«أربع قصص قصيرة جداً» بقلم زياد خدّاش

للفنان: عبدالهادى شلّا
للفنان: عبدالهادى شلّا

حديقة مضاءة بشكل جيد
كنتُ أخرجُ من سوبرماركت الرافدين برام الله، اشتريتُ قهوة ومحارم مبلولة وعلبتيّ تونة ، كانت دورية احتلال تقفُ أمام دوّار الرافدين، كنتُ وحيداً فى المكان ، وكان الليل يقتربُ من منتصفه، أطلقت الدورية زامورها الوقح، فتجاهلته ، وواصلتُ طريقى للبيت، فتح جندى نافذة الدورية ونادى: تعال هون يا قرد، تجاهلته فصرخ:( تعال هون ولا بطخك) ، ذهبتُ إليه ،وذهنى مشغولٌ بفكرة غير مكتملة وعالقة فى ذهن روايتى التى أكتبها الآن،: هل عليّ أن أجعلَ والد شخصيتى الرئيسية يعرف أن ابنه لوطي؟.


فى طريقى إليه لمحتُ شرطياً فلسطينياً مختبئاً فى حديقة مبنى مهم، كانت الحديقةُ مضاءةً، وكان سهلاً رؤية الشرطى مع بندقيته ، وهو يتحركُ بشكل غامض، فقلتُ فى نفسي: سأضيف هذا المشهد إلى الرواية، حديقة مضاءة وشرطى قلق ومسلح و مذعور يتحرك فيها، ولا يُسمح له بمغادرتها.


كانت صفعة الجندى بانتظاري، صفعة قوية مائية ومائلة، لكنّى لم أحسّ بها لم تؤلمني، ربما لأنّى كنتُ محصّناً بحسِّ سخرية كبير، واستهتار عنيف بهذه الكائنات المعاقة التى اسمها جنود احتلال ، وربما لأنّى كنتُ مشغولاً بالأحداث الناقصة لروايتى التى جنّنت أيامي: ( لما احكيلك تعال بتيجى بسرعة).


كانتُ آخر صفعة صُفعتها فى حياتى من يد أبى قبل أربعين عاماً تقريبا، رفضتُ طلبه لإحضار كرتونة بيض من البقالة، أتذكرها تماما، هوت يدُ أبى فى الصالون امام الضيوف على وجهي، هربتُ من أمامه، أغلقتُ البابُ خلفى ،وأسلمتُ روحى لدوّامة بكاء كبيرة.


- روح على البيت يا قرد.
ابتعدتُ عن الجندي، ومشيت إلى البيت، لكنّ شيئا ما فى داخلي، قال لى حين حاذيت الحديقة المضاءة فى المبنى المهم،: انظر إلى الشرطي، فنظرت، رأيت وجهه وهو يحدق بي، ذعرتُ، وجمدتُ فى مكانى .


- أستاذ، أنا آسف، ما اقدرت أعمل شي، سامحني.

كان زهير أجمل ، وألطف، وأذكى طلابى فى نادى محمود درويش الإبداعى فى المدرسة التى ما زلتُ حتى الآن أعلّم فيها الكتابة.
كبر الولد الأشقر القصير الذى أرهق نفسه ومكتبة المدرسة، وهو يبحث فيها عن كتب لعزيز ناسين، وسميرة عزام، وغسان كنفانى ، وراشد حسين، ومحمود درويش، صار الآن شرطيّاً يتحركُ بشكل غامض فى حديقة مضاءة بشكل جيد، وتابعة لمبنى مهم. 
لم أقدر على الحديث مع زهير، رأيت يدى تتحسّسُ خدى بشكل مفاجئ .
 الآن فقط الآن ، أحسستُ بألم صفعة الجندى المحتّل.


حبيبى عبد الرحمن
منذ بداية العام الدراسى وأنا مضرب عن الضحك، أشعر بوجع فى وجهى حين أضحك!!.
ذهبت إلى طبيب الأعصاب، فلم يجد سبباً جسدياً لحالتي، لكنّه حين عرفَ قصة عبد الرحمن هزّ رأسه، وقال: الآن فهمت، أنت تعانى من مرض اسمه مرض (التماهى العضوى مع أوجاع الآخرين).


جاء التلميذ عبد الرحمن من غزة إلى مدرستي، قال لى جملةً واحدةً بعدها صرت شخصاً غير قادر على الضحك: «أستاز، أنا لما بضحك بوجعنى وجهي».

هو طفل فى الصف الرابع، لمحته بالصدفة أثناء تجوالى الضجر فى الساحة، كان يجلس وحيداً فى الزاوية، بوجهه نصف المحترق وعينيه غير المصدقتين أى شيء يحدث حوله: «أستاز، لما قصفت الطيارات حارتنا كنت وقتها بلعب مع محمد صاحبي، محمد مات وأنا انحرق وجهي». شرح لى عبد الرحمن قصة الحرب أكثر من مئة مرة، بعشوائية طفولية منهكة، خرجت من قصته بثلاث حقائق مكررة بإلحاح، هي: الحريق الذى أكل نصف وجهه، وصديقه محمد الذى قضى تحت القصف. «أستاز، ساعدنى أكتب قصة الحرب، بقولوا عنك بتكتب قصص، أنا شاطر فى الكتابة، جربنى بس، شو رأيك أستاز انسمى الكتاب أنا ومحمد والحرب؟».


عبد الرحمن رسام أيضاً، رسم كثيراً من اللوحات فى غزة وألصقها على حيطان الحارة، طلبت منه أن يرسم، فتدفق هدير الدبابات وصياح الأطفال المتألم من لوحاته، جاء المدير وبعض المعلمين متلهفين، دهشوا من الموهبة، عانقوه.


«كل شهر بدقونى فى هداسا إبرة طولها شبر يا أستاز، عشان الحرق يخف، وبعد شهرين راح أعمل عملية تجميل، راح يرجع وجهى زى قبل يا أستاز، راح أرجع أضحك وأسمعك ضحكتي، غزة والضفة راح يسمعوا ضحكتي. أستاز فى على راس منخارك إشى أحمر، شو هادا، حرق؟».


فى المكتبة كان عبد الرحمن يرقص على إيقاع موسيقى، يد تعزف على غيتار غير مرئي، ويد أخرى تتحسس وجهه بفزع، عيناه ما زالتا غير مصدقتين أى شيء يحصل فى العالم، يقول للطلاب فجأة سارقاً منى صلاحية سؤالى وإدارتى للحصة: «احزروا شو قصة رقصتي؟». يقول الطلاب قصصاً كثيرة، وأقول أنا، أيضاً، قصة ما، لكن عبد الرحمن يخيّب ظننا بغضب ويصيح: «ولكم هاى قصة الغيتار اللى كنا نعزف عليه أنا ومحمد، ما حدا فيكم بعرف قصتى وقصة محمد، كنا نعزف على الغيتار إللى أهدانا إياه راجل أجنبى أشقر كثير، كمان هاى قصة وجهى إللى انحرق بنار الطيارة. إنتوا شو بعرفكم ؟»


لم يعد طلابى يضحكون فى الصف، قلت لهم: «الضحك يؤلم وجه عبد الرحمن، تضامناً مع ألم عبد الرحمن، سنوقف الضحك مؤقتاً حتى تلتئم بشكل جيد جروح وجهه». وافق طلابى بتأثر، قطبوا جباههم، توقفوا عن قول النكات، وكان إذا نسى أحدهم وقال نكتة هجم الطلاب على فمه وأغلقوه، أما أنا فقد ألغيت القيام بحركات مضحكة وقراءة القصص المضحكة عن شخصيات مخترعة كخميس الضخم عاشق الملفوف، الذى بال على نفسه لأنه خاف من الفأر.


(أستاز ممكن تلفونك؟ بدى أحكى مع خالتى أم محمد، بتحب تسمع صوتي، هى بتحكى لأمى فى غزة دائماً، خلى عبد الرحمن يكلمني، أستاز ما تزعل منى لأنى ما بضحك لما إنت بضحكنا، أنا ما بقصد، أنا بحب الضحك كثير، بس عشان حُرق وجهى لما أضحك بصير وجهى يوجع كثير، بصير يشعط شعط أستاز. يا أستاز هات بلفونك، إنت إمبين بخيل؟ أستاز ما جاوبتنى شو هذا الإشى الأحمر اللى على راس منخارك شكله حرق قديم؟

شتاء

فى حصتى الأولى بعد قليل سنستضيفُ أنا وطلابى الشتاء، سنجلسه فى المقعد الأول، سنضع قربه مدفأة حتى لا يبرد، فمدارس الحكومة بلا مدافئ، سنعلق احتفالاً به البلالين الملوّنة فى السقف، ونشعل الأغانى والشموع والابتسامات، سنشتمُ أمامه الصيف، فصل البلادة والحرائق والدود، سنغنى له (شتّى يا دنيا شتي) وربما نرقص ؛ لنسليه، وقبل أن يرن جرس الحصة، سنتجمع حوله، ونطلب منه خدمة بسيطة وصغيرة، سيقول الشتاءُ: بالتأكيد مرونى فقد أبهجتم قلبى هذا الصباح:

مزيداً من الضباب قى سماء غزة يا شتاء، مزيداً من الضباب.
مزيداً من ارتباك الطيار، مزيداً من عماه وعودته إلى قاعدته بيأس.


شجر

(أنتما لستما أنتما، لستما تلميذتين، أنتما طائران متنكّران بزى تلميذتين فى الصف الرابع، هيا اعترفا، أين تخفيان أجنحتكما، فى حقيبة المدرسة أليس كذلك؟).


وتضحك التلميذتان المارتّان قربى واللتان لا أعرف اسميهما، متفاجئتين من غرابة القول وسحريّته، تضحكان بغزارة أمام وجهى مباشرة، وترفرفان بأياديهما الصغيرة، وتمضيان إلى المدرسة، وهما ترفرفان، وأمضى أنا إلى مدرستى إلهاً للرفرفة والضحك.

بعد سنين من الرفرفة والضحك، كبر الطائران المتنكّران، صار الجناح طويلاً، والمدى أمامهما أوسع، ومؤثث بالمخاوف، لكن كلماتى ظلّت طفلة.
لم يعد الطائران يضحكان، تحولت الضحكاتُ إلى همهمات ابتسام مرتعبة وباردة، وصار الطريق إلى المدرسة، طريقا إلى وصايا الأم والمعلمة، لم تعد أياديهما ترفرف، صارت الأيادى مساطر من خشب.

لكن كلماتى الغريبة ظلت طفلةً شريدةً فى الطرقات تتجول جائعةً ومنهكةً، تبحث عن ضحكات الأطفال، ورفرفات أياديهم؛ ليصير لديها عائلة جديدة.
غداً سأمرّ على شجرتين فى حقل الزيتون القريب من مدرستى سأقول لهما:
أنتما لستما أنتما، أنتما ضحكتان مبلولتان لامرأتين خائفتين متنكّرتين فى زى شجرتين فى حقل.
أرغب فى عائلة من شجر أيضا.

ولد زياد خدّاش فى القدس عام 1964، ويسكن مخيم الجلزون، فيما تعود أصوله إلى بيت نبالا، القرية المهجّرة الواقعة فى قضاء يافا. يكتب القصة القصيرة، ويعمل معلمًا للكتابة الإبداعية فى المدارس الحكوميّة. فى رصيده الإبداعى اثنتا عشرة مجموعة قصصيّة، وهو حاصل على جائزة الدولة التقديريّة عن كتابه «خطأ النادل» الصادر عام 2005.