هذا هو تراثنا الجميل في يوم التراث العالمي

تراثنا فى يوم التراث العالمى
تراثنا فى يوم التراث العالمى

كتب : د. فكرى حسن 

وافق 18 أبريل الماضي يوم التراث العالمى وكان يعرف مسبقاً تحت مسمى «اليوم العالمى لأثار والمواقع» وهو ما ينظمه «المجلس الدولى للآثار والمواقع» (ايكوموس ICOMOS) منذ 1983» لتعميق الوعى بأهمية التراث والمحافظة عليه.

ويرتبط مفهوم «التراث» فى هذا الصدد باتفاقية اليونسكو فى 1972 للحفاظ على التراث العالمى الحضارى والطبيعى التى نتجت عن الحملة العالمية لإنقاذ آثار النوبة فى 1960 والتى ترتب عليها تأسيس مركز التراث العالمى التابع لليونسكو لتسجيل مواقع التراث العالمى وهى المواقع ذات الاهمية للإنسانية جمعاء بغرض حمايتها وتعزيز دورها لصالح الإنسانية. وتحتوى القائمة حالياً على 897 موقعا حضاريا و218 موقعا طبيعيا و39 موقعا مختلطا.

 

وفى هذه القائمة تحظى اوروبا وامريكا بنصفها بينما لا تتعدى المواقع من افريقيا سوى حوالى 8% بمعدل حوالى 3 مواقع لكل دولة بالمقارنة بمعدل 11 لكل دولة من اوروبا وامريكا، ولا تمثل مصــر على القائمة الا بسبع مواقع فقط بالمقارنة بعدد 56 موقعا للصين و49 لفرنسا و51 لألمانيا و58 لإيطاليا و40 للهند و24 للولايات المتحدة الأمريكية، 18 لليونان و19 لتركيا وتقارب عدد المواقع لتونس (8 مواقع) و9 إسرائيل (9 مواقع) ما هو مسجل فى مصر! وبذلك تكون عدد المواقع المسجلة فى مصر ضئيلة جداً بالمقارنة بدور مصر فى الحضارة الإنسانية.


وتنعكس أهمية هذه الأرقام على القوة الثقافية الناعمة للدولة المصرية وعلى العائد الاقتصادى الذى ينجم عن ادراج موقع بقائمة التراث العالمي، وعلى سبيل المثال تحظى فرنسا سنوياً بحوالى 60 بليون دولار، وألمانيا بحوالى 40 بليون دولار، وايطاليا 44 بليون دولار، والصين حوالى 33 بليون دولار بينما لا يزيد نصيب مصر سنويا عن حوالى 7 بلايين دولار فقط (متوسط الدخل من 2012 الى 2020، بمعدل ادنى 3,8 فى 2016 و2020 ومعدل اقصى 12,9 فى 2019) ومن هذه الأرقام يتراوح الدخل السنوى لكل موقع مسجل على قائمة التراث العالمى من 1.2 – 0.7 بليون دولار؛ وبذلك فإن زيادة عدد المواقع المسجلة على قائمة التراث العالمى مع إدارة حكيمة للموارد التراثية لمصر سيكون بمثابة حوالى بليون دولار سنوياً لكل موقع تتم اضافاته.

 

وبالتالى فان مصر يمكنها بسهولة أن تسجل بمواردها التراثية المتعددة ما يزيد على 50 موقعا، يمكن أن تدر حوالى 40 بليون دولار سنويا، وما يقارب 400 بليون دولار فى عشر سنوات! وعلاوة على ذلك وحتى فى غياب مواقع تراثية عالمية يمكن مع الإدارة والتسويق الناجح أن يزداد الدخل من السياحة كما فعلت الإمارات التى لا تمتلك سوى موقع واحد مسجل على قائمة التراث العالمى وحصلت 25 بليون دولار فى 2020 بينما حصلت مصر على 3,8 بليون دولار فى نفس العام و38 بليون فى 2019 بينما حصلت مصر على حوالى 13 بليون دولار فى نفس العام.

 

وتعتمد الإمارات على تنويع العناصر السياحية لتشمل المتاحف ومنها متاحف الفن، والقلاع التاريخية، والتراث الطبيعى من الجبال والصحارى، والتراث الشعبى كما تعتمد على تنويع الأنشطة السياحية. 


ولذلك هناك حاجة ماسة للسياحة الثقافية بمعناها الأوسع الذى لا يقتصر على الآثار ليشمل ما يعرف منذ 2003 ما يسمى «التراث اللامادى» منذ 2003 وهو ما يشمل المواريث الشفاهية كالأغانى والحكايات والامثال والفنون الادائية كالرقصات الشعبية كالتحطيب ورقص الأفراح والممارسات الاجتماعية كشم النسيم وسابقاً وفاء النيل والطقوس والاحتفالات كالموالد والمعارف المتعلقة بالطبيعة كالتداوى بالأعشاب الطبية والمعارف والمهارات الخاصة بالحرف والصناعات التقليدية والمأكولات التراثية.

