عيد القراءة والقراء

عيد القراءة والقراء
عيد القراءة والقراء

فى الثالث والعشرين من أبريل الماضى احتفل العالم باليوم العالمى للكتاب، وقد اختارت اليونسكو هذا اليوم – كما هو معروف- لأنه يوافق ذكرى رحيل كل من ميجيل دى ثربانتس، ووليم شكسبير، والبيروفى إنكا جارثيلاسو دى لا بيجا. وقد بدأت المنظمة العالمية هذا التقليد فى 1995، لكن الإسبان اعتادوا، منذ بدايات القرن العشرين، الاحتفاء بالكتاب فى ذكرى ميلاد كاتبهم الأشهر ثربانتس عبر احتفاليات ومهرجانات، أما أهالى إقليم كتالونيا فقد ابتكروا شكلاً خاصاً للاحتفال يمزج الحب بالثقافة، حيث اعتادوا مبادلة الكتب بالورود، الرجل يهدى حبيبته وردة فترد بكتاب. 
وأتذكر أننى دعيت فى 2012 للمشاركة فى فعاليات اليوم العالمى للكتاب فى مدينة هامبورج، إحدى أجمل مدن ألمانيا. كانت احتفالية ضخمة أقيمت فى ميدان فسيح بمشاركة كتاب من أنحاء العالم، وكان مطلوباً منى ومن زملائى المشاركين تقديم الكتب التى نحبها للجمهور الغفير. اخترت الحديث عن «أطياف ألف ليلة: تأثيراتها والمسكوت عنه فيما يخصها». وقد لاحظت أن كل ما فى هامبورج يومها كان يُذكِّر بالكتب والثقافة، لذا لم أندهش حين قيل لى إنهم فى ألمانيا يختارون عناوين بعينها، ويعيدون إصدارها فى طبعات شعبية بأرقام تناهز المليون نسخة ضماناً لوصولها لأكبر عدد ممكن من القراء. فرّجتنى مرافقتى على نسختها من رواية «الجانب الأصغر من شارع الشمس» للكاتب الألمانى توماس بروسيج الصادرة عن هذا المشروع، فابتسمت بأسى وأنا أقول لها إن الطبعة العربية الوحيدة من هذه الرواية بلغت بالكاد ألف نسخة، وربما لم يسمع بها أحد خارج القاهرة.
تمنيت ساعتها أن ينتقل إلينا هذا الاهتمام بالقراءة، ولا أقصد بذلك مؤسسات تنشر وتترجم فقط، فهى موجودة بشكل أو بآخر، فى كثير من الدول العربية، كما يوجد قراء أيضًا، لكن ما أعنيه  أن نرى طبعات شعبية مليونية تُطبَع وتنفد لإقبال القراء عليها، كى يكون اليوم العالمى للكتاب عيدًا حقيقيًا للقراءة والقراء.
م . ع

تخيّلت المشهد كالتالى: طالب ضئيل الجسد فى السابعة عشرة يقف فى فناء مدرسة بفورتِه الداخلية، يذرع الفناء ذهابًا وإيابًا ناقمًا على جمود النظام المدرسى، متأففًا من تفاهة أقرانه وأساتذته (الذين وصفهم لاحقًا برءوس الكرنب)، مُحدقًا إلى السماء بعينين شبه عمياوين، لكنهما لا تخلوان من نبوغ مبكر. يدخل إلى مكتبة المدرسة فيتعثر فى كتاب سلوك الحياة لرالف والدو إيمرسون فيشعر بضآلة من حوله ويفكّر فى تسلّق كتف المؤلف لينعمَ برؤية أرحب من موقعه الجديد. 

بين الرجلين أوجه شبه لم تشر إليها الكاتبة، أهمها الأسلوب المنفلت من النسَق. لم تتخذ فلسفة إيمرسون نسقًا فلسفيًا شاملًا، فقد مشَتْ على سطر وسطر أو على شبه خُطة
 

فوق أكتاف العمالقة:نيتشه وإيمرسون

بحسب كتاب نيتشه الأمريكى للباحثة الأمريكية جينيفر راتنر- روزنهاجِن (ت: حنين يعكوب) وجد نيتشه الشاب فى إيمرسون نوعًا جديدًا من المفكّرين الذين آمنوا بأن الفلسفة ونظرية المعرفة سيكونان ذا نفع إذا أجابا عن سؤال واحد جوهري: كيف سأعيش؟ وما المعرفة اللازمة لأعيش عيشة راضية؟ 
كنت قد قرأتُ المختارات من مقالات إيمرسون من عقد وأكثر، وصار رفيق دربى فى الآونة الأخيرة مع اثنين أو ثلاثة آخرين تجرى بيننا حوارات تُدار من جهة واحدة فقط. 


