«الباروسميا»... رائحة النار طريق إلى الله!

أحمد الجمَّال
أحمد الجمَّال

كثيرة‭ ‬هى‭ ‬النعم‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬ندرك‭ ‬أهميتها‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬نفقدها،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬حاسة‭ ‬الشم،‭ ‬فهى‭ ‬نعمة‭ ‬لو‭ ‬تعلمون‭ ‬قدرَها‭ ‬لحمدتُم‭ ‬الله‭ ‬عليها‭ ‬حمدًا‭ ‬كثيرًا،‭ ‬يليق‭ ‬بعظيم‭ ‬فضله‭ ‬وكرمه،‭ ‬ولأدركتم‭ ‬كم‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬مخلوق‭ ‬ضعيف‭ ‬متضائل‭ ‬أمام‭ ‬ملكوت‭ ‬الله‭ ‬الفسيح‭ ‬اللامتناهي‭.‬

قبل‭ ‬نحو‭ ‬أسبوع‭ ‬اضطربت‭ ‬لديّ‭ ‬حاسة‭ ‬الشم،‭ ‬وبالتبعية‭ ‬تأثرت‭ ‬فى‭ ‬فمى‭ ‬كل‭ ‬المذاقات،‭ ‬حلوها‭ ‬ومرها،‭ ‬فأضحى‭ ‬أغلب‭ ‬صنوف‭ ‬الطعام‭ ‬سواء،‭ ‬وسيطرت‭ ‬على‭ ‬أنفى‭ ‬رائحة‭ ‬تشبه‭ ‬دخان‭ ‬الحرائق‭ ‬أو‭ ‬النار‭ ‬المشتعلة‭ ‬أو‭ ‬التفاعلات‭ ‬الكيميائية،‭ ‬فلم‭ ‬أقدر‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬لسد‭ ‬جوعي،‭ ‬اللهم‭ ‬إلا‭ ‬أشياء‭ ‬بسيطة‭ ‬مثل‭ ‬المكسّرات‭ ‬والماء‭ ‬والشاى‭ ‬والقهوة‭ ‬والتفاح‭.‬

لاحقًا،‭ ‬علِمتُ‭ ‬أننى‭ ‬أعانى‭ ‬متلازمة‭ ‬االباروسمياب‭ ‬Parosmia،‭ ‬التى‭ ‬أصابت‭ ‬عددًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬مِمَنْ‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬دهمهم‭ ‬كورونا،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬طالنى‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬رغم‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬أُصَب‭ ‬بالفيروس‭ ‬اللعين‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وأخذت‭ ‬جرعتى‭ ‬التطعيم‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬أربعة‭ ‬أشهر‭.‬

على‭ ‬قدر‭ ‬انزعاجى‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬الصحية‭ ‬التى‭ ‬ألمَّت‭ ‬بى‭ ‬وآلمت‭ ‬جسدى‭ ‬ونفسي،‭ ‬فقد‭ ‬فتحت‭ ‬لى‭ ‬بابًا‭ ‬لتأمل‭ ‬قدرة‭ ‬الخالق،‭ ‬إذ‭ ‬كيف‭ ‬خلق‭ ‬الله‭ ‬فى‭ ‬أجسادنا‭ ‬هذه‭ ‬الأعصاب‭ ‬الدقيقة‭ ‬التى‭ ‬نتعرَّف‭ ‬مِن‭ ‬خلالها‭ ‬إلى‭ ‬روائح‭ ‬الأشياء‭ ‬ومذاقاتها؟‭! ‬كنت‭ ‬أدرك‭ ‬جيدًا‭ ‬رائحة‭ ‬الورد‭ ‬والبخور‭ ‬والطعام‭ ‬الشهى‭ ‬وفنجان‭ ‬قهوتي‭.. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أخطئ‭ ‬عطر‭ ‬زوجتي،‭ ‬ورائحة‭ ‬طفلتيّ‭ ‬الصغيرتين‭ ‬حين‭ ‬تتعلق‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬فى‭ ‬عنقى‭ ‬وتطبعان‭ ‬قبلتين‭ ‬رقيقتين‭ ‬على‭ ‬خديّ،‭ ‬وحتى‭ ‬رائحة‭ ‬الشوارع‭ ‬المغسولة‭ ‬بحبات‭ ‬المطر،‭ ‬نعم‭ ‬للشتاء‭ ‬رائحة‭ ‬أتذكرها‭ ‬الآن‭ ‬بالكاد‭!‬

