أنشودة البساطة في فن «محمد عبلة» منحته وسام الامتياز

أنشودة البساطة
أنشودة البساطة

بقلم : عزالدين نجيب

يثبت التقدير الذى حصل عليه مؤخراً الفنان التشكيلى محمد عبلة بمنحه وساماً رفيعاً من دولة ألمانيا، أنه كسب الرهان على تجاوز الحدود الإقليمية بفن يحتفى بالإنسان وواقعه وبيئته المحلية وحياته اليومية، فى خضم الاتجاهات العالمية المتعالية على المواطن البسيط بأساليب بالغة الغرابة، لا تبالى بذائقته وثقافته وحياته، كما يثبت أهمية احتفاظ الفنان فى البلاد النامية بجسور مفتوحة مع عقل هذا المواطن وذوقه ومشاعره، أيا ما كان مقدار ثقافته ومعرفته أو عدم معرفته بأحدث المدارس الفنية فى العالم..

نلمح فى المسار العام لتجربته الفنية بُعداً طفولياً يميل إلى اللعب، عن طريق التداعى الحر للخطوط، والرسوم والموضوعات، تفريغاً للطاقة الزائدة بداخله


ويثبت ثالثاً صدق المقولة بأن انغماس الفنان فى المحلية لا يقف حائلاً أمام وصوله إلى العالمية، ليس فقط من منظور تميزه بخصوصية التجربة النابعة من طزاجة البيئة الفطرية بالنسبة للعين الأجنبية، بل كذلك من منظور القدرة على إدراك الأبعاد الأصيلة والعميقة للإنسان فى المطلق عبر الزمان والمكان، مهما اختلفت الظروف والأجواء والعادات والثقافات بين الشعوب، فالجوهر الإنسانى العميق واحد، وصِدْق الفنان مع واقعه وجذوره الحضارية، وقدرته على بلورة ملامح شخصية شعبه بعمقها الأنثروبولوجى والحضارى تعد قيمة مضافة إلى العمل الفنى، وليست مخصومة منه حسبما يذهب بعض الفنانين الذين يفضلون اتباع المدارس الفنية الغربية ويلتصقون بها التصاق القدم بالقدم، باعتبارها مقياس الاعتراف بهم على الصعيد العالمى، أو على الأقل: الاعتراف بأنهم حداثيون يجيدون التحدث بلغة العصر.


 محمد عبلة فنان محلى حتى النخاع، رغم أنه درس الفن وفق المناهج والتعاليم الأكاديمية الأوروبية منذ افتتاح مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة ١٩٠٨حتى الآن، ورغم أنه -فوق ذلك- عاش فى الخارج طويلاً واندمج وتفاعل مع الثقافة الأوروبية فى عقر دارها، فإنه عاش واندمج وتفاعل أكثر مع الحياة المصرية فى القرى وعلى شواطئ النيل والترع، وبين الحوارى الشعبية والشوارع المكتظة بالزحام، لقد خبر الحياة فيها واستوعب همومها وابتهج بأفراحها وتأثر بفطرتها وسبر أغوار حضارتها، اختار أبطال لوحاته من المهمشين والكادحين.

ومن الفلاحات والصبايا وهن يغسلن المواعين على شاطئ النهر، ومن الأطفال وهم يستحمون فيه ويحمِّمون مواشيهم كشركاء حياتهم الذين يعيشون معهم فى بيوتهم، وباعتبارهم رفاق كفاحهم ومصدر الخير لهم، فيحنِّون على هذه الحيوانات الأليفة حنان الأقارب والأصدقاء بعطف ومحبة، بغض النظر عن فارق النوع بين الإنسان والحيوان، تلك المحبة وليدة الرحمة التى تخفف عن الدابة ما تلاقيه من قسوة وشقاء -سواء كانت جاموسة أو حصاناً أو حماراً- فى خدمة أصحابها.


إن مثل هذه المشاعر تتجاوز فوارق ثقافات الدول والشعوب والقارات، لأنها وليدة الفطرة الأصيلة للرحمة بكافة المخلوقات الضعيفة حتى لو حللت الشريعة البشرية أكلها بعد ذلك بغريزة حب البقاء للإنسان، ولأن تلك الرحمة الفطرية كامنة فى جوهر الطبيعة الإنسانية، فإن العيون والبصائر تحسن قراءتها وتطرب لها وتتعاطف معها فى كل مكان، حتى فى قلب الحضارة الأوروبية، فهى تتقابل مع ما تلاقيه الحيوانات المنزلية الأليفة هناك من عطف ومحبة داخل البيوت أو فى نزهات الشوارع والحدائق.


