الشاعر فتحي عبدالسميع: الشعر علمنى التأمل وحب الحياة

الشاعر فتحى عبدالسميع
الشاعر فتحى عبدالسميع

من يتابع أعمال الشاعر فتحى عبدالسميع يدرك أنه مبدع موسوعى يُدرك الأبعاد الاجتماعية للواقع الذى يعيش فيه ويحاول تغييره إلى الأفضل برصد ظواهره وإعادة تشكيلها فى الأنساق الثقافية التى تصلح. وهو يؤمن بالمجتمع المصرى وقدرته على طرد شوائبه رغم المآسى التى شاهدها بحُكم عمله فى المحكمة: جرائم قتل للشرف، وجرائم ثأر، وانتقامات لا تنتهى لأسباب تافهة جدا؛ ولأنه شاعر فإن هذه الأحداث تتسرب إلى تكوينه وتخرج إلينا دفقات شعرية خالدة: (الخيط فى يدى)، (تقطيبة المحارب)، (خازنة الماء)، ( فراشة فى الدخان)، (تمثال رملى)، (الموتى يقفزون من النافذة)، (أحد عشر ظلا لحجر).. وفى هذا الحوار يتحدث عن تجربته الإبداعية المهمة ورؤيته لمستقبل الشعر العربى وكتبه الجديدة التى يستعد لإخراجها إلى النور:-

 

< كيف استطعت التغلب على روتين الوظيفة بإحدى محاكم قنا وترويضها لصالح إبداعك؟

- بالشعر والتنظيم الدقيق والإخلاص، الشعر هو الذى حولنى إلى إنسان متأمل وشغوف بكل تفاصيل الحياة، وهذا ساعدنى على التعايش مع أجواء مبنى المحكمة الذى قضيت فيه معظم سنوات حياتى، وأعتقد أن الشاعر هو الذى ساعد الموظف فى تحمل أجواء العمل، صحيح أن العمل قدم لى فرصة ذهبية للاحتكاك بالواقع فى أكثر مناطقه حدة وصخبا، لكن طبيعة العمل كانت قاسية جدا على الشاعر بسبب استحواذها على القسم الأكبر من طاقتى ووقتى، والشعر هو الآخر عمل شاق، يحتاج إلى قراءات متواصلة، وإصغاء عميق ومتواصل للذات والعالم، وصراع دائم مع اللغة والكتابة، ولولا شدة انضباطى ودقة تنظيمى للوقت وإيمانى القوى بالكتابة لانصرفت عن الشعر مبكرا، ولو أتيح للشاعر نصف الوقت الذى حصل عليه الموظف لتضاعفت كتاباتى، عدم قناعتنا بالشعر كعملٍ يلعب دورًا فى ضعف الناتج الشعرى، ويسهم بالتالى فى تجريف الهوية بشكل غير مباشر.

 

امتهان الشعر!

< بعد إصدارك سبعة دواوين كاملة.. هل تعمل على مخطوطة ديوان جديد؟

- لدى ديوان جاهز للطبع بالفعل، لكننى ما زلت أعانى مثل جميع الشعراء من صعوبة طبعه، بسبب عدم اهتمام دور النشر بالكتابات الشعرية لأنها لا تحقق ربحا ماديا، وهناك أعداد كبيرة من دور النشر تطلب من الشاعر دفع ثمن الطباعة مقدما، ما معنى أن يدفع المبدع ثمن عمله؟ هذا امتهان شديد للشعر وتحطيم لقيمته، نحن بحاجة شديدة لإنقاذ الشعر من قوانين السوق، الشعر فى الأساس صرخة ضد التوحش المادى فكيف نقدمه قربانا للوحش، نحتاج إلى مشروع ثقافى تتبناه الدولة لرعاية الشعر وغيره من الفنون التى تحمل قيمة معرفية وجمالية واضحة لكنها لا تحقق ربحا ماديا، هذا واجب وطنى وإنسانى، لا يجب أن يكون الروحى خاضعا للمادى، ويجب على مؤسسات الدولة تحقيق التوازن. 

 

< توجد سلاسل فى وزارة الثقافة مخصصة للشعر، فلماذا نحتاج إلى مشروع جديد؟

- سلاسل وزارة الثقافة ضعيفة جدا من حيث التأثير والمساهمة فى حل المشكلة، ولو نظرنا إلى عدد الكتب التى تصدر عنها سنجده قليلا للغاية، وفى وقت سابق كنا نجد سلسلة مثل اأصوات أدبيةب كانت تَصْدر أسبوعيا عن هيئة قصور الثقافة، والآن لا تصدر بانتظام ولو مرة شهريًا، لقد تراجع مشروع النشر فى وزارة الثقافة، وصار بطيئا جدا، وهذا فى تقديرى خطر على الحركة الإبداعية.

 

< رغم أن الشعر لا يحب المشاركة إلا أنك تغلبت على هذه العقبة بأعمالك النقدية.. كيف توازن بين الاثنين؟

- الشاعر والناقد وجهان لعملة واحدة، والشاعر فى اللغة هو العالم، لا يوجد شاعر حقيقى بلا عقل منظم، ولا يوجد ناقد حقيقى بلا قلب نابض، التدفق الشعرى والنقدى يأتى من نبع إنسانى واحد، كل شاعر ناقد بالضرورة وكل ناقد ينبغى أن يكون شاعرا، وكل إنسان متصالح مع نفسه يستطيع الكتابة شعرا ونقدا، المشكلة تتعلق فقط بالوقت الذى نمنحه للشعر والنقد، فكلما زاد تركيزنا مع شيءٍ، وزاد الوقت الذى نمنحه له زاد عطاؤنا فيه.

< هل أخرج الشعر كل مخزونك النفسى والإبداعى.. وهل أنت راض عن رحلتك معه؟

- لست راضيا عن إنتاجى، وأشعر أن ما لدى كان أكبر بكثير مما كتبته، وأننى ظلمت الشاعر الذى يسكننى، لأننى ضيعت وقتا كثيرا كان يجب منحه للشعر، ومعظم هذا الوقت المسروق من الشعر كان بسبب ظروف الحياة، وطبيعة العمل والمسئوليات الاجتماعية والأسرية، وبعضه كان بسبب تورطى فى كتابات اجتماعية كان الأولى بها غيرى، لكنه الواجب الذى دفعنى إليها دفعا، كما هو الحال بالنسبة لقضية الثأر التى تؤرقنى بشكل يومى منذ سنوات بعيدة.

شعراء بالصدفة

< كيف ترى مستقبل الشعر العربى فيما بعد قصيدة النثر.. وهل ترى أنها كانت قادرة على توصيف الواقع؟

- قصيدة النثر تحمل إمكانيات كبيرة جدا بسبب الحرية الكبيرة التى تمنحها للشاعر، لقد وفَّرت للشعراء كل أسباب الإبداع، وهى لذلك قادرة على توصيف الواقع والذهاب بعيدا فى أعماقه، لكننا نعانى مشكلة كبيرة، ليست فى الشكل الشعرى المناسب، بل فى تكوين الشاعر، وبنائه بالطريقة التى تجعله على مستوى المسئولية التى يحملها، فالمصادفات وحدها هى التى تصنع الشعراء، كما أن وعيهم الفردى هو الذى يتحكم فى رؤيتهم، والواقع لا يمنحهم أى عون، بل يعمل بشراسة من أجل تسطيحهم، وإفقارهم على المستويين الخارجى والداخلى.

 

< لماذا يشعر المثقف العربى بخفوت الصوت النقدى مقارنة بالمنتج الشعرى؟

- الأمر غريب فعلا، لأننا نشهد الآن توسعا هائلا على مستوى المناهج النقدية، كما نشهد طفرة غير مسبوقة فى عدد الأساتذة الجامعيين المتخصصين فى النقد الأدبى، ومع ذلك نجد الشكوى الدائمة من ضعف المتابعة النقدية، والسبب يرجع إلى ندرة النوافذ النقدية الجادة، وضعف المردود المادى الذى يعود على الناقد، ولا يتناسب مع صعوبة العمل النقدى وحاجته لوقت طويل حتى يظهر، والأهم فى تقديرى هو انفصال معظم أساتذة الجامعات عن الواقع الثقافى، واكتفاؤهم بالجانب الوظيفى فى الجامعة، لقد غادر معظمهم موقع الناقد الأدبى إلى موقع مدرس الثانوى العام، وبعضهم تحولوا من فرط كسلهم وجمودهم إلى عقبات فى طريق الشعر، والدليل على ذلك بؤس الوعى الشعرى عند الطلبة الذين يتخرجون من كليات الآداب، أما الذين يمارسون النقد فهم قلة قليلة، ويعملون بشكل تطوعى فى الغالب، ولا يمكنهم متابعة الإبداع الشعرى مهما بذلوا من جهود مضنية.

مشكلات تاريخية

< أنت اجنوبىب من قنا، وتوليت عدة مسئوليات فى وزارة الثقافة.. لماذا لا تزال أصوات مبدعى الجنوب خافتة حتى الآن؟

- المبدع الجنوبى يعانى مشكلات تاريخية كثيرة، بعضها يتعلق بقوة موهبته مع ضعف إمكانيات صقلها، وبعضها يتعلق بموقعه الجغرافى البعيد عن علاقات الوسط الثقافى ومصالحه المتبادلة، ولا شك أن وضعه الآن تحسن كثيرا، حيث وفرت له شبكة الإنترنت مكتبة عظيمة كان محروما منها، كما وفرت له مواقع التواصل الاجتماعى فرصة ذهبية لكسر عزلته وتحكم أصحاب المنابر الإعلامية والثقافية، وهناك أصوات كثيرة أثبتت وجودها الناصع على خارطة الحركة الثقافية العربية، وهم للأسف الشديد يعانون حتى الآن تجاهل وزارة الثقافة لهم، كما هو الحال فى تشكيل لجان المجلس الأعلى للثقافة، وبالنسبة لى تم اختيارى مشرفا على سلسلة الإبداع الشعرى فى هيئة الكتاب بمبادرة فردية من الدكتور هيثم الحاج على، ولولا تلك المبادرة، لما توليت أمرا فى وزارة الثقافة، ولولا انتخابى من الأدباء أنفسهم لما توليت موقع الأمين العام لمؤتمر أدباء مصر.

 

< أنت مشغول بالقضايا الاجتماعية لأبناء الصعيد ولك دراسات مهمة عن الثأر.. ما كتابك الجديد عن هذه القضايا؟

لدى أكثر من كتاب ينتظر الطبع، الأول بعنوان (ميزان الدم: طقوس القتل الثأرى) وهو يكمل الوجه الآخر لكتابى (القربان البديل: طقوس المصالحات الثأرية)، كما أننى انتهيت من كتاب جديد عن ثقافة االردحب يتناول العنف اللفظى وجذوره الدينية والأسطورية مع تحليل سيميائى لبعض مظاهره.