فى بداية حياته لم تتجاوز ملاحظات نيتشه عن الثقافة الأمريكية وصفها بأنها ثقافة رشيقة خفيفة الظل، مادحًا مغامرات توم سوير، ناعيًا ثقل ظل الثقافة الألمانية. نعرف بالطبع أن نيتشه لم يحتقر شيئًا مثلما احتقر الثقافة الألمانية ومفكريها، فدأبَ على قراءة إيمرسون سنويًا طَوال حياته، وكانت نسخته من مقالات إيمرسون رثّة مهترئة من تكرار قرائتها وكانت صفحاتها تغصّ بالسطور، وأظهرتْ لنا الأغلفة والهوامش والأوراق المزدحمة بالملاحظات كم كان نيتشه مفتونًا بأفكار إيمرسون، وغالبًا ما كان يصحب معه مجلدات إيمرسون حينما يسافر للإجازة، وفى سنة 1874 عندما كان فى رحلة العودة من قرية جبلية سويسرية سُرقت حقيبته التى تحوى نسخة من مقالات إيمرسون فاشترى نسخة جديدة على الفور وعاد من جديد ليدخل فى «حوارات» خيالية مع صديقه وأستاذه، واشترى دفتر ملاحظات أسود ليقتطف فيه من مقالات إيمرسون الأربعين، ونسخ بعضها حرفيًا بهدف التعلّم. أفعل هذا أحيانًا لنصوص كُتاب بعينهم بهدف التعلّم أيضًا. ينتقل نيتشه بين أفلاطون ولارشفوكو وشامفور وشوبنهاور ومونتينى فيَصلُ إلى نتيجة خلاصتها أن الشخص المستقل يجب أن يستمد إلهامه من الآخرين بين حين وآخر. كان إيمرسون مُلهم نيتشه إلى عالم الفلسفة وما يمكن أن تقدّمه إلى الحياة، مشيرًا إلى عبارة وردتْ فى مقالات إيمرسون لم أنسَها قط: «ليس هناك إبداع نقى وخالص، كل العقول تقتبس، لكن وحده المبتكر الحقيقى هو من يعرف كيف يستعير». 


الجُملة الآسرة بحق فى رأيى: (لقد اكتشفَ نيتشه عام 1862 فى إيمرسون صديقًا ومفكرًا ليفكر معه)، فأقول فى نفسي: «يا لحظّه السعيد ويال حظنا العاثر فى أيام تكاد تخلو من كاتب يتجرّد من ثياب الادعاء والثرثرة وسرقة أفكار غيره وشهوة الأضواء ليقول كلمة واحدة عليها القيمة ويمضى».


لم يكن نيتشه يسرف فى قراءة إيمرسون للاقتراب منه، بل للاقتراب من نفسه. يقول إيمرسون فى مقالة العالِم الأميركى ( هنداوى 2017):» ليس للكتب غرض غير الإيحاء»، فأعاد نيتشه صوغها  فى شذرة 248 من العلم المرح: «أية فائدة فى كتاب لا يستطيع أن يمضى بنا إلى ما وراء الكتب.» فى إحدى مقالات إيمرسون (ص 26) يؤكد أن الفكرة تتوقف على مدى ما تصل إليه عملية تحويل الحياة إلى صدق، والكاتب لا يستطيع أن يكتب كتابًا من الفكر الخالص، لا بد لكل عصر أن يكتب كتبه أو قلْ إن كل جيل يكتب للجيل التالي»، وهى الأفكار التى أعاد نيتشه صوغها فى ما وراء الخير والشر والعلم المرح وغيرهما. يؤكد إيمرسون أن الدنيا ستضربك بسياط الغمّ إن لم تـسِرْ فى الركب، ويحمل نيتشه بشدة على ثقافة القطيع وعلى الأفاقين الواقفين فى الطابور.


