أوقاف النساء في مصر«4»..«الأسبلة».. شاهدة على الأعمال الخيرية للمرأة المصرية

الأسبلة
الأسبلة

بقلم:  ثناء رستم

لم يتوقف دور المرأة فى التاريخ الإسلامى على إسهاماتها فى الحضارة الإسلامية، ولا على دورها الاجتماعى والسياسى والاقتصادى، بل كان لها دورها ومشاركتها فى أعمال البر والخير، واهتمت المرأة المصرية بعمائر المياه، أى الأسبلة التى كانت تقدم المياه لعابرى السبيل لإرواء ظمئهم، ولم يقتصر دور السبيل على سقى الإنسان، بل ألحق به أحواضًا لسقى الدواب، وليكتمل العمل الخيرى يتم تخصيص الدور العلوى لتعليم الأطفال واليتامى والفقراء القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وهو دور اجتماعى هام أسهم فى تقديم الرعاية الاجتماعية لسكان المنطقة التى يقع فيها السبيل.

 

والسبيل كما جاء فى السان العربب لابن منظور، هو الطريق وما وضح منه، وسبل الشىء أى جعله فى سبيل الله، وهى المواضع الموقوفة والمعدّة لأن يوضع فيها الماء المسبل أى المجعول فى سبيل الله. كما وردت عدة تعريفات للسبيل منها أنه مشرب يقام فى الأماكن العامة والأحياء، وأركان المساجد والمدارس والخاناقاوات والمقابر والأضرحة، وما زالت الأسبلة تقام حتى الآن ولكنها تتخذ شكلا بسيطا بعيدا عن العمائر الفاخرة التى كانت تقام من أجل الأسبلة.

 

وكلمة سبيل وردت فى القرآن الكريم فى مواضع كثيرة، مائة وست عشرة مرة، أما لفظ الماء فقد ورد فى القرآن فى ثلاثة وستين موضعا، ونجد أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أولى اهتماما كبيرا بالماء حينما حرّم على المسلمين أن يمنعوه عن بعضهم، فقد جاء فى الحديث الشريف عن أبى هريرة (رضى الله عنه) أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: اثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، رجل حلف على سلعة لقد أعطى فيها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء، فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم تعمل يداك.

 

وتتكون عمارة السبيل من عناصر أساسية عبارة عن طابقين والثالث يخصص للتعليم وتحفيظ القرآن للاستفادة من المساحة المعمارية، ولا تختلف باختلاف الطراز أو النوع التابع له السبيل، فالطابق الأول عبارة عن حجرة تحت مستوى الأرض، بها صهاريج المياه، وللصهريج عادة ثلاث فتحات، الأولى لتزويده بالمياه، والثانية لرفع الماء منه لأحواض التسبيل ليشرب منه المارة، والثالثة فتحة خاصة بالنزول إليه لتنظيف الصهريج وتبخيره، ويذكر على باشا مبارك فى االخطط التوفيقيةب أن الصهريج هو المصنع المبنى تحت الأرض لخزن الماء فيه، فكلما فرغ ماء السبيل يملأ منه حتى ينفد ماؤه على ميعاد ملئه.

أما الطابق الثانى فهو فوق سطح الأرض، ويُعرف بـبحجرة التسبيلب، وهى التى يتم من خلالها  خدمة الجمهور، وذلك بتقديم الماء لهم من خلال شبابيك التسبيل، وأحواض الشرب والمصطبة التى تتقدم الشبابيك، والمخصصة لصعود المارة والوقوف عليها لتناول كيزان الشرب، وغالبا ما كان   لهذه الحجرة مدخل خاص بالإضافة إلى مدخل السبيل.. وتختلف الزخارف التى تزين كل سبيل عن الآخر، وتعبِّر الواجهات عن ثروة الواقفة ومدى اهتمامها بالتفاصيل.

سبيل رقية دودو

مازال سبيل رقية أم دودو يقف فى مكانه بشارع سوق السلاح بجوار مدرسة الرفاعى، شاهدا على قصة صاحبته، وإن كان حاله تغير كثيرا عن وقت إنشائه، إذ فقد بعض أجزائه وضاع بهاؤه القديم وبقيت قصة صاحبة الوقف أو السبيل.. أنشأت السبيل بدوية خاتون بنت شاهين ابنة المرحوم شاهين كتخدا عزبان وزوجة الأمير رضوان بك الذى سيطر على الحياة السياسية فى مصر فترة طويلة بلغت خمسة وعشرين عاما، تمتعت فيها بدوية خاتون بالثراء الفاحش، حتى لقى مصرعه متأثرا بجراح أصابته نتيجة صراع ثار بينه وبين بعض الأمراء الآخرين، ولم تكن ثروة زوجته من ميراثها منه فقط، فقد كانت تمتلك وكالة كبيرة فى خان الخليلى خصصت جزءا كبيرا من دخلها  لأعمال الخير فى حياتها وما اهتمت به لتوقفه على أعمال الخير من ثروتها، وكانت ترعى الأطفال اليتامى وتهتم بتعليمهم.