 فى لوحات عبلة احتفاء لا يفتر بالحياة والطبيعة الفطرية، وحنين إلى ماضى الطبقة المتوسطة للأسرة المصرية قبل أن ينحدر حالها، إنه يقدمها فيما يشبه الصور التذكارية، بالأزياء والفساتين ذات الموضات القديمة للمرأة وبالطربوش الطويل للرجل، وبشكل عام وبغير محاولة للتفلسف فإنه يعكس واقع الحياة المصرية بكل تناقضاتها، بصخبها وهدوئها، بغلظتها ورقتها، ببساطتها وتعقيدها، ويختار النظر إلى الإنسان المصرى فى مواقف العمل والبهجة  والطرب والترابط الأسرى، متغاضياً عن الوجه الآخر لهذا الواقع المغموس فى الشقاء، والمغلٌف بالأحزان، وكأنه كان يقتدى بالفنان المصرى القديم وهو يرسم على جدران المقابر مشاهد مفعمة بالحياة والسعادة والرضا والفرح بالحصاد، كما يرسمها مترعة بالطرب والبهجة، لتكون نموذجاً لحياته بعد البعث، ذلك لأنه قد كُتِب الخلود فقط لمعانى الخير بمشاهده الواقعية رغم أنها تقام ضمن طقوس جنائزية، لكن الحياة والموت لا ينفصلان فى طبيعة الشخصية المصرية، وإذا كان الحزن أصيلاً فى حياة المصريين، فإن التعبير عنه يقتصر على الطقوس الدينية والاجتماعية أكثر مما يتجلى فى الحياة اليومية التى تحركها الفطرة الإنسانية، حتى أن المثل الشعبى الدارج يترجمها بكلمات أربع هى «الحى أبقى من الميت»، بما يعنى أن نداء الحياة أقوى من نداء الموت.

وهكذا تعكس لوحات عبلة نداء الحياة بمختلف صورها، وقد تستفزه أحياناً -كأى فنان- مظاهر القبح فى الحياة، فيعبر عنها تعبيراً نقدياً جارحاً، كما فعل فى أحد أعمال شبابه، حين صور قاع النيل مليئاً بمجسمات حقيقية لمخلفات وضيعة ومنفرة، صدمت الصورة الذهنية للنيل بقداسته فى حياة المصريين، لكن ذلك تم بهدف إنجاز عمل مفاهيمى، متخذاً أسلوب المدرسة «الدادية»، ساعياً -عن طريق الصدمة- إلى لفت الأنظار  بأى وسيلة للفوز بالجائزة فى بينالى القاهرة أو المعرض العام السنوى لست أذكر، لكن ما أذكره أنه فاز فعلاً بالجائزة التى خطط لاقتناصها، والحقيقة أننى لم أر له أعمالاً أخرى بعدها بنفس هذا الاتجاه الصدامى، ربما لإدراكه بعد نضجه بأنه يجافى الفطرة والسليقة، فعاد بعد ذلك يبحث فى صور الطبيعة عن مظاهر النقاء، ويختار الأماكن والمواقيت التى تتجلى فيها هذه المظاهر، ومنها ما ضمه معرضه عن «القاهرة فى الليل»، وفيه تتلألأ الشوارع والميادين وشاطئ النيل ومجراه بأضواء المصابيح والإعلانات والعلامات الضوئية، وكأنه يستعيد صورة ذهنية عن ليالى الشرق، حيث تبدو القاهرة مدينة شاعرية بصورتها المنعكسة على سطح النيل، بملاهيها ومواقع البهجة المتألقة فيها، وغنى عن القول أنه كان يضع فى حسبانه فى مثل هذه المعارض جاذبية هذا النوع من اللوحات لمقتنى الأعمال الفنية، فقد حسم أمره مبكراً على أن يعيش هو وأسرته من عائد فنه فقط، بعيداً عن أية وظيفة أو دخل من مصدر آخر.


