النقاد: دراما الجريمة.. لا تفيد لهذه الأسباب

مشهد حرق “حسين أبو طالب - محمد فراج”
مشهد حرق “حسين أبو طالب - محمد فراج”

ريزان العرباوى

بين الحين والآخر، تظهر بعض الأعمال الفنية التي تثير الجدل، سواء لجرأة المحتوى، أو وجود مشاهد عنف وقتل, وتعتبر دراما الجريمة من أكثر الأنماط الفنية المثيرة للجدل في الفترة الأخيرة, والتي قد تضع الدراما في قفص الاتهام عند محاكاة البعض لتلك المشاهد, مما قد يؤدي إلى زيادة معدل الجريمة, خاصة تلك الأعمال التي تعمل على خلق مبررا دراميا للقاتل، كمن يقتل من قتل سابقا بهدف تحقيق العدالة الغائبة، أو تبرز القاتل بأنه ضحية أو مريض نفسي لاستجداء مشاعر العطف لدى الجمهور.. وكان للدراما الرمضانية هذا العام نصيبا من تلك الأعمال التي جسدت جرائم وقعت بالفعل بتفاصيلها، مما أعاد للأذهان وقائع تلك الجرائم البشعة.. “أخبار النجوم” رصدت أراء وتحليل علماء النفس والإجتماع لمعرفة مدى التأثير النفسي والإجتماعي لتلك المشاهد على المتلقي؟, وهل من الممكن أن تخلق أبعاد نفسية مضطربة لمن يشاهدها؟.

 

أثار مسلسل “انحراف” حفيظة البعض نظرا لاحتوائه على مشاهد قتل تم تنفيذها بقلب ميت وجرائم متعددة وخيانة زوجية, حيث بدأت أولى حلقات العمل بمشهد انتقام الطبيبة “حور -  روجينا”، وهي شخصية مركبة متناقضة, من رجل الأعمال “طلعت الدقاق - محمد لطفي”، وقتلته بدم بارد على أنغام الموسيقى, وكان من ضمن الجرائم التي استعرضها العمل أيضا حادث المرج, تلك القضية التي أثارت الرأي العام لبشاعتها، عندما أقدمت الأم على قتل أبنائها بضغط من الأب وتحريض من زوجته الثانية, تفاصيل المشهد كانت صادمة ومؤلمة للجمهور, وكانت سببا في أن تعلو الأصوات مطالبة بوقف عرض العمل، المسلسل مأخوذ عن أحداث حقيقية، وهو إخراج رؤوف عبد العزيز وتأليف مصطفى شهيب.

 

وكان لروجينا تعليق سابق على ذلك الجدل الذي صاحب العمل, حيث صرحت أن المسلسل عبارة عن قصص حقيقية من ملفات القضايا المصرية, وليس من خيال الكاتب, يتحدث عن انحراف السلوك، وتلك اللحظة التي قد يعيشها أي شخص طبيعي حينما يتم وضعه تحت ضغوط معينة, ونرصد إلى أين سوف يذهب مستقبله نتيجة هذا الانحراف؟, وهذه التجربة صعبة لأي فرد يعيش فيها, وعندما أقوم بأداء شخصيتي في كل قصة من حكايات المسلسل أشعر بحزن شديد بسبب وجود بعض الناس التى عوقبت بشكل سيء جدا.

هناك أيضا مشهد حرق “حسين أبو طالب - محمد فراج” في مسلسل “العائدون”, عندما حكم عليه بالقتل حرقا وعلى الملأ بعد اكتشاف تنظيم “داعش” الإرهابي، حقيقة عمله مع المخابرات المصرية, في مشهد يطابق ما حدث مع الطيار الأردني معاذ الكساسبة, الذي قتل بالطريقة نفسها.

تلك المشاهد التي تعرض مرارا وتكرارا على المشاهد, تفرض تساؤل حول مدى تأثيرها النفسي والإجتماعي، وهل بالفعل الدراما متهمة بزيادة معدل الجريمة؟.