فجأة‭ ‬صار‭ ‬كل‭ ‬شىء‭ ‬كريهًا،‭ ‬كأننى‭ ‬أحلِّق‭ ‬فى‭ ‬الهواء‭ ‬داخل‭ ‬دائرة‭ ‬دخان،‭ ‬أو‭ ‬أقف‭ ‬عاريًا‭ ‬فى‭ ‬مَكبِ‭ ‬نفايات‭.. ‬وأخبرنى‭ ‬طبيب‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬شاع‭ ‬فى‭ ‬أعقاب‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا،‭ ‬التى‭ ‬تؤثر‭ ‬خصوصًا‭ ‬فى‭ ‬حاستى‭ ‬الشم‭ ‬والتذوق،‭ ‬وبحثت‭ ‬فوجدتُ‭ ‬المئات‭ ‬بل‭ ‬الألوف‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬أصابهم‭ ‬الخلل‭ ‬الحسّى‭ ‬ذاته،‭ ‬وعلى‭ ‬مدار‭ ‬أيام‭ ‬العيد‭ ‬الفائت،‭ ‬انكببتُ‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬ما‭ ‬يكتبونه‭ ‬من‭ ‬شهادات‭ ‬عن‭ ‬مرضهم‭ ‬على‭ ‬مواقع‭ ‬الإنترنت‭.. ‬انتابتنى‭ ‬حالة‭ ‬صدمة‭ ‬وشَدَه‭ ‬وأنا‭ ‬أطالع‭ ‬ما‭ ‬دوَّنوه‭ ‬عن‭ ‬معاناتهم‭ ‬التى‭ ‬تجاوزت‭ ‬مدتُها‭ ‬فى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬عامًا‭ ‬ونصف‭ ‬العام،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬المرض‭ ‬لا‭ ‬علاج‭ ‬له‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬باستثناء‭ ‬عملية‭ ‬تُجرى‭ ‬فى‭ ‬أمريكا‭ ‬لحقن‭ ‬الأعصاب‭ ‬فى‭ ‬الرقبة‭ ‬بحيث‭ ‬تعيد‭ ‬تنشيطها‭ ‬وإعادة‭ ‬عملها‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

فى‭ ‬بداية‭ ‬الأزمة،‭ ‬أدركتُ‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬من‭ ‬مواجهة‭ ‬ذلك‭ ‬المصير‭ ‬الصعب‭ ‬والقدر‭ ‬المحتوم،‭ ‬بأن‭ ‬أتحوَّل‭ ‬مِن‭ ‬بشر‭ ‬إلى‭ ‬أى‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الجمادات‭ ‬الموجودة‭ ‬حولي،‭ ‬فأن‭ ‬تصبح‭ ‬جمادًا‭ ‬يعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أنك‭ ‬لست‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تشم‭ ‬أو‭ ‬تتذوق‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬نظن‭ ‬نحن‭ ‬البشر‭.. ‬ذهبتُ‭ ‬لصلاة‭ ‬الجمعة‭ ‬الماضية،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬فرغت‭ ‬منها‭ ‬وأثناء‭ ‬عبورى‭ ‬الشارع‭ ‬تسمرت‭ ‬فى‭ ‬نهره،‭ ‬أغمِضت‭ ‬عيناى‭ ‬لا‭ ‬إراديًا‭ ‬وأخذتُ‭ ‬نفسًا‭ ‬عميقًا‭ ‬وأبت‭ ‬قدماى‭ ‬أن‭ ‬تبرحا‭ ‬مكانهما،‭ ‬تخيلتُ‭ ‬أننى‭ ‬شجرة‭ ‬وظللتُ‭ ‬متشبثًا‭ ‬بالأرض،‭ ‬ولم‭ ‬أفق‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬جذبنى‭ ‬شخص‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬سيارة‭ ‬متهورة‭ ‬كادت‭ ‬تصدمني‭.‬

لقد‭ ‬أضحى‭ ‬كل‭ ‬الجمال‭ ‬قبيحًا‭.. ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬قناعتى‭ ‬وأنا‭ ‬أفتش‭ ‬فى‭ ‬ذاكرة‭ ‬عقلى‭ ‬عن‭ ‬روائح‭ ‬مغايرة‭ ‬لتلك‭ ‬التى‭ ‬غمرتنى‭ ‬بسوئها،‭ ‬وسدَّت‭ ‬عليّ‭ ‬الفراغ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬اتجاه،‭ ‬فلم‭ ‬أجد‭ ‬شيئًا‭ ‬فى‭ ‬معين‭ ‬ذكرياتي،‭ ‬معظم‭ ‬الروائح‭ ‬تبّخر،‭ ‬الأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بلصٍ‭ ‬أوقفنى‭ ‬فى‭ ‬منطقة‭ ‬نائية‭ ‬غير‭ ‬مأهولة‭ ‬بالناس‭ ‬وسلبنى‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬بحوذتى‭ ‬من‭ ‬مال،‭ ‬وفر‭ ‬هاربًا،‭ ‬فلا‭ ‬أنا‭ ‬استطعت‭ ‬مطاردته،‭ ‬ولا‭ ‬كان‭ ‬بمقدورى‭ ‬مغادرة‭ ‬المكان‭.‬