 

ولا يخفى على أحد ما لمصر من تراث لامادى غاية فى الثراء والتنوع لا يلعب دوره المأمول فى التنمية المجتمعية ولا يلقى الاهتمام الكافى كمصدر هائل للدخل القومى إذا ما تم استثماره، مع مبادرات مشكورة من الأفراد والجمعيات المدنية التى تسعى للحفاظ علية واستثماره على مقياس محدود، ومن كل ما يمكن تسجيله من «التراث اللامادي» على قائمة التراث اللامادى لليونسكو قامت مصر بتسجيل السيرة الهلالية فى 2008 والتحطيب فى 2016.


ويبدو أيضا أن هناك إغفال لدور المفكرين والفنانين والأدباء المعاصرين فى تشكيل رؤيتنا للتراث. فالاهتمام بالآثار «كأنتيكات»، وللأسف مازال مسمى الوزارة المسئولة عن الآثار بوزارة الأنتيكات باللغات الأجنبية (Ministry of Antiquities فى اللغة الإنجليزية)، يعود إلى نظرة المفكرين الأوروبيين الى الآثار بوصفها بقايا ذات قيمة فنية مكانها المتاحف ولا علاقة بها للحاضر.

 

وحاليا تتم مراجعة هذا المنظور تحت مسمى «التراث» بمعنى أنها من المواريث الثقافية التى يعنى المجتمع بالمحافظة عليها لما لها من قيم تعليمية ومعرفية وعقائدية وسياسية لها دورها فى تقييم الحاضر وتفهم مصادره فى المجتمعات السابقة. وبذلك لا يصبح شارع المعز مجرد مبان تاريخية نحتفى بها لجمال عمارتها فحسب ولكن كمصدر لمعرفة التاريخ السياسى والاقتصادى والمجتمعى لمصر من العصر الفاطمى إلى عصر محمد على وما يعنى ذلك من دور المساجد والتكايا فى سياسة الدولة ودور الوكالات والأسواق فى التجارة العالمية والسبيل-كتاب فى نظم التعليم وتوزيع المياه ودور الحرف والصناعات فى مكانة مصر فى العالم. 


ومن ناحية المبدأ فإن الفصل بين ما يسمى تراثا ماديا (الأثار) واللامادى وهو ما كان يطلق عليه مسبقاً فولكلور هو فصل تعسفى لان كليهما اوجه متكاملة للإنتاج الحضارى والذى يسمى أيضا فى اللغة العربية «الثقافى» (بمعنى cultural) وللمصطلحات هنا دور هام فى كيفية إدارة التراث المصرى والاستفادة منه لا اقتصادياً فحسب ولكنى فى مجال التنمية المجتمعية وبناء الإنسان على أساس معرفة عميقة بعلاقة التراث بالمجتمعات السابقة وبنيتها السياسية والاقتصادية والدينية والعلمية والفنية والمعرفية والادبية وعلاقة ذلك بالمجتمعات المحلية والتى تتعايش مع العناصر التراثية.

 

ومن هنا لا يصح الاهتمام بالقطع الأثرية أو بالمواقع خارج إطارها المكانى والزمانى وعلاقتها بالمواقع الأخرى المتزامنة معها مما يتطلب بدلا من المتاحف مراكز تراثية تقدم شروحا وتفسيرات لبقايا الماضى من نظرة مجتمعية حضارية مما يتطلب مؤسسات حكومية لا تفصل بين الثقافة والتراث المادى واللامادى وبين الماضى والحاضر بصورة تعسفية، مما يتطلب أيضا نظما تعليمية ومقررات دراسية حديثة لا تقتصر على مقررات تاريخية أو لغوية أو على الترميم أو العرض المتحفى بحيث يتسنى الإلمام بالمنظور الحديث للتراث كتمهيد للتخصص.


وكمثال آخر، لا يمكننا فصل الأهرامات كتراث عالمى من النظرة للأهرامات فى العصور الوسطى كمصادر لأحجار البناء ثم كأثار فى إطار علم المصريات فى العصر الحديث أو الاهتمام بها فى سياحة الأوربيين لمصر، كما لا يصح أن نهمل أدبيات الاهتمام بتراث مصر القديمة بعد ثورة 1919 فى القصص والشعر وفنون النحت والتصوير كتراث قومى يدل على مكانة مصر كدولة لها ماضيها المشرف تستحق معه الاستقلال والسيادة. 


 كما لا يصح تفسيرها والاهتمام بها فحسب كإنجاز هندسى وتكنولوجى لما لها من علاقة وثيقة بمشروع الدولة فى مصر القديمة وعلاقتها بالمعتقدات الدينية، وتأثير بناء الأهرامات من ناحية أخرى على العلاقة بين الدولة المركزية والمساهمات الاقتصادية