 

وتكشف الكلمات التى كُتبت على مدخل السبيل عمن هى دودو: ابسم الله الرحمن الرحيم، أسأل الله الكريم أن ينصر السلطان ويرحم من كان على اسمها هذا الكتاب والسبيلب، وتعنى بذلك ابنتها التى توفيت وهى شابة صغيرة عرف عنها الجمال والرقة، ولذا لقبت بـادودوب وهى كلمة تركية تعنى الببغاء، وتوفيت الفتاة فى عام 1171 هجرية بعد أن أصابها الطاعون، فبنت لها أمها السبيل وأوقفت عليه ما يصونه ويحفظه وينفق على احتياجاته من عمالة واحتياجات مثل الأكواب التى تقدم فيها المياه ومرتبات للمدرسين الذين يقومون بتعليم الأطفال فى الكُتّاب أعلى السبيل.

 

سبيل أم حسين

عند تقاطع شارعى الأزهر وبورسعيد، يقف سبيل أم حسين الذى أنشئ عام 1270 هجرية، وأقامته كسبيل لوجه الله وأوقفته كوقف خيرى يخدم المحتاجين ويسقى عابرى السبيل، واسمها اممتاز قادين هانمب الشهيرة بـاأم حسينب وزوجة محمد على باشا، وكانت صاحبة ثروة ضخمة بلغت أكثر من 35 ألف فدان فى نواحى دارين والمنشأة الكبرى بمحافظة الغربية، وقد خصصت جميع الأموال لها ولابنها ومن بعد وفاته ذهب أكثرها لأعمال الخير.

 

وقد حملت حجة وقفها رقم 870 لعام 1272، ويذكر على باشا مبارك فى خططه أن السبيل يقع فى شارع جامع البنات بين قنطرة الموسكى وقنطرة الأمير حسين، وعُرف عن صاحبته حبها لعمل الخير حتى حملت لقب اخيرة الخيّراتب وهذا اللقب إشارة إلى كثرة فعلها للخير ومداومتها عليه، وهى أم حسين بك نجل محمد على باشا، وهو الابن الثانى لمحمد على بعد سعيد وتوفى فى سن صغيرة.

 

واشتهرت اممتاز قادينب باهتمامها الشديد بالعمارة وترميم المساجد، ومنها جامع الفخرى، كما أنشأت له منارة وأثبتت ذلك فى لوحة تأسيسية فوق الباب العمومى للمسجد، كتب فيها: اقد كان تجديد عمارته وإنشاء منارته على يد المصونة والدرة المكنونة والدة حسين بك نجل عزيز مصر القاهرة الحاج محمد على باشا ذى المآثر الباهرة طاب ثراهما وجعل فى الجنات قرارهما طلبا لإيصال الثواب إليهما ورغبة فى إنزال الرحمة عليهما.

 

وتعلق لمياء فتحى التى درست أسبلة النساء وقدمتها فى رسالة للماجستير، بقولها: إن هذا السبيل يعد من الأسبلة المفردة، أى لم يلحق بمبنى آخر، ولم يلحق به كتاب لتعليم الأطفال واليتامى كما فى غيره من الأسبلة، ويتمتع بطراز عثمانى كما كان شائعا فى عصر محمد على، وله مدخل وحيد ورئيسى على تقاطع شارعى بورسعيد والأزهر وتتصدر السبيل لوحة تأسيسة نُفِذت بالخط الثُلُث باللون الذهبى على أرضية زرقاء كتب فيها أبيات من الشعر تمدح صاحبة السبيل: الأم حسين شهرة بمحاسن/ من الخيرات ذكراها تدوم مدا الدهر/ لقد أنفقت مما أحبت وأخلصت/ فيارب نولها الكثير من البر/ على باب خير جاء تاريخه/ ببابها حسنات أجرها سرمدا يجرىب.

 

كما كان للسيدة ممتاز قادين سبيل آخر أوقفته بجوار مدفنها بقرافة المجاورين بالقرافة الكبرى وألحقته بمسجد وضريح سيدى عبدالوهاب العفيفى، وهناك نصٌ يشير إليها: اآثار أم حسين/ لله نعم المآثر/ فانظر إليها وآرخ خير البناب.

