كثيرة هى النعم التى لا ندرك أهميتها إلا حين نفقدها، ومن بينها حاسة الشم، فهى نعمة لو تعلمون قدرَها لحمدتُم الله عليها حمدًا كثيرًا، يليق بعظيم فضله وكرمه، ولأدركتم كم أن الإنسان مخلوق ضعيف متضائل أمام ملكوت الله الفسيح اللامتناهي.
قبل نحو أسبوع اضطربت لديّ حاسة الشم، وبالتبعية تأثرت فى فمى كل المذاقات، حلوها ومرها، فأضحى أغلب صنوف الطعام سواء، وسيطرت على أنفى رائحة تشبه دخان الحرائق أو النار المشتعلة أو التفاعلات الكيميائية، فلم أقدر على تناول أى شيء لسد جوعي، اللهم إلا أشياء بسيطة مثل المكسّرات والماء والشاى والقهوة والتفاح.
لاحقًا، علِمتُ أننى أعانى متلازمة االباروسمياب Parosmia، التى أصابت عددًا كبيرًا مِمَنْ سبق أن دهمهم كورونا، ولا أعرف كيف طالنى هذا المرض رغم أننى لم أُصَب بالفيروس اللعين من قبل، وأخذت جرعتى التطعيم قبل نحو أربعة أشهر.
على قدر انزعاجى من هذه الأزمة الصحية التى ألمَّت بى وآلمت جسدى ونفسي، فقد فتحت لى بابًا لتأمل قدرة الخالق، إذ كيف خلق الله فى أجسادنا هذه الأعصاب الدقيقة التى نتعرَّف مِن خلالها إلى روائح الأشياء ومذاقاتها؟! كنت أدرك جيدًا رائحة الورد والبخور والطعام الشهى وفنجان قهوتي.. لم أكن أخطئ عطر زوجتي، ورائحة طفلتيّ الصغيرتين حين تتعلق الواحدة تلو الأخرى فى عنقى وتطبعان قبلتين رقيقتين على خديّ، وحتى رائحة الشوارع المغسولة بحبات المطر، نعم للشتاء رائحة أتذكرها الآن بالكاد!
فجأة صار كل شىء كريهًا، كأننى أحلِّق فى الهواء داخل دائرة دخان، أو أقف عاريًا فى مَكبِ نفايات.. وأخبرنى طبيب أن المرض شاع فى أعقاب جائحة كورونا، التى تؤثر خصوصًا فى حاستى الشم والتذوق، وبحثت فوجدتُ المئات بل الألوف من البشر حول العالم أصابهم الخلل الحسّى ذاته، وعلى مدار أيام العيد الفائت، انكببتُ على متابعة ما يكتبونه من شهادات عن مرضهم على مواقع الإنترنت.. انتابتنى حالة صدمة وشَدَه وأنا أطالع ما دوَّنوه عن معاناتهم التى تجاوزت مدتُها فى كثير من الأحيان عامًا ونصف العام، خصوصًا أن المرض لا علاج له حتى الآن، باستثناء عملية تُجرى فى أمريكا لحقن الأعصاب فى الرقبة بحيث تعيد تنشيطها وإعادة عملها من جديد.
فى بداية الأزمة، أدركتُ أنه لا مفر من مواجهة ذلك المصير الصعب والقدر المحتوم، بأن أتحوَّل مِن بشر إلى أى شيء آخر من الجمادات الموجودة حولي، فأن تصبح جمادًا يعنى ذلك أنك لست بحاجة إلى أن تشم أو تتذوق أو هكذا نظن نحن البشر.. ذهبتُ لصلاة الجمعة الماضية، وما إن فرغت منها وأثناء عبورى الشارع تسمرت فى نهره، أغمِضت عيناى لا إراديًا وأخذتُ نفسًا عميقًا وأبت قدماى أن تبرحا مكانهما، تخيلتُ أننى شجرة وظللتُ متشبثًا بالأرض، ولم أفق إلا حين جذبنى شخص بعيدًا عن سيارة متهورة كادت تصدمني.
لقد أضحى كل الجمال قبيحًا.. هكذا كانت قناعتى وأنا أفتش فى ذاكرة عقلى عن روائح مغايرة لتلك التى غمرتنى بسوئها، وسدَّت عليّ الفراغ من كل اتجاه، فلم أجد شيئًا فى معين ذكرياتي، معظم الروائح تبّخر، الأمر أشبه بلصٍ أوقفنى فى منطقة نائية غير مأهولة بالناس وسلبنى كل ما بحوذتى من مال، وفر هاربًا، فلا أنا استطعت مطاردته، ولا كان بمقدورى مغادرة المكان.
لكن فجأة تواصل معى صديقٌ، هو شاب فلسطينى يعيش فى ولاية تكساس الأمريكية، علمتُ أنه يعانى الأزمة نفسها منذ نحو 18 شهرًا، لم يذق فيها طعمًا حلوًا. قال لي: اأنت فى نعمة يا صديقي، فإصابتُك بالباروسميا حديثة لم تتجاوز شهرًا، وبالتأكيد لا زلت تتذكر ولو شيئًا يسيرًا من الروائح ومذاقات الأطعمة، أما أنا فلم أعد أذكر منها شيئًا على الإطلاقب.
تأثرت كثيرًا للحال التى آل إليها، وقلتُ فى نفسي، كيف يحسدنى هذا الشاب على نعمةٍ ناقصة، نعمة أننى ما زلتُ أتذكر روائح ومذاقات بعض الأشياء، رغم أننى لم يعد باستطاعتى استحضارها إلى الواقع! فماذا لو أن هذا الصديق كان يتحدَّث إلى شخص آخر غيرى يتمتع بنعمة الحواس الكاملة؟!
إنه لشيء مؤلم أن يصل بنا الأمر إلى هذه الحال، لكن بالتأكيد لله حكمة فيما يوصلنا إليه.. وأظن أن حكمة الله هى أن نشكره ونحمد فضله على نعمه الكثيرة التى لا تُعد ولا تُحصى، ما بدا منها واضحًا جليًا وما ظننا أنه مستتر، وأن ننتبه إلى وجود تلك النعم ونحن نتمتع بها، لأنها حين تضيع نفقد الكثير جدًا، وإن ضاعت فليس علينا إلا أن نحمد الله على أننا لا نزال نتذكرها.
الطريق إلى الله - لمَنْ أراد أن يرى - دائمًا قصير، ولتكن بداية الطريق أن نشكره تعالى على نعمه العظيمة، وإن بدت فى أعيننا بسيطة.
شفانى الله وإياكم.. وحفظكم من كل سوء.
Email: [email protected]