خواطر الإمام الشعراوي | أسرار الأهلة

الشيخ الشعراوي
الشيخ الشعراوي

يواصل الإمام الشعراوى خواطره حول  الآية (189) من سورة البقرة: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

يقول: إذن فهناك بروج للشمس، ومنازل للقمر، ومواقع للنجوم، ومواقع النجوم التى يقسم بها الله سبحانه فى قوله: «فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» «الواقعة: 75-76».


ولعل وقتا يأتى يكشف الله فيه للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه.


إذن كل شيء فى الكون له نظام: للشمس بروج، وللقمر منازل، وللنجوم مواقع. وكل أسرار الكون ونواميسه ونظامه فى هذه المخلوقات، وقد أعطانا الله من أسرار الأهلة أنها مواقيت للناس والحج.

وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكماً متعلقاً به، فقد كانت هناك قبائل من العرب تعرف بالحمس، هؤلاء الحمس كانوا متشددين فى دينهم ومتحمسين له، ومنهم كانت قريش، وكنانة، وخثعم، وجشم.

وبنو صعصاع بن عامر. وكان إذا حج الفرد من هؤلاء لا يدخل بيته من الباب لأنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج. ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته، لذلك كان يدخل من ظهر البيت، وكان ذلك تشدداً منهم، لم يرد الله أن يُشرَعه. حتى لا يطلع على شيء يكرهه فى زوجه أو أهله.

وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج فى القرآن أن ينقى المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال: «وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» أى لا تجعلوا المسائل شكلية، فنحن نريد أصل البر وهو الشىء الحسن النافع.


والملاحظ أن كلمة (البر) فى هذه الآية جاءت مرفوعة، لأن موقعها من الإعراب هو (اسم ليس) وهى تختلف عن كلمة (البر) التى جاءت من قبل فى قوله تعالى: «لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب» التى جاءت منصوبة؛ لأن موقعها من الإعراب هو (خبر مقدم لليس). حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الاختلاف فى الرفع والنصب على القرآن الكريم

. ونقول لهم: أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية، فماذا نفعل لكم؟. يصح أن نجعل الخبر مبتدأ فنقول: (زيد مجتهد)، هذا إذا كنا نعلم زيداً ونجهل صفته، فجعلنا زيداً مبتدأ، ومجتهداً خبراً. لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهداً ولا نعرف من هو، فإننا نقول: (المجتهد زيد).


إذن فمرة يكون الاسم معروفاً لك فتلحق به الوصف، ومرة تجهل الاسم وتعرف الوصف فتلحق الاسم بالوصف. وهذا سر اختلاف الرفع والنصب فى كلمة (البر) فى كل من الآيتين. ونقول للمستشرقين: إن لكل كلمة فى القرآن ترتيباً ومعنى، فلا تتناولوا القرآن بالجهل، ثم تثيروا الإشكالات التى لا تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم.


ثم ما هو (البر)؟ قلنا: إن البر هو الشيء الحسن النافع. ولو ترك الله لنا تحديد (البر) لاختلفت قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلاف عقولنا، فأنت ترى هذا (حسناً)، وذاك يرى شيئا آخر، وثالث يرى عكس ما تراه، لذلك يخلع الله يدنا من بيان معنى البر، ويحدد لنا سبحانه مواصفات الحسن النافع، فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إلا وهو يعتقد أنه هو الحسن النافع، ولذلك يقول الحق: «ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا».


إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها، فاذهب إلى الغاية من الطريق الذى يوصل إليها. ويتبع الحق قوله عن البر: «واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ». لا تزال كلمة التقوى هى الشائعة فى هذه السورة، وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى.


ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقى معضلات الحياة، ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله. وساعة ترى منهج الله وتطبقه فأنت اتقيت المشكلات، أما من يعرض عن تقوى الله فإن الحق يقول عن مصيره: «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً» «طه: 124».


ولا يظن أحد أن التقوى هى اتقاء النار، لا، إنها أعم من ذلك، إنها اتقاء المشكلات والمخاطر التى تنشأ من مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة منهج الله. وليعلم الإنسان أن كل مخالفة ارتكبها لابد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها فى غيره، فمن لا يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه ألا يرتكب المخالفات فى غيره.

اقرأ ايضا | «من خواطر الشيخ الشعراوي».. إذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة فأقبل على كل عمل باسم الله