، فضلًا عن فيلم الرسوم المتحركة اليابانى «الطريق لتكون رب منزل» الصادر فى جزئين عامى 2020/ 2021 والذى بدأ كسلسلة رسوم «مانجا» بإحدى المجلات عام 2018، وغير ذلك من الأعمال.


يبقى الفيلم الهندى هو الأكثر تشابهًا مع الرواية من حيث الخط الرئيسى، لأن كليهما تناول الأمر بشكل جاد داخل مجتمعات ذكورية منغلقة، لكن مع البِدء فى قراءة «خُبز على طاولة الخال ميلاد» يمكن بسهولة تبيُّن مواطن الاختلاف، بدءًا من التفاصيل التى أجاد المؤلف إغراقها فى البيئة العربية عمومًا، والليبية على وجه الخصوص، واعتمد فيها بشكل أساسى على الأمثال الشعبية، ووصولًا إلى النهاية التى انهزم فيها البطل أمام الواقع المجتمعى، وهو ما سبب صدمة لبعض قراء الرواية. إلى جانب اللغة الرصينة التى أضفت على العمل «سلاسة» و«عُمق» فى آن واحد.

 


ومما أشارت إليه لجنة تحكيم الجائزة (المكونة من الروائى والأكاديمى التونسى شكرى المبخوت رئيسًا، وعضوية الكاتبة اللبنانية وعضو الهيئة الإدارية لنادى القلم العالمى إيمان حميدان، الأكاديمية والمترجمة البلغارية بيان ريحانوفا، الشاعر والمترجم الليبى عاشور الطويبى، والشاعرة والناقدة الكويتية سعدية مفرح) فى وصفها للرواية أن: «ما يميز هذا النص الروائى الماتع هو الجرأة فى السرد، والاقتصاد فيه، والانفتاح على مسارات من القص لا توصد الأبواب، وتدفّق اللغة التى تنساب الفصحى فى عروقها بألق لا مبالغة فيه؛ للتعبير عن خبايا الروح والجسد بلا تكلّف أو ابتذال. إنّها رواية تقع فى صلب التساؤلات الثقافيّة الكونيّة حول قضايا الجندر لكنها منغرسة، فى آن واحد، فى بيئتها المحلية والعربية بعيدًا عن التناول الإيديولوجى المسىء لنسبيّة الرواية وحواريتها».


وتعَّد «خُبز على طاولة الخال ميلاد» – حسبما أشار مجلس أمناء الجائزة – بمثابة إعلان عن ميلاد روائى عربى واعد، ينضم إلى كوكبة الكتاب الشبّان الذين قدّمتهم «البوكر العربية» إلى القارئ العربى، فى وطنه الكبير من المحيط إلى الخليج، إذ وُلد القاص والكاتب الصحفى الليبى محمد النعّاس عام 1991، وبذلك يصبح أصغر كاتب فاز بالجائزة فى تاريخها وليس الثانى كما جاء فى بيان الجائزة، ويقترب منه الكويتى سعود السنعوسى الذى حصل عليها عام 2013 فى عمر الثانية والثلاثين، وكان أول من يفوز بها من الكويت مثلما يعتبر النعّاس أول كاتب ليبى يظفر بها. حصل على بكالورويس الهندسة الكهربائية من جامعة طرابلس عام 2014، وقبل عامين صدر له كتابه القصصى الأول «دم أزرق»، وتلاه فى 2021 بكتابه الثانى وروايته الأولى، الفائزة بالبوكر العربية، وقد كتبها فى ستة شهور أثناء فترة الحجر الصحى، عندما كان مقيمًا فى مدينة طرابلس الليبية، تحت القصف وأخبار الموت عن المرض والحرب.

قائمة قصيرة بين الهويّة والحرية
الرواية هى واحدة من ست روايات اختارتها لجنة تحكيم الجائزة للوصول إلى قائمتها القصيرة، تدور قضاياها حول محورى «الهويّة والحرية»، ثلاث منها؛ «دِلشاد.. سيرة الجوع والشبع» لبُشرَى خلفان و«يوميات روز» لريم الكمالى و«أسير البرتغاليين» لمحسن الوكيلى، تعود إلى التاريخ لتستنطق عذابات البشر وأحلامهم فى بيئات عربية مختلفة، وتصوّر مساعى الأفراد المهمّشين أو المقموعين أو المنسيين فى متون التاريخ إلى صنع مصائرهم وتغيير مساراتهم وهم ينشدون الخلاص من وطأة الهيمنة الأجنبية أو التسلّط الاجتماعى والسياسى أو الجوع والفقر والمرض.