لكن‭ ‬فجأة‭ ‬تواصل‭ ‬معى‭ ‬صديقٌ،‭ ‬هو‭ ‬شاب‭ ‬فلسطينى‭ ‬يعيش‭ ‬فى‭ ‬ولاية‭ ‬تكساس‭ ‬الأمريكية،‭ ‬علمتُ‭ ‬أنه‭ ‬يعانى‭ ‬الأزمة‭ ‬نفسها‭ ‬منذ‭ ‬نحو‭ ‬18‭ ‬شهرًا،‭ ‬لم‭ ‬يذق‭ ‬فيها‭ ‬طعمًا‭ ‬حلوًا‭. ‬قال‭ ‬لي‭: ‬اأنت‭ ‬فى‭ ‬نعمة‭ ‬يا‭ ‬صديقي،‭ ‬فإصابتُك‭ ‬بالباروسميا‭ ‬حديثة‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬شهرًا،‭ ‬وبالتأكيد‭ ‬لا‭ ‬زلت‭ ‬تتذكر‭ ‬ولو‭ ‬شيئًا‭ ‬يسيرًا‭ ‬من‭ ‬الروائح‭ ‬ومذاقات‭ ‬الأطعمة،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬أذكر‭ ‬منها‭ ‬شيئًا‭ ‬على‭ ‬الإطلاقب‭.‬

تأثرت‭ ‬كثيرًا‭ ‬للحال‭ ‬التى‭ ‬آل‭ ‬إليها،‭ ‬وقلتُ‭ ‬فى‭ ‬نفسي،‭ ‬كيف‭ ‬يحسدنى‭ ‬هذا‭ ‬الشاب‭ ‬على‭ ‬نعمةٍ‭ ‬ناقصة،‭ ‬نعمة‭ ‬أننى‭ ‬ما‭ ‬زلتُ‭ ‬أتذكر‭ ‬روائح‭ ‬ومذاقات‭ ‬بعض‭ ‬الأشياء،‭ ‬رغم‭ ‬أننى‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬باستطاعتى‭ ‬استحضارها‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭! ‬فماذا‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الصديق‭ ‬كان‭ ‬يتحدَّث‭ ‬إلى‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬غيرى‭ ‬يتمتع‭ ‬بنعمة‭ ‬الحواس‭ ‬الكاملة؟‭!‬

إنه‭ ‬لشيء‭ ‬مؤلم‭ ‬أن‭ ‬يصل‭ ‬بنا‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحال،‭ ‬لكن‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لله‭ ‬حكمة‭ ‬فيما‭ ‬يوصلنا‭ ‬إليه‭.. ‬وأظن‭ ‬أن‭ ‬حكمة‭ ‬الله‭ ‬هى‭ ‬أن‭ ‬نشكره‭ ‬ونحمد‭ ‬فضله‭ ‬على‭ ‬نعمه‭ ‬الكثيرة‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تُعد‭ ‬ولا‭ ‬تُحصى،‭ ‬ما‭ ‬بدا‭ ‬منها‭ ‬واضحًا‭ ‬جليًا‭ ‬وما‭ ‬ظننا‭ ‬أنه‭ ‬مستتر،‭ ‬وأن‭ ‬ننتبه‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬تلك‭ ‬النعم‭ ‬ونحن‭ ‬نتمتع‭ ‬بها،‭ ‬لأنها‭ ‬حين‭ ‬تضيع‭ ‬نفقد‭ ‬الكثير‭ ‬جدًا،‭ ‬وإن‭ ‬ضاعت‭ ‬فليس‭ ‬علينا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نحمد‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نزال‭ ‬نتذكرها‭.‬

الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ - ‬لمَنْ‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ - ‬دائمًا‭ ‬قصير،‭ ‬ولتكن‭ ‬بداية‭ ‬الطريق‭ ‬أن‭ ‬نشكره‭ ‬تعالى‭ ‬على‭ ‬نعمه‭ ‬العظيمة،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ ‬فى‭ ‬أعيننا‭ ‬بسيطة‭.‬

شفانى‭ ‬الله‭ ‬وإياكم‭.. ‬وحفظكم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سوء‭.‬

Email‭: ‬[email protected]