بين الرجلين أوجه شبه لم تشر إليها الكاتبة، أهمها الأسلوب المنفلت من النسَق. لم تتخذ فلسفة إيمرسون نسقًا فلسفيًا شاملًا، فقد مشَتْ على سطر وسطر أو على شبه خُطة، كان موقفه من الحياة يقوم على حُبه للطبيعة، فخرجت أفكاره فى هيئة المحاضرات التى ألقاها متجولًا فى أرجاء الولايات المتحدة، وتحولت لاحقًا لما يُعرف باسم مقالات إيمرسون، وخرجتْ فلسفة نيتشه على المثال نفسه، شذرات متفرقة ومقالات نثرية فلسفية، خرجَت أغلبها من ملاحظاته التى استوحاها من مشاوير المشى الطويلة وأسفاره بين إيطاليا وسويسرا وجنوب فرنسا، ومشاهدة الطبيعة وسلوك الحيوان وتأمّل التاريخ. ولكن كيف أقرّ نيتشه لإيمرسون بالفضل وهو القائل بإن الإفراط فى استعمال التاريخ ضار بالإنسان الحى وإن الذاكرة سبب الألم والنسيان سبيل السعادة؟ لأن نيتشه – وفق تحليلي- ابتلع إيمرسون وهضمه، بعد أن جعل التاريخَ = نصوصَ إيمرسون غذاءًا روحيًا يسكن بين الضلوع، وبعد أن استعمله لتطوير أفكاره، بدليل أن من سلقهم بلسانه الحاد كالمَــبـرَد (كانط، هيجل، شوبنهور) لم يسلموا، بينما سلِمَ إيمرسون (ومونتينى طبعًا) لأنه ابتلعهم وصاروا جزءًا منه. 

وبما أننى اخترتُ فكرة قلق التأثير كمنظور للاقتراب من أفكار الرجلين فسأقفز إلى نقطة مهمة متصلة بعلاقة نيتشه وإيمرسون بفلاسفة ما بعد الحداثة الذين تربوا أو درَّسوا على أرض أمريكية. ترى المؤلفة أن كبار مُفكرى أميركا ريتشارد رورتى، هارولد بلوم وستانلى كافيل، ومن ناحية أخرى الفرنسى جاك ديريدا استخدموا نيتشه، كلُّ على طريقته الخاصة لإنتاج أفكارهم الخاصة. وقوف جديد على أكتاف العمالقة.


مثلًا؛ دفعَ مشى ديريدا - الذى اكتسب صيته من محاضرته  فى أميركا - وراء نيتشه إلى إنهاء البحث عن الأصول، لأن الأصول ببساطة هى ما نخلقه بأنفسنا - من وجهة نظر ديريدا طبعاً- ثم ننسب إليه المعنى. ومن خلال استخلاص أفكار نيتشه حول الأسلوب والتعبير وتوسيع تداعيات «موت الله» إلى «موت المؤلف» وإظهار عدم الاستقرار المطلق فى أبسط أفعال القراءة. ولما انعدم وجود شيء بعد الموت أو فى السموات عند نيتشه، فلا شيء خارج النص بحسب ديريدا، أى أنه ليس هناك مفر من الحركة اللا متناهية فى صنع المعنى عندما يكون العالم عبارة عن نص مؤلفه ميت [أو عبارة عن كون خالقه ميت بحسب نيتشه]، تضيف المؤلفة برغم أن عددًا كبيرًا من المنُظرين الفرنسيين مارسوا تأثيرًا قويًا فى فكر ما بعد الحداثة فى تجلياته الأميركية، إلا أن أعمال فوكو وديريدا على وجه الخصوص كان لها نصيب الأسد، والسبب كان إعادة قراءة نصوص نيتشه وتأويلها.  


