خالد محمود يكتب : «جزيرة غمام».. رؤية ملحمية لواقع ممتد   

جزيرة غمام
جزيرة غمام

 خالد محمود

دون شك، يأتى مسلسل "جزيرة غمام" ليشكل علامة فارقة فى دراما رمضان هذا العام ، بل ولأعوام كثيرة اشتقنا فيها لعمل تليفزيونى عميق شكلا ومضمونا ، فهو يحمل فكر يتجاوز حتى ما حدث قبل مائة عام طبقا لمجريات ما ذكره تتر العمل ، وايضا لا يقف عند حدود المكان الذى ذكر بقلب الصعيد ، فأنا اشعر ان المؤلف الكبيرعبدالرحيم كمال يشرح بواقعية غير معهودة ماحدث ، ومازال فى المجتمع ، وهو التشريح الذى طال الانسان والزمان والمكان امس واليوم وربما غدا .

فى باطن التفاصيل وظاهرها أمور كثيرة ، تكشف ما اصاب المجتمع من اوجاع ، وأمراض ،واوهام واحلام غير مشروعة ومشروعة  بذكاء وحنكة وابداع ، وكأن العمل ملحمة انسانية ، اى كان موطن هذا الانسان ، هناك مناطق كثيرة ، يخترقها المسلسل منها جزورالعنف الدينى ، والنفوز الصاعد على اهواء الغرائز، وصدام الخير و الشر فى صراع السلطة والمال ، وغسيل العقول بالنزوات تارة ، والأفكار المسمومة تارة ، وبالاغواء الشيطانى تارة اخرى ، وهناك على الطرف الاخر من يتمسك بالفضيلة ، واعتقد ان حالة التشويق والشغف الكبرى   التى لاتتوقف رغم هدوء الايقاع ، ستضعنا فى النهاية امام تساؤل كبير من سوف ينتصر، الحق أم الباطل ؟! ..

الصورة تكشف المكنون بكل ايحاءات زواياها ، وبالقطع المخرج حسين المنباوى استوعب رسالة وفكرالمؤلف وقدمتها فى  ابهى حالة درامية ممتعة ، كل جملة حوار لها قيمتها وموقفها وكأنها لطمات ولكمات توقظ عقل المشاهد وايضا تلهم مشاعره .

نسج من الحوار بين العوالم المتعددة دراما مبهرة بمفردات فنية مدهشة فى طزاجتها ، ورؤيتها فى غزل نسيج العمل من تصوير، واضاءة ، وموسيقى ، واداء ملهم لنجومه. 

فنحن امام عوالم متعددة ، عالم "الشيخ عرفات" الصوفى الذى يحاول ان يغرس فى الجيل الجديد قيم الحق والحب ووالاخاء المساواة والحياة بفطرتها و يجسده بإقتدار وتميز " احمد امين " ، 

عالم  الغجر  والاغواء والشر الذى يتمثل فى  خلدون الذى يجسده طارق لطفى و"العايقة "مى عز الدين ، وهو يشتبك مع عالم التطرف الدينى فى شبه عاركة والذى يقوده الشيخ محارب " فتحى عبدالوهاب " ، وكم شاهدنا مباريات فى الاداء  يأخذنا بابداع إلى منطقة اخرى من التقمص والتشخيص ، ابهرنا فيها طارق لطفى وفتحي عبدالوهاب ، الاول يستغل العايقة  التى تحاول التأثير على الكثير من بيوت الجزيرة، من خلال تجميل الفتيات وتجهيزهن حتى يرون العرسان وتقوم بضرب الودع لهن وقراءة بختهن، وتقوم بجذب الرجال لها اعتمادًا على جمالها لتنفيذ جميع رغباتها، والثانى يستغل فتيان الجزيرة لتطبيق خطة اطماعه بغسيل عقولهم وتركهم يحاكمون المجتمع بحجة الخروج على شرع الله ، واعتقد ان القادم سيحمل مفاجأت .
وعالم الحج عجمي وابنته  الذى يجسده كبير الجزيرة المخضرم رياض الخولى ، الحائر بين الجميع وهو يحاول تحقيق العدل وفق منظومته  ،  وعالم الشيخ يسرى الذى يقدمه بتمكن "محمد جمعه" الذى يرث البيت الكبير ويساعد الناس  ولكن فجأة تتحول شخصيته وتتبدل ويبدأ فى آلاعيبه الشريرة ويفرق بين الأشقاء ويعالج النساء بالسحر ،وبين تلك العوالم التى أصابها الفرقة هناك شخصيات أبدعت فى حبكة البشر داخل الجزيرة منهم " بطلان " الذى جسده باقتدار  محمود البزاوى ، و" المعلمة هلالة " التى أدت ببراعة مجموعة مشاهد ماستر سين وبحزن دفين 
 واعتقد ان قرب المخرج والممثلين من النص سبب رئيسي في نجاح العمل  والمشاهدين دائما ما ينتظرون من الكاتب المقرب إليهم أن يروا عملا يشبه ارواحهم  وهو ما وجدوه فى جزيرة غمام واقبلوا عليه وما اعتادوا عليه 

احداث المسلسل تدور في صعيد مصر فى قرية "القصير " على ساحل البحر الاحمر في عشرينات القرن الماضي، وبالتالى نعيش فى شبه اسطورة وحكاية شعبية لكنها مختلفة بوجودها على ساحل البحر وليس فى حضن جبل  ومليئة بالاسقاطات الرمزية حول الصراع الابدى بين رجال السلطة والدين والمال ، رغم ان مؤلفه اشار فى بداية التتر انه واقع يصنعه خيال او انه لايمت للواقع بصله ، فالقصة تنطلق من امام قصة  بيت شافع  الشيخ مدين "عبدالعزيز مخيون"  ، وأبنائه وتابعيه "محارب ويسرى وعرفات " الذين يتشابكون في صراعات واطماع وخلافات  ليبدأ المأزق والتفرقة من الداخل  ، قبل ان يأتيهم من الخارج ليذداد الامر شتات وغمام فى انتظار طاقة نور .

 فالشيخ مدين توفى تاركا ارثه لثلاثة من مريديه وتلاميذه ، منح سره وكتاب اسراره لعرفات ، الذى يميل الى النزعة الصوفية ، ومحارب الذى يتخذ طريق الجهاد الدينى ، ويسرى الذى تحركه اهواءه ، وفى المشهد التالى لزلزلة القرية تأتى امواج البحر محملة بالغجر الذين يقلبون الحال رأساعلى عقب ويغوون حتى رجل الدين .

الادوات الفنية منحت العمل مصداقية كبيرة وقربته من وجدان المتلقى مثل نهج اداء الشخصيات وطبيعة عوالمهم من ديكوات وملابس وزوايا تصوير كأنها ملحمة بصرية شاعرية  كشفت تفاصيلها الطمع تارة والامان تارة اخرى وهى الدلالات التى قصدها المؤلف بنصه الكلاسيكى زو النزعة الصوفية الزاخم بالافكار لنعيش واقع من قلب الخيال .. الحاضر فى صورة الماضى .. ولنزيب غمام الرؤية.