تعاليم الأديان تؤكد مفاهيم الاستدامة والحفاظ على البيئة

المؤسسات الدينية تتكاتف للتوعية بقضية المناخ والحفاظ على البيئة

التغيرات المناخية
التغيرات المناخية

ندى البدوى

مع تزايد المخاطر التى يواجهها العالم جراء تفاقم أزمة التغيرات المناخية التى تهدد كافة مناحى الحياة، تبرز أهمية الدور الذى يُمكن أن تلعبه دوائر التأثير فى المجتمعات وعلى رأسها المؤسسات الدينية، للتوعية بمفاهيم الاستدامة وترشيد استهلاك الموارد الطبيعية، انطلاقًا من تعاليم الأديان التى تدعو لتحقيق مقصد إعمار الأرض وصون مواردها. وهو الدور الذى تنبّهت له المؤسسات الدينية المصرية من أجل تبنى خطاب دينى يسعى للحث على إعادة صياغة علاقة صحية مع البيئة، وذلك فى ضوء الجهود التى تبذلها الدولة بالتعاون مع كافة الجهات للحد من آثار التغيرات المناخية، واستعدادًا لاستضافة مصر مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ Cop27 المُقرر إقامته خلال نوفمبر المُقبل بشرم الشيخ.

 

الخطاب الدينى الذى يدعو إلى الحفاظ على البيئة وتحقيق الاستدامة، من شأنه أن يُحدث أثرًا حقيقيًا فى الوعى الجمعى كما يؤكد الدكتور خالد عمران أمين الفتوى بدار الإفتاء، موضحًا: الدار تولى هذا الملف اهتمامًا كبيرًا، من خلال الفتاوى التى نحاول من خلالها مجابهة التصرفات والسلوكيات الخاطئة التى تنعكس سلبًا على البيئة وتؤدى إلى الإضرار بها، وذلك انطلاقًا من تعاليم ديننا الحنيف الذى يتعامل مع الكون وجميع الموجودات، باعتبارها كائنات حيّة تُسبّح لله لقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه)، ونحن مطالبون بالتعامل برُقى وإحسان إلى هذه الموجودات.

 

يتابع: تعامل الإنسان مع البيئة يجب أن ينبع من كونه مُستخلفا فى الأرض للحفاظ على نِعم الله فيها، فوجودنا على الأرض نعمة كبيرة قصدها الله ليُحقق خلافته، وشكر النعمة يستلزم الإحسان إليها، حيث نهى الله عن الإفساد فى الأرض بكافة الصور، فى مواضع عديدة بالقرآن الكريم من بينها قوله تعالى (وَلا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها). كما أن الشرع الحنيف يدعو إلى الاعتدال والوسطية فى كل شيء، والاقتصاد فى استهلاك الموارد الطبيعية وينهى عن الإسراف فيها، لقوله تعالى (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، ونرى ذلك فى التوجيه والهدى النبوى الشريف الذى يحث على الحفاظ على الموارد المائية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم الا تُسرف فى الماء ولو كنت على نهرٍ جارٍب.

 

ويوضح الدكتور نظير عيَّاد الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، أن مفهوم الاستدامة ليس من المفاهيم الحديثة لكن له جذور عميقة وتأصيل قوى فى الأديان، وإذا نظرنا إلى سيرة النبى عليه الصلاة والسلام، سنجدها مثالاً حيًا لنمط الحياة المُستدام، كما أن مفهوم إعمار الأرض الذى يتعيّن على الإنسان تحقيقه لقوله تعالى (هُو أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) لا يتم إلا بتحقيق الاستدامة. إلا أن البعد عن ذلك تسبب فى أزمات بيئية عارمة أصبحت تُهدد الوجود البشري، وهو ما حتّم ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدينية لزيادة الوعى بهذه القضايا، فالشريعة الإسلامية جاءت لحفظ مصالح العباد، والحفاظ على الإنسان وصونه يعد مقصدًا رئيسًا حدده الشرع ضمن المقاصد الكليّة الخمس، وهى الحفاظ على العقل والدين والنفس والنسل والمال.

 

ويؤكد على أن هناك قاسما مشتركا واتفاقا بين الشرائع والأديان السماوية، فى الأصول الأخلاقية والتعاليم التى تحث على القيم الإنسانية وكل ما يُحقق الصلاح للبشرية. يتابع: المؤسسات الدينية يقع عليها العبء الأكبر فى توجيه أنظار المجتمع لخطورة القضايا المصيرية التى تمس وجوده، نظرًا لأهمية وفاعلية دورها ونفاذها للمواطنين. ومؤسسة الأزهر الشريف تدرك أهمية قضية التغيرات المناخية التى تعد من أخطر الظواهر المُهددة للعالم، التى تستلزم تكاتف الجميع دولا وأفرادا وهيئات ومؤسسات، فنحن نتعامل مع هذه القضايا من منطلق دينى ووطنى وأخلاقى على أكثر من محور، من خلال العمل الدعوى والتوعوى ولجان الفتوى التى تعمل على تصحيح المفاهيم لدى المواطنين، للتأكيد على أهمية إعادة صياغة علاقة سوية وصحية مع البيئة.