قدم المُنظّر الأدبى الأميركى الأشهر هارولد بلوم دليلًا عن نظريته حين قال: «لقد علمنا نيتشه أن كل روح يجب أن تكشف عن نفسها فى الكفاح، نقل نيتشه إليَّ الرؤية المؤلمة والرائعة للعود الأبدى، وأن الاحتضان أفضل من الاحتجاج على مسار حياة المرء، معAmor Fati  (حب القَدر). أنا سعيد لأننى لا أستطيع عيش أيامى التى مضتْ مرة أخرى، لأننى كنت سأكرر الأخطاء نفسها، الأعداء أنفسهم، الطرق الضالة نفسها، إن الخطأ فى الحياة ضرورى للحياة». لا ننسى أيضًا أن بلوم كان من مريدى إيمرسون حين قال: «مكافأة القراءة الوحيدة التى أعرفها هى أن أعيد إلى ما لا نهاية قراءة دفاتر ومقالات إيمرسون، النسخة الأمريكية من مونتينى».


استخدم بلوم الفيلسوفَ الألمانى ليُشكَّل ذاته الأدبية حين يقول: «تعلمتُ من نيتشه أن الصوت الوحيد الذى يمكنه التحدث مع أى سلطة هو الصوت الذى لا يستدعى أية سلطة إلا الذات، فأصول المرء مهمة لأنها الجحيم الذى يأتى منه كل المعنى البشري.» أكّد بلوم فى كتبه اللاحقة على علاقة إيمرسون/نيتشه بأنها علاقة الأب بالابن، والسابق باللاحق. أظن أن بلوم لمس نقطة مهمة متصلة بموضوع التأثير والتأثّر وهى أن المعنى يتولّد فى سلسلة النَقل الأدبى، صراع الكاتب مع أسلافه ليبحث عن صوته وأن يكون مختلفًا، وعلى عكس النظرة التقليدية التى ترى أن التأثير يعكس قوّة السابق (السلف) على اللاحق (الخلف)، إلا أنه يعكس - من وجهة نظر بلوم- تقيّد وخوف السابق من تفوّق سلفه الأسبق عليه. لأشرح بشكل أبسط: ربما يكون نيتشه قد حرّر إيمرسون من قيوده (الدينية) وترك نفسه يتأثّر بأعماله ليخلق ما هو أقوى من وجهة نظره. برغم كل شيء كان إيمرسون مؤمنًا بالقوة العليا الخالقة وهو ما أنكره نيتشه. 

لنقرأ عبارة لفيلسوف الأميركى المعاصر ستانلى كافيل من كتاب د. روزينهاجن:» كيف تبدو هيئة جُملة إيمرسون جميلة حينما يعيد نيتشه كتابتها». جُملة عجيبة. نيتشه (التلميذ) يكشف مواطن قوة أخرى فى إيمرسون (الأستاذ)، لكنك – برغم ذلك- لا تستطيع رؤية الأول بمعزلٍ عن الثانى لأنه يقف على كتفه.

وبما أن بلوم يذهب إلى أن المواهب الضعيفة هى المثالية وأن المواهب القوية يمكن أن تخطيء عمدًا فى تفسير الأسلاف، ولما كان إيكو قد أكّد على أهمية أن يتعلّم المرء قراءة الكتب على عكس مقاصدها المُعلنة، فلا ضير من شـدّ طرف الخيط ناحيتى بغرض تأويل الأسلاف بما يلائم رؤيتى فأقول إن فكرة المعنى (معنى النص الكونى = الحياة)، وعلى نقيض ما يقوله نيتشه يتحقّق فى العودة إلى الجذور، لا فى اجتثاثها. سأقلبُ تعبيركَ يا سيد نيتشه وأقول: أقيسُ نضارة الأغصان الظاهرة بعمق الجذور المدفونة. 


يُحسب لنيتشه أنه وضع الفلسفة تحت مداس الحياة وأنه أنكر على الفلاسفة المتشائمين فقرَ روحهم، إلا أن غلطته الجسيمة فى اعتقادى كانت فى نبرته القاطعة وفى مقولات يبدو أنها كُتبت للوصول قفزًا إلى نتيجة مسبقة فى ذهنه، وفى إنكاره لكل ما هو فطرى يضرب بجذوره فى أعماق الطبيعة البشرية كالنزوع إلى الروح والغيب والأخلاق (لا أقصد طبعًا أخلاقيات المجتمع والعادات البالية). أذكر أن يونج سخر مرة منه قائلًا لو أن نيتشه قد تزوج ورُزق بثلاثة أطفال قصموا ظهره لتأنسنَ وعَدَّل قليلًا من أفكاره (زارادشت - نيتشه أسفار الخير والشر، الحوار 2021).  