 

“مصل للتعافي”

تقول د. سامية خضر - أستاذ علم الإجتماع بجامعة عين شمس - : “للآسف بعض الأعمال تقوم على التسويق والترويج للمجرمين وإظهارهم  أبطالا، مما قد يؤدي إلى تعاطف المشاهد, ومن هنا أشارت أصابع الإتهام للدراما بأنها سبب في تفشي الجريمة نظرا لتناول هذه المواضيع في ثنايا العمل, أو أن يدور العمل الدرامي كاملا عن هذه الجرائم, مع تبرير أفعال المجرمين وسهولة إفلاتهم من العقاب والقانون, فهذه الدراما التلفزيونية التي تجسد الجرائم بأنواع مختلفة أشد خطرا من الإرهاب نفسه, نظرا لتنامي بعض الأنماط السلوكية الإجرامية في المجتمعات، وإنعكاسها في شكل محتوى درامي, بالإضافة إلى زيادة التعرض لهذه المضامين, فهي قد تجعل المشاهد في حالة استمتاع بمشاهدته هذه الجرائم, وقد يصل به الأمر إلى تقليدهم, خاصة أنها أعمال تخاطب جميع الفئات العمرية، ومن ضمنها فئة المراهقين الذين يعتبرون هم الأكثر تأثرا، ومن المفترض قبل البدء في تنفيذ أي مشروع فني، الوقوف عند أهدافه ومضمونه ودراسة أبعاده النفسية والإجتماعية”.

 

وتتابع: “هم غير مدركين للتأثير وسائل الإعلام المرئية والمسموعة الذي ينتقل بسرعة رهيبة من الشاشة إلى الشارع، حتى اللفظ، وهناك العديد من الجرائم وحالات الانتحار التي تمت تقليدا للأعمال الدرامية, أما فكرة تتبع وقتل من يستحق القتل من الهاربين من العادلة هي فكرة عقيمة تعمل على إلغاء القانون وفرض قانون الغابة.. هناك نقطة مهمة أيضا وهي أن كل وسائل القتل ظهرت من خلال الأعمال الفنية لدرجة ابتكار وسائل جديدة للقتل، ولا أفهم لماذا يرهقون أنفسهم في هذا الأمر، وأتعجب لماذا تركت الدولة هذا المجال دون مراجعته؟.. ومن يقول أنها أعمال تعكس الواقع, أقول لهم أن ما يقدم بعيد كل البعد عن الواقع, فليس كل الواقع جرائم قتل واستباحة للدماء أو خيانة زوجية وزنا محارم, ما يقدم في هذا الإطار ليست أعمال تعكس الواقع، وإنما أعمال تساهم على هدم الثوابت الإجتماعية والهبوط الأخلاقي، لتعطي صورة سيئة للمجتمع المصري”.

 

وتضيف: “مسألة التصنيف العمري لا قيمة لها، وليس لها أي دور في حماية الأطفال والشباب من مخاطر التعرض لمشاهد القتل والعنف، ونحن نعاني من نسبة تصل إلى 25 %أمية من المجتمع المصري, فكيف سيقرأون ويفهمون التحذيرات, فالتعرض لوسائل الإعلام المرئي والمسموع لا يتطلب أن يكون الشخص ملما بالقراءة والكتابة، فكيف ونحن نعيش تحت حكم رئيس دولة يقدر المرأة ويحترمها ويقدر الفن ودوره التثقيفي، وتأتي الدراما في أكثر موسم يتسم بإرتفاع نسب المشاهدة  ليصب بعض صناعها اهتمامهم لتجسيد الجريمة بأبشع صورها، ويسيء للمرأة وصورتها، ويقدمها على أنها قاتلة وخائنة، ونحن بحاجة إلى رقابة وتدخل سريع لإنقاذ الفن الذي أصيب بـ(كورونا) فنية خطيرة، فنحن بحاجة إلى (فاكسين)، أو مصل للتعافي”.