 

سبيل أم عباس

أما سبيل أم عباس فصاحبته هى ابنبه قادن بنت عبدالله البيضاب، ويعنى اسمها االمرأة الورديةب وهى زوجة الأمير طوسون، ابن محمد على باشا، وأم عباس باشا الأول الذى تولى الحكم بعد وفاة عمه إبراهيم باشا، وذلك لتنفيذ نظام التوارث القديم الذى يجعل ولاية الحكم للأرشد فالأرشد من نسل محمد على، وقد صفها كاتب حجتها بأنها ارابعة العدوية الثانية فى أداء العبادات، الفائزة بقصبات السبق فى مضمار العفة والإحصانب، وكانت سيدة شديدة الثراء ومحبة لعمل الخير كما يصفها الدكتور حسام الدين إسماعيل أستاذ الآثار الإسلامية.

 

وسبيل أم عباس الشهير الذى يقع عند امتداد شارع الصليبة وشيخو وتقاطعه مع شارع السيوفية، هو أحد أعمالها الخيّرة الكثيرة التى اشتهرت بها، ويعد تحفة فنية بتصميمه وما زُين به من الرخام والزخارف، حتى أن الخطاط العثمانى الشهير ازهدىب كتب فى الشريط العلوى للسبيل سورة الفتح كاملة ومهرها بتوقيعه، وقد خُصِص السبيل لتوزيع مياه الشرب النقية على عابرى السبيل وسكان المنطقة ممن لا يمتلكون أجر السقائين، وألحق به كتاب لتعليم الفقراء والأيتام وتكفلت بما يلزم من نفقات التعليم والمدرسين، ولكن حجة الوقف الخاصة بها تحوى الكثير من أعمال الخير، وقد سجلتها بتاريخ 28 شعبان 1277 هجرية، ولأنها كانت ذات مكانة كبيرة فى الأسرة العلوية فقد شهد على وثيقة وقفها 38 شاهدا من كبار رجال العلماء ورجال الدولة ونقيب الأشراف بمصر وكبار الأغوات المعتوقين الذين كانوا فى خدمة محمد على، وهو أمر كان يحدث مع كبار الشخصيات.

 

وبعد أن أنشأت وقفها الذى تضمن أنها المتحكمة الوحيدة فى أملاكها أثناء حياتها توفيت بعده بسبع سنين، وبدأ تنفيذ شروط الوقف مباشرة إلى جهات البر والخير التى حددتها بدقة على هيئة مرتبات نقدية لمن حددتهم فى وقفها تدفع لهم شهريا، أو فى صورة مواد غذائية حددت منها الشُريك وهو نوع من المخبوزات مازال يوزع حتى الآن كرحمة ونور على أرواح المتوفين فى المقابر، كما حددت أيضا الكعك، والخبز، وما يلزم لصناعتهما من سمن ودقيق وسكر، واللحوم من الضأن ولحوم العجل والجاموس، لتفرق على المساكين والفقراء فى المواسم التى حددتها الواقفة فى ثلاثة مواسم هى أول جمعة من شهر رجب، واليومان الأول والثانى من عيد الفطر، ويوم وقفة عرفات ويوم عيد الأضحى.

 

كما حددت ما يُصرف على المدفن الخاص بها وبأسرتها بالقرافة الكبرى من أجل مجالس الذكر وقراءة القرآن، من بن وسكر ومياه وما يلزم لجلب المياه من الآبار، وفحم للتدفئة وأدوات للتنظيف وشمع لإضاءة المساجد والتكايا، وورود وريحان توضع على مقابرها هى وأسرتها، وكان فى وقفها ما يُصرف على 19 مسجدا من مساجد آل البيت بالقاهرة وبعض المساجد فى المحافظات، وكان للتكايا نصيب كبير فى وقفها فضمنتها تكية عباس باشا، وتكية درب قرمز، وتكية السيدة رقية بالخليفة، إضافة إلى ما أوقفته للحرمين الشريفين، ولطلبة العلم بالجامع الأزهر.

 

والطريف فى وقف أم عباس، أنها جعلت مسئولية الإشراف على الوقف ومراقبة تنفيذه فى يد النساء، فجعلت فخر المخدرات خديجة الشريفة، مرضعة الحاج عباس باشا الأول هى المعيّنة للصرف على عمل الشُريك والكعك والخبز فى المواسم، ثم من بعدها الست مهوبش معتوقة الحاج عباس وهى والدة إلهامى باشا، ومن بعدها انتقلت المسئولية للست هواى المعروفة بوالدة صديق بك، ثم من بعدها يكون الصرف بيد عدد من معتوقاتها ومعتوقات عباس الأول، ثم للأرشد فالأرشد، ولم تنس أم عباس فى وقفها أن تتحسب لعملية غلاء الأسعار فاشترطت وحددت أن يُصرف حسب أسعار الزمان.