أيًا ما كان الأمر تظل عظمة نيتشه – عندى- فى أن فلسفته لم تكن إلا عملية إنقاذ للذات. تخيّلوا رجلًا يكتب آلاف الصفحات لينقذ نفسَه! لا أظن أنه كان من السذاجة ليعتقد فى تجسّدٍ حقيقى لزارادشت أو مجيء الإنسان الأعلى، كانت فلسفته تجربة فكرية وليست حقيقة يمكن إثباتها، شكل من أشكال التعالى الذاتى والاستشفاء. كل كتابة لا تنشد إنقاذ صاحبها لا يُعول عليها. كان نيتشه يتوارى خلف أقنعة، لذلك دمج فى فلسفته الشذرة والقصيدة والأمثولة. يلاحظ جيل دولوز أن شذرة المساجين مثلًا فى العلم المرح تتصادى بشكل غامض مع نصوص كافكا، وكأن كلًا منهما كان يسعى ليصنع عالمًا يخصه وحده يلوذ به.  


نعرف أن نيتشه كان فقيرًا منعزلًا معتل الصحة عاش طَوال حياته مؤمنًا بأن الوجود ينبغى تبريره، وأن الحياة يُمكن أن تُبرر أو تكون لها قيمة عبر الفن مثلما كتب فى مولد التراجيديا مثلًا، أو فى العلم المرح الفقرة 299: «كيف يتسنَّى لنا أن نجعل الأشياء جميلة وجذابة ومرغوبة حين لا تكون كذلك؟ يبدو لى أنها فى حدِّ ذاتها ليست كذلك على الإطلاق، وهذا كلُّ ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين.»ولِم لا، وهو القائل فى ما وراء الخير والشر شارحًا فلسفته: «السؤال هو بالأحرى إلى أى مدى يعزز الفكرُ الحياة ويحافظ عليها»، وفى هذا هو الإنسان: «غاية الحكمة أن يتقبل المرء نفسه كقدر، وألا يرغب فى أن يرى نفسه شيئًا آخر». 


فى الشذرة العبقرية الأخيرة من «الفجر»، وهى درة أعماله، يوجز الرجل كل شىء عن الحياة والفلسفة والأدب. سأقتبس من هذه الشذرة استعارة البحر وأقول إن نيتشه أيضًا بحر بلا ساحل. وقد رستْ مراكبى على مرفأ رينيه جينون وسلسلة التقليد حيث ينبغى لكل حكمة أصيلة أن تستند إلى مرجع، وعلى ميناء ألدوس هكسلى حيث الحكمة الخالدة المتوارثة عبر العصور وحيث أفكار يونج عن تجليات المقدس (النومينوس)، وهنا قيمة المفكر الحر الذى يأخذ من كل كاتب ما يريده ليشكّل لوحتَه ثم يطوى الباقى ويرفعه فى السحّارة. 


أومن أن وجود القصيدة سابق على وجود الشاعر، وأن دور الشاعر لا يزيد عن الاجتهاد فى رصف الكلمات للعثور على معنى القصيدة المخبوء، وجود المعنى سابق على وجود من خُلِق المعنى لأجله، برغم ذلك يبقى معنى القصيدة مُظلمًا من دون إضاءة الشاعر له. هى علاقة جدلية معقدة لكنها جديرة بالخوض، أما «الطرطشة الديريدية والفوكوية» فلم تـثـر يومًا أدنى اهتمام عندي. فى هكذا تكلم زارادشت عبارة غامضة ذكرَها نيتشه عن الوحى وأن الإلهام أشبه بشيء فوق بشرى (كذا؟) يـهـزّنا ويرجّـنـا من الأعماق، ربما تؤكد مقولته رؤيتى، تقول العبارة:» كما لو أن الأشياء هى التى تسعى إلينا مانحةً نفسها للتحول إلى رموز، تهرع الأشياء إليك تتملقكَ لأنها تسعى «للتسلق على كتفيك»، فتنفتح أمامك كل حروف الوجود وخزائن الكلمة، كل كيان يريد أن يصير حرفًا.» ألا يعنى هذا أن المعنى موجود وسابق على وجود الكلمات أصلًا؟ وأن المعنى يسعى للتشكّل فقط؟ 