أما الرابعة «ماكيت القاهرة» لطارق إمام فتتنقل بين الماضى القريب والمسقبل، وتنشد حريّة الخيال لإعادة بناء واقع يتداخل فيه الوهم والحقيقة بسبب غياب المعنى، بينما تحررت «الخيط الأبيض من الليل» لخالد النصر الله من سيطرة الإطار الزمنى على مسار الأحداث، من خلال قارئ يجاهد من أجل حرية التعبير والإبداع فى مواجهة سُلطات ظاهرة وخفيّة تقمع الفكر. أما «خُبز على طاولة الخال ميلاد» لمحمد النعّاس فجمعت بين المحورين فى تناولها لحرية اختيار الهويّة الفردية فى مجتمع محافظ يسوده العنف الرمزى والمادى.


وقد سعى أصحاب الروايات الست كلٌ بطريقته إلى بناء عالم تخييلى بأساليب متنوعة فى الخطاب الروائى، لكنها تلتقى جميعًا فى الطابع الحوارى المميز، الذى تعددت معه اللغات والأصوات والإيديولوجيات.


جدل سنوى مُتجدد
من الظواهر التى تصاحب الجوائز حول العالم بشكل عام، ما تصنعه من حالات جدل وما تثيره من تساؤلات وشكوك أو استنكارات أحيانًا، وهو ما تتمتع به جائزة البوكر» العربية منذ دوراتها الأولى، إذ تبدأ الحوارات حولها عقب إعلان قائمتها الأولى، وتزداد مع اختيار القائمة القصيرة، وحتى الوصول للفائز، إلا أن السبب فى كل عام يكون مختلفًا فى مضمونه حسب الروايات المختارة وأصحابها.

ما أثارته الجائزة هذا العام ليس من الصعب معرفته ببحث صغير على مواقع التواصل الاجتماعى، وملخَّصه هو صراع جماهيرى «مع وضد» إحدى الروايات المرشَّحة وممارسة ضغوطات شعبية لتذهب الجائزة إليها، مع آراء نقدية تنحاز إلى الرواية الفائزة، اُختُتِمَت بتسريب نتيجة الجائزة عبر صفحة الناشر قبل ساعات من الإعلان عنها فى الحفل الرسمى، مما أتاح الفرصة لتشكيك البعض فى نزاهة الجائزة.


أمر التسريب – رُبما – أصبح معتادًا مع معظم الجوائز الكبرى فى السنوات الأخيرة، وآخِرها جائزة نوبل التى أعلنت نتيجتها صفحة تحمل اسم الكاتب الفائز عبد الرزاق قرنح قبل الإعلان الرسمى. وإن كان الإعلان عن «البوكر العربية» جاء عبر الناشر فهو لا يدعو للاستغراب كثيرًا، إذ تبدو الجائزة – بعد مطالعة شروط التقدم إليها – وكأنها منافسة بين دور النشر أكثر منها بين الكتاب، إذ أن الترشُّح غير مسموح إلا من خلال دار النشر، مع عدد غير قليل من الشروط يخص الناشرين، من بينها «الناشر المؤهل للتقدُّم إلى الجائزة لابد وأن يكون ناشرًا ناشطًا فى المجال وأن تكون شركته قد مرّ عليها ما لا يقل عن عامين فى ممارسة النشر، وأن يكون لديها قائمة منشورات روائية متاحة علنيًا تثبت نشاطها»، وكذلك «تتوقف حصة الروايات التى يقدمها الناشرون المؤهلون للتقدم على عدد المرات التى وصلت فيها كتب الناشر المعنى إلى القائمة الطويلة فى السنوات الخمس السابقة، وذلك على النحو التالى: رواية واحدة للناشرين الذين لم يسبق لهم الوصول إلى القائمة الطويلة، روايتان للناشرين الذين سبق وصولهم إلى القائمة الطويلة مرة واحدة أو مرتين، ثلاث روايات للناشرين الذين سبق وصولهم إلى القائمة الطويلة ثلاث أو أربع مرات، أربع روايات للناشرين الذين سبق وصولهم إلى القائمة الطويلة خمس مرات أو أكثر».

اقرأ ايضا

 برواية «خُبز على طاولة الخال ميلاد» .. الروائي الليبي محمد النعاس يفوز بجائزة البوكر للرواية العربية