 

يضيف: إيصال الخطاب الدينى البنّاء بشأن هذه القضية يتم من خلال منابر وطرق عدة، عن طريق الخُطب الموحدة بالمساجد التى تقوم عليها وزارة الأوقاف، كذلك الجولات الميدانية والقوافل الدعوية التى يقوم بها الواعظون، لدينا 4 آلاف واعظ وواعظة على مستوى محافظات الجمهورية، ينظمون لقاءات جماهيرية مع المواطنين من مختلف الفئات والمراحل العمرية، بمراكز الشباب والملتقيات العلمية والجمعيات الأهلية والمدارس والمعاهد والجامعات، هذه القوافل تصل إلى المناطق النائية والمحافظات الحدودية، وهناك تكامل بين جهود الأزهر الشريف ودار الإفتاء ووزارة الأوقاف فى تبنى وإيصال هذا الخطاب. بدأنا منذ فترة بتنظيم قوافل مشتركة تجمع بين وعاظ الأزهر وأئمة وخطباء الأوقاف، ونعمل فى أكاديمية الأزهر الشريف على تنظيم دورات للتميز الدعوى للوعاظ والواعظات والأئمة.

 

ويلفت الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية إلى أهمية وفاعلية تنويع طرق إيصال الخطاب الدينى للجماهير، من خلال الحملات الدعوية على المنصات الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعى، التى تحمل رسائل وفتاوى مبسطة تؤصل فى خطابها من تعاليم القرآن والسنة، متابعًا: لدينا 12 لجنة بمجمع البحوث الإسلامية نعمل من خلالها على إصدار فتاوى وبيانات وإصدارات علمية، ترتبط بقضايا وأحداث تتماس مع المجتمع والإنسانية. كما تعمل مؤسسة الأزهر الشريف على تفعيل دور المؤسسات البحثية والتعليمية لمجابهة تغير المناخ، حيث نظمت جامعة الأزهر مؤتمرًا دوليًا يتناول قضية التغيرات المناخية وتأثيراتها، كذلك أقامت كلية أصول الدين مؤتمرًا عن التنمية المستدامة فى الفكر الإسلامي، كما أدرجنا بمنهج الثقافة الإسلامية بالمعاهد الأزهرية مُقررات عن القضايا البيئية وكيفية تحقيق الاستدامة.

 

ويشدد القمص موسى إبراهيم، المتحدث الرسمى للكنيسة الأرثوذكسية، على أهمية الدور الذى يقع على عاتق المؤسسات الدينية فى تبنى قضايا البيئة وإحداث تغيير حقيقى فى وعى الشعوب، مؤكدًا أن الكنيسة القبطية تنبّهت لخطر التغير المناخى ومسئوليتها فى المساهمة الإيجابية لمجابهة هذا الخطر، وتحركت فعليًا على أكثر من محور، أولها يتمثل فى إدراج موضوعات الاستدامة والحفاظ على الموارد بعظات الأحد الأسبوعية فى الكنائس.

 

كذلك الجهود التوعوية والتنموية التى تقوم بها أسقفية الخدمات العامة والاجتماعية، ضمن أنشطتها وبرامجها التى تنفذها بمحافظات الجمهورية، وخاصة فى المجتمعات الريفية الأكثر تأثرًا بتغير المناخ التى زاد من حدتها جور الإنسان على الطبيعة ، للمساعدة فى تغيير السلوك نحو البيئة إعمالاً لتعاليم السيد المسيح التى تدعو إلى التكاتف المجتمعى والاعتدال والاتزان فى التعامل مع الطبيعة. كما أعلن قداسة البابا تواضروس الثانى عن مسابقة كبيرة لتشجير الكنائس، تشارك بها الإيبارشيات والكنائس والأديرة بزرع أشجار الزيتون والرمان والتوت، ورُصدت جوائز تصل إلى 750 ألف جنيه للأبرشيات الفائزة، حيث ستنتهى المسابقة شهر أكتوبر المقبل، لتُقدم الكنيسة هذا الملف باسم مصر فى قمة المناخ القادمة.

 

ويوضح أن حفظ الأمانة يعد من أهم مبادئ الفكر المسيحى والقيم التى أوصانا بها السيد المسيح، لأن التفريط بها يؤدى إلى إفساد الأرض. حيث أمر الله آدم حينما خلقه بإعمار الأرض، وأعطى الأمر بعد ذلك إلى نوح وبنيه، كما ورد فى سِفر التكوين (أَثْمِرُوا وَأكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ)، ونجد أن مسئولية الإنسان فى حفظ أمانة الحياة وإعمار الأرض هى مسئولية أولى وأصيلة وفق التعاليم المسيحية، تنبع منها كافة أشكال المسئولية المجتمعية، فالله أعطاه العقل وميزه به دونًا عن المخلوقات ليحسن إلى الخلق والكائنات التى تُحيط به، ونجد أن السيد المسيح رسّخ فى حياته لسلوكيات الاقتصاد والاستدامة، ومن الأمثلة على ذلك قصة معجزة إشباع الجموع التى وردت فى إنجيل متّى، بعدما بارك على خمس خبزات وسمكتين ليكفى الطعام خمسة آلاف شخص ويفيض عنهم، فرغم أن الطعام جاء من البركة إلا أن السيد المسيح طلب من تلاميذه جمع البواقى بعدما انتهو من الطعام، فى رسالة واضحة على الدعوة إلى الاقتصاد وحرصه على ما يحمله الناس.