تساؤلات

مربى تفاح

أحمد عباس
أحمد عباس

كان الناس بدائيين جدًا، ومسالمين جدا.. جدا، يصحون مع صياحات أول الفجر وينامون لما ينهون فرائضهم، يرسلون أبناءهم إلى الكتاتيب والعظات فيتعلمون ما يجمعون به ولا يفرقون.


صباح يوم أُعلن عن مجىء «الخواجة».. ذلك الشخص الآتى من بلاد يعبرون لها المحيطات وتُقطع فى طريقها القارات. نُسجت عنه الحكايات وغُزلت القصص وتألفت أساطير، البعض قالوا انه رجل أشقر شعره مصفر وعيناه خضراوان بلون الأرض فى مواسم الحصاد، أو زرقاوان كما لون طلوع النهار، وآخرون ذهبوا الى انه جاء من بلاد يتكلمون فيها بلغة لم تُسمع من قبل وأبناء العوائل أيدوا أن له مُلكا لم يؤت لأحد من قبله.


الخواجة كان غنيا مقتدرا.. أو ثريا للحد الذى لا يمكن تشبيهه بأحد، صاحب أراض -استولى عليها- يرمح فيها الخيل الأصيل تصهل ولا تصل نهايتها، وله من العزب والأطيان ما لم يحوزه من قبله إنسان.


وصل الخواجة محمولا على شراع حريرى مصحوبا بمواكب بحر سدت عين الشمس، فصدقوه فورا حتى من قبل الكلام، أقنعهم أنهم أدوا ما عليهم تماما حتى هذه اللحظة وأنه لم يعد أحدهم فى حاجة للعمل من جديد، هذا زمان ولى وانتهى، كلُ سيجلس عزيزا مكرما فى داره لا يشغله لا زرع ولا عيشة، ذلك لقاء أن يتركوا له كتاتيبهم وصوامعهم وأرضهم يزرعها محصولا وحيدا.. تفاح.
لكن الناس لا يعرفون ذلك التفاح، لا يعرفونه مطلقًا ولم يأت به أحد من الخارج ليروه حتى، فلا يزرعه الناس أصلا، يزرعون كل الزراعات إلا ذلك التفاح.


المهم.. أقنعهم الخواجة أن لا شىء يتفوق على تفاحه، ولا طعم يعلو عليه ولا على ملمسه الزجاجى الناعم، أما الريحة فبالتأكيد آتية من ريح الجنة فلا يمكن وصفها ولم يجدوا لها اسما حتى الآن، هى رائحة تفاح وحسب. هم فقط يسلمونه أرضهم ولا يشقون أبدا، وهو يرسل لهم ما يكفيهم من التفاح، وتم الاتفاق فى حينه.
زرع الخواجة الأرض كلها.. كلها تفاح، وأحسن زرعه وجادت زرعته وذاع صيته وعلت أصوات بعد أول قطفة تنصح من لم يسلم أرضه أن يسرع قبل أن يغير الخواجة رأيه ويستغنى عنهم.
أغرق الخواجة الناس فى حلاوة التفاح فتعلموا خلطه بالعسل وصارت مربى التفاح بلسما للبشرة وغذاء للشعر وأحيانا صابونا، وبات غزل الأولاد والأمهات فى الصبايا بالتفاح، شفايف الصبية يجب أن تكون بلون التفاح، والخدود تفاحى حتى النهود لم تسلم.
نامت الناس ونامت وتبلدت واعتادوا على ما يرسله لهم الخواجة وأدمنوا طعم التفاح. الى صباح بائس أحجم فيه الخواجة عن ارسال ما تيسر من تفاحه وأعلن انه من هنا ورايح لن يكون مجانًا، فوافق الناس، وزاد الطلب وعلا سعر التفاح، الخواجة ذكى جدا أعجبته الحيلة فقرر جمع ما فى البيوت من تفاحه ليعيد بيعه بالغالى لمن يرغبون فى أكل التفاح.. وهكذا دارت اللعبة.
وهذه لحظة يقول الراوى إنها لحظة الحقيقة التى تساءل فيها الناس: وما حاجتنا لذلك التفاح بلونه الذى يشبه لون الدم ولا يأتى إلا بالذل!
فنحن نعرف كيف نزرع ما تجود علينا به الأرض ونعرف كيف نقلبها ونحرثها ونرويها ونخدمها ونحن أحن عليها من الغريب فلا نريد تفاح الخواجة.. فقط نريد أراضينا ونحن عليها قوامين.
ويتساءل الراوى على عهدته: هل يفيقون!