 ومثلما اختار صوراً خاصة للواقع فى الحياة المصرية كموضوعات لأعماله، كذلك اختار الأسوب الواقعى بلمسة تأثيرية حيناً، وبلمسة «بوب آرت» حينا آخر (بمعنى الفن الجماهيرى) وبلمسة تعبيرية فى أغلب الأحيان، محترماً من خلال هذا الأسلوب ملامح الطبيعة والإنسان والحيوان والجماد، بعيداً عن التحريف المتعمد والمُبالغ فيه للنسب وأسس التشريح إلى حد التشويه الخشن الذى اعتدناه فى الأساليب التعبيرية باسم الحداثة، بل إنه -على العكس- لم يتردد فى استخدام الكاميرا للحصول على صور فوتوغرافية من الطبيعة وتكبيرها إلى أحجام ضخمة بالأبيض والأسود، والرسم فوقها بخطوط وألوان إضافية، متحدياً العرف السائد بين الفنانين بعدم احترام الاستعانة بالكاميرا والنقل من صورها، لكنه لم يفعل ذلك بدافع الاستسهال أو التسجيل الوثائقى أو المحاكاة المباشرة للواقع، بل كان يهدف لإنشاء واقع آخر موازٍ للواقع، لا يحاكيه بل يناظره برؤية جمالية مغايرة، تقوم على عنصرى المطابقة والمفارقة فى آن، دون محاولة لإخفاء تقنيات اللعبة، وفى أحد معارضه لم يتردد فى الاستعانة بقماش التنجيد المطبوع بوحدات زخرفية وألوان صريحة وقوية، وجعلها كخلفيات لبعض اللوحات، فيخفى بعضها ويترك بعضها الآخر بزخارفه كما هى، أو يغير بعض ألوانها، أو يضيف إليها من خياله عناصر جديدة، فيخلق بذلك مفارقة فى نفس اللوحة بين العادى المستهلك وبين الخيالى المدهش، وفى نفس الاتجاه استخدم فى لوحات أخرى حروف الكتابة العربية بالخط الثُلُث، وهى مأخوذة من نماذج طباعية على القماش بغرض مزدوج: فمن ناحية يؤكد بها الطابع التراثى، ومن ناحية أخرى يخلق حالة إيقاعية بصرية تشبه (الأوب آرت) أو فن الخداع البصرى، بما يحدثه الشكل من زغللة فى النظر، ولم تعد الاستعانة بمثل هذه الأنماط الصناعية الجاهزة من الخطوط والزخارف مستهجنة فى استخدام الفنانين لها كما كان الحال من قبل، بل صار ذلك مقبولاً ضمن اتجاهات ما بعد الحداثة.


  ويأخذنا ذلك إلى حرص عبلة على وجود طابع اللوحة الشرقية المزدحمة بالعناصر البشرية والحيوانية والحروفية، ويعتمد فيها على الخطوط الخارجية الصريحة لتحديد الأشكال، مستغنياً بها عن التجسيم الأسطوانى بالظل والنور، وعن المنظور الهندسى ثلاثى الأبعاد، مع احتفاظه بحس الفطرة التلقائية وطابع العجالة فى التنفيذ بما يشبه التحضير الأولى للوحة فى بعض الأحيان، ما يضفى عليها نوعاً من الطزاجة، وكأنه يتعامل مع الطبيعة «من اليد إلى الفم» كما يقال.


 وقد نلمح فى المسار العام لتجربته الفنية بُعداً طفولياً يميل إلى اللعب، عن طريق التداعى الحر للخطوط، والرسوم والموضوعات، تفريغاً للطاقة الزائدة بداخله، وهو مدفوع بشحنة الحركة والرغبة فى التعبير التلقائى الفورى عما يجول بخاطره، بدون تخطيط مسبق أو استهداف لأفكار وقضايا كبيرة، وقد أفاض علماء الجمال وعلماء النفس فى أهمية هذا البعد بين أهداف الفن، وأذكر أنه أقام أثناء بداياته الفنية معرضاً تم تكريسه للعبة السلم والثعبان، وإن لم يخل آنذاك من بعض الإسقاطات الرمزية.


 وسواء أراد محمد عبلة أو لم يُرِد، فقد نجح فى صنع «أنشودة البساطة» حسب تعبير الأديب يحيى حقى، وكانت تلك قنطرته للعبور إلى ذائقة المواطن البسيط، بنفس القدر الذى عبَرَ به إلى ذائقة المثقف والمتخصص، ليشق لنفسه بذلك طريقاً جديداً إلى الحداثة، لا يمر عبر حوارى الاتجاهات الفنية الأوروبية المتعالية على الواقع، وإن كان قد أخذ منها ومن إنجازات بعض فنانيها ما يدعم قناعاته، وسرعان ما يفارقهم إلى رؤى مغايرة من هنا وهناك.

اقرأ ايضا

 بعد حصوله على وسام جوته الألماني.. محمد عبلة: لا أريد أن أكون مجرد عابر سبيل