 

“دراما سوداء”

ويرى د. وليد هندي - استشاري الصحة النفسية - أن خطر هذه المشاهد هو التوحد مع الجاني نفسيا، والشعور بالمظلومية تجاهه, ويقول: “هنا الدراما تبث السم في العسل، بما يتناقض مع مفهومها الحقيقي وأهدافها من تشكيل الوجدان وبناء الشخصية وتكوين مفاهيم عن العلاقات الإنسانية وأسلوب التعامل مع الأزمات, لذلك أحذر من خطورة هذه المشاهد التي تعطي مبررات للقتل, حيث تعد الأعمال الدرامية والسينمائية أدوات مساعدة في تكوين السلوك الإجرامي لدى الأفراد، وذلك من خلال إعطاء مبررات ومظهر الكفاح والنضال للمجرم, وينظر بعض علماء الإجتماع والقانون الجنائي إلى وسائل الإعلام على أنها أحد العوامل المؤثرة في الظاهرة الإجرامية، خاصة عند تصوير الأحداث من منطلق تأثيراتها الإنسانية والعاطفية العامة، لتصاغ الرسائل بعد ذلك بقوالب وقصص درامية ذات نزعة عاطفية, فلابد أن يتحلى المشاهد بالوعي الكافي وتحصين فكري ضد هذه المشاهد، لإنتقاء ما يتعرض له، وأن يتحلى باليقظة الذهنية لإستيعاب الدراما السوداء التي تعطي مفاهيم مغلوطة تجاه بعض الأمور”.

 

“صياغة الواقع”

ورفضت الناقدة الفنية علا الشافعي فكرة تحميل الدراما أكثر من طاقتها، وأنها طوال الوقت مدانة، وسبب في تفشي كل أمراض المجتمع، فهي فكرة غير عادلة من وجهة نظرها، وتقول: “الدراما ليست المسئول الوحيد لزيادة معدلات الجريمة أو حالات الانتحار, فأمام هذا الانفتاح الحاصل والتوغل في إستخدام وسائل التواصل الحديثة، نحن أمام تحديات أكبر”.

 

وتضيف: “الفن يعمل على إعادة صياغة الواقع بطبيعة أخرى تملأ الفجوات الموجودة فيه، ليضفي عليه جمالية فنية، ويبقى مفهوم الإبداع على أنه عملية عقلية تعتمد على مجموعة من القدرات تتميز بعدد من الخصائص, وتعد الجريمة مادة درامية مشوقة لما تحتويه من عناصر جذب من واقع الحياة، وتجسيدها على شكل محتوى فني، وهو سبب إقبال صناع الدراما عليها, وبالرغم من أنني ضد تجسيد الجريمة بتفاصيلها وتوظيفها بشكل فج مثير بهدف زيادة معدلات المشاهدة، حتى لا تتهم بأنها محرضة للعنف من قبل المحللين النفسين والدراسات الإجتماعية, لكن في نفس الوقت أرفض قمع الإبداع وحجب الأفكار.. والمحك هنا هو كيفية معالجة الجريمة في الأعمال الفنية، وهي مسألة تستلزم دراسة وافية لمضمون المواد السينمائية والتلفزيونية التي تتناول قصص الجريمة، في محاولة لتعديل القيم الأخلاقية والأنماط السلوكية ومعالجة المشكلات الإجتماعية”.

 

وتختتم علا كلامها بالقول: “الدراما مثل أي وسيلة اتصال أخرى، قد يكون لها تأثير إيجابي أو سلبي على الجمهور، حسب طبيعة العمل، وحسب سياسة وأيدولوجية المؤلف والمخرج، أما فكرة تصوير القاتل على أنه بطل وضحية ليكسب تعاطف الجمهور، فهي غير واردة، لأن الجمهور واعي جدا، ومن المستحيل أن يتعاطف مع الجاني، ومسألة خلق المبررات الدرامية بديهية، لأن الدراما تبنى على الأبعاد النفسية والإجتماعية للشخصيات”.