علاقة نيتشه بإيمرسون تؤكد إن إعادة قراءة الأسلاف ومحاورة أعمالهم لا يضرّ موهبة الكاتب، بل يعززها. المهم أيّ أسلاف نقف على أكتافهم فيرفعوننا وأيّهم يقزِّمون إنتاجنا. لا تخلو الساحة من كُتاب - ونحن فى العقد الثالث من القرن الحادى والعشرين – ما يزالون أسرى عباءة ماركيز والواقعية السحرية على مستوى التكنيك والبناء، غاضّين الطرف عن السياق التاريخي/الثقافى لهذا اللون من الأدب، فتكون المحصلة كتابة منحوتة (أقصد النحت بالمعنى الشعبى الدارج) لا تكشف عن ذات المؤلف، والكاتب الذى لا يستطيع التعبير عن مشاعره فى عمل فنى ليتخفف منها، ويريد عوضًا من ذلك التعبير عن ذاته بالانتفاح والبهرجة، «يتورَّم» بحسب تعبير نيتشه، المسألة ليست مجرد تكنيك، بل رؤية. 


أفكر دائمًا فى سرّ إعادة قراءة كل من نيتشه وبرجسون وبروست وبلوم وشتانيبك وغيرهم لمقالات إيمرسون، ربما بسبب ما يداخِل الإنسان أحيانًا من فتور مشوب بنفور مما تقذفه المطابع يوميًا، اللهم إلا كُــتّابًا بعينهم يعود إليهم، ولا سيما مع ضمور المكون المعرفى لثمرات المطابع حاليًا وطغيان الأدب العُمولة المكتوب وفق كتالوج معروف. فى كل عمل فقرات بعينها أفتش عنها. بودّى لو دخلت المكتبة وسددت ثمن الكتب ثم انتزعت الصفحات التى أبحث عنها ودسستها فى جيبى ومضيت إلى حال سبيلى تاركًا إياها وموفرًا على نفسى مشقة تكديس المزيد والمزيد. صحيح أن فضول الإنسان لا يشبع ولكن هل تسد أسماء/عناوين بعينها الرمق؟ 
فى مقابلة مع الكاتب والمفكر الألمانى الكبير إرنست يونجر (1895-1998) سُئل عن اطلاعـه على الأدب المعاصر، فقال إن قراءاته توقفت عند سنة ١٨٨٩، مضيفاً بهدوء: سنة وفاة نيتشه، وأنه غير مُلم لضيق الوقت بكُتاب القرن العشرين. فى الحقيقة لم يكن الرجل مهتمًا من الأساس بأعمال معاصريه من الكُتاب كلهم على بعض، لكنه رجل ابن ناس ومجامل. كان يستثنى بورخيس ولويس ف. سيلين وإزرا باوند. كان يعرف بالطبع أن نيتشه مات سنة ١٩٠٠، لكنه تحاشى قاصداً الإشارة إلى الظرف الصحى المؤلم الذى شلَّ نيتشه عقليًا وجسديًا واعتبر أنه مات سنة ١٨٨٩. كلمة وردّ غطاها: نيتشه مات فى هذا التاريخ، وتكفينى قرائته. 


ترى مَن يرى رؤية أوضح؟ جوته فوق كتفى هيردِر، إيمرسون فوق كتفى جـوته، ونيتشه فوق كتفى إيمرسون (وأضيف دوستويفسكى)، وهايديجير/فوكو/ديريدا/دولوز فوق كتفى نيتشه. يبدو أننا أشبه بالجالسين فوق أكتاف العمالقة فـنرى رؤية أوضح لا لأننا أقوى بصرًا، بل لأن حجم العمالقة يرفعنا ويسمح لنا برؤية ما لا نقدر على رؤيته من دونهم.

اقرأ ايضا | «المعرفة والحقيقة عند نيتشه» يناقشها الرواق الفلسفى في مكتبة مصر الجديدة.. غدا