حديث الاسبوع

قروض فى شكل مساعدات لكنها مسمومة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

لا تجد إدارة صندوق النقد الدولى أى حرج فى فرض قيود صارمة جديدة على العديد من الدول التى وجدت نفسها فى مواجهة الظروف الدقيقة والصعبة بسبب الأزمة الصحية الطارئة، التى هزت العالم بأسره لمدة تجاوزت السنتين. ويرتقب أن تستمر تداعياتها المباشرة وغير المباشرة لسنوات عجاف قادمة، وبسبب الحرب التى اشتعلت فجأة بين القوى العظمى فى العالم فوق أراضى أوكرانيا، والتى لا يملك أحد من الخبراء فى شئون الحروب، ولا من السياسيين المتسببين فيها، جوابا دقيقا عن عمرها.


فى ظل هذه الظروف القاسية التى تكاد تكون غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى الحديث لم يتردد قادة صندوق النقد الدولى فى إملاء شروط جديدة مجحفة فى حق مجموعة من الدول التى اضطرتها الظروف الصعبة التى عاشتها خلال السنين القليلة الماضية إلى مد يدها لصندوق النقد الدولى لطلب قروض مستعجلة مثلت بالنسبة إليها فى ذلك الإبان جرعات ضرورية من الأوكسجين لتتمكن من مغادرة غرف الإنعاش المركز التى دخلتها اقتصاداتها بسبب الضائقة القوية. وهكذا وضمانا من مسئولى صندوق النقد الدولى لاسترجاع ما أقرضه لعدد من الدول الضعيفة التى وجدت نفسها عاجزة عن تسديد أقساط الديون فى مواعيدها المحددة، وحتى تلك الدول التى تقدمت لاحقا بطلبات قروض جديدة، فرض على الحكومات المعنية تدابير تقشف إضافية، ليس طبعا فى صرف تلك القروض، ولا فيما يتعلق بمجالات صرفها، ولا حتى بما يتعلق بشروط الشفافية والنزاهة التى يجب أن تطوق هذه القروض بل قادة صندوق النقد الدولى رأوا بديلا عن ذلك بتدابير تقشف مغايرة تمس بنية الدولة واستقرارها وأمنها الداخلي، من قبيل فرض ضرائب جديدة على كثير من أصناف المواد الغذائية ومنتوجاتها وعلى الوقود، وأيضا تخفيض الإنفاق العام فى القطاعات الاجتماعية كما الشأن بالنسبة للصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية وغيرها.


منظمة (أوكسفام) نبهت فى تقرير حديث لها بأن (إملاء هذه الشروط من طرف صندوق النقد الدولى على 13 من أصل 15 من برامج القروض التى تفاوض عليها صندوق النقد الدولى فى السنة الثانية من الوباء يحتمل أن يهدد الخدمات العامة الأساسية).


وبرأى كثير من الخبراء فإن الشروط الجديدة الصادمة لصندوق النقد الدولى وإملاءاته الخطيرة ستعرض الأوضاع الاقتصادية فى العالم إلى ما يسمونه بـ (القوة الخارقة للتقشف) وبالتالى سيعيق الانتعاش الطفيف للاقتصاد العالمى الذى توقعه خبراء اقتصاديون بعدما تراجعت حدة الوباء وبدأ كثير من القطاعات الاقتصادية فى مرحلة بداية التعافى.
القضية يمكن تناولها من الجانب الأخلاقى الصرف، قبل النظر إليها من الجوانب القانونية والتقنية والإدارية. وفى هذا السياق يجد التساؤل عن الهدف الحقيقى من فرض هذه الشروط فى هذه الظروف الدقيقة على جهات، يعلم قادة صندوق النقد الدولى أنها ستكون لها تداعيات خطيرة وعنيفة على الأوضاع الاجتماعية للمواطنين والمواطنات، وعلى الاستقرار السياسى فى كثير من تلك الدول، ويحق للملاحظ والمراقب أن يصل بهذا السؤال إلى مداه الأبعد، والقول ما إذا كان صندوق النقد الدولى يفرض هذه التدابير التقشفية فى قطاعات اجتماعية استراتيجية من خلال الضغط بهدف تقليص الإنفاق العام، وأيضا عبر الرفع من أسعار كثير من المواد الغذائية الأساسية والمحروقات بفرض ضرائب جديدة عليها لخدمة أغراض وأهداف سياسية معينة ترتبط بالأوضاع الداخلية أو بالحسابات الجيو استراتيجية فى كل منطقة من مناطق العالم.


فى هذا الصدد نقف عند ما ذكر به أحد مستشارى منظمة أوكسفام للسياسات فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حينما صرح قائلا: «ذلك يوضح تماما سياسة المعايير المزدوجة لصندوق النقد الدولى، فهو يحذر الدول الغنية من التقشف، بينما يجبر البلدان الأكثر فقرا عليه» وفى مثل هذه الشهادة أقوى مؤشر على أن الإملاءات والشروط التى يغل بها صندوق النقد الدولى الدول الضعيفة ليست بريئة ولا تتعلق فقط بضمان التسديد المنتظم لمستحقات القروض وأقساطها، وهى لا تخفى ما تخفيه من غايات وأهداف أخرى.


هل للمراقب أن يشك لحظة واحدة فى أن قادة صندوق النقد الدولى الذى هو ملك للدول بنسب وأقساط مساهمة متفاوتة وأنشئ أول مرة لخدمة التعاون والتكامل بين شعوب العالم ، يدركون جيدا أن الدول المعوزة والفقيرة والتى تجتاز ظروفا صعبة بدأت تداعياتها الخطيرة فى الخروج إلى العلن والوجود، ليس أقلها خطورة كارثة المجاعة التى شملت وطالت عشرات الملايين من الاشخاص الذين قادتهم الظروف الطارئة إلى مقصلتها، تحتاج اليوم وأكثر من أى وقت مضى إلى المساعدة الحقيقية لضمان وجود الخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية، وليس إلى تدابير وقرارات وشروط وإملاءات تزيد من تعميق أزماتها واستفحال معانة شعوبها. فإن كانوا يدركون هذه الحقائق المفزعة بحسن نية فليس أمامهم اليوم غير الإسراع بتعليق ما أملوه من شروط مجحفة على الدول الفقيرة المقترضة، بل ويبادرون بإلغاء هذه الديون المنهكة لاقتصاديات الدول الضعيفة، أو على الأقل تأجيل السداد إلى وقت لاحق مع إلغاء الفوائد. وأمامهم أن يعوضوا تلك الشروط بفرض ضرائب على الأغنياء وعلى الفئات الميسورة وعلى الشركات. أما إذا كانت قناعتهم غير ذلك فلا مجال للاقتراح والنصيحة لأن ضراوة العوامل السياسية تتفوق وتتحكم وتهيمن على قناعة القرارات المصيرية فى مثل هذه الحالات.
نقيب الصحفيين المغاربة