خواطر الإمام الشعراوي| اتباع المنهج

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الإمام الشعراوى خواطره حول الآية (189) من سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

يقول: قد كان من الضرورى أن يتأخر أمر القتال؛ لأن الحق أراد أولاً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة، ويروا فيهم أسوة حسنة، لذلك قال الحق: «فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ» «البقرة: 109».وقال سبحانه أيضاً: «وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ» «الأحزاب: 48».

لماذا كل هذا التدرج؟ لأن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للإسلام ستدخل البيوت العربية، فسيضم البيت الواحد كافراً بالله ومؤمناً بالله، ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار فى كل بيت معركة.. ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا يقتتلون لأتفه الأسباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم فى ضرعها فماتت اشتعلت الحرب أربعين سنة.

إقرأ أيضاً | خواطر الإمام الشعراوي.. علة القتال في الإسلام

وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف من المسلمين مستضعفين، وقد عزلهم بعض من القوم فى شعب أبى طالب وجوعوهم وقاطعوهم حتى اجتمع الخمسة العظام فى مكة وقالوا: (كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتى نساءنا وبنو هاشم وبنو المطلب محصورون فى الشعب لا يأكلون ولا يشربون ولا يتبايعون).

لقد كانوا كفاراً، وبرغم ذلك وقفوا موقفاً عظيماً وقالوا: هاتوا الصحيفة التى تعاهدنا فيها على أن نقاطع بنى هاشم وبنى المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك. وكانوا خمسة من سادات مكة هم: هشام بن عمرو، وزهير بن أبى أمية، وأبو البحترى بن هاشم، وزمعة ابن الأسود، والمطعم بن عدي. وكانوا قادة النخوة التى أنهت مقاطعة المسلمين. هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة فى الحق.

ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمراً سهلاً، لذلك أخذهم برفق الهَوَادة. والذين يقولون: لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد الكفر فى مكة؟

نقول لهم: إن كثيراً من الذين كنتم ترون قتالهم فى بداية الدعوة الإسلامية هم الذين نشروا راية الإسلام من بعد ذلك، ومثال ذلك خالد بن الوليد، الذى كان قائداً مغواراً فى صفوف المشركين، وقاتل المسلمين فى أول حياته، ثم هداه الله للإسلام وأصبح سيف الله المسلول، ماذا لو قتل هذا القائد الفذ على أيدى المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب فى حرمان المسلمين من موهبته، تلك الموهبة التى أسهمت فى معظم الفتوحات الإسلامية فى الشام والعراق.

إذن شاءت حكمة الله أن يستبقى أمثال خالد وهم خصوم للإسلام فى بدء الدعوة لأن الله قد أعد لهم دوراً يخدمون به الإسلام. والذين نالوا من الإسلام أولا هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى يعملوا عملاً يغفر الله لهم به ما قد سبق.

انظر إلى عكرمة بن أبى جهل كان شوكة فى ظهر المسلمين فى بداية الدعوة، ثم أسلم وأبلى بلاء حسناً، ولما أصيب فى موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد بن الوليد وقال: أهذه ميتة تُرضى عنى رسول الله؟. كأنه كان يعلم أن رسول الله كان قد غضب عليه قبل أن يسلم.

وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذى لولاه ما فُتحت مصر. فقد كسب بدهائه أهل مصر فامتنعوا عن قتاله، وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين، وأبان لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال موصيا لهم (استوصوا بالقبطيين خيراً لأن لهم رحما وذمة) وفوق هذا فقد أرسله النبى صلى الله عليه وسلم إلى بعض العرب يستقربهم إلى الإسلام.

إذن فمن رحمة الله أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية، وإلا لكنا فقدنا كثيراً من قادة الإسلام العظام الذين حملوا لواء الدعوة الإسلامية فيما بعد، وكل إنسان استقاه الإسلام وهو خصم وعدو للإسلام، قدر الله له بعد الإسلام دورا يخدم به الدين الخاتم.

ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال فى الإسلام، لأن الله أراد أن يمحص ويختبر، وألا يدخل هذا الدين إلا من يتحمل متاعب هذا الدين، ومشاقه لأنه سيكون مأموناً على مجد أمة، وعلى منهج سماء، وتلك أمور لا يصلح لها أى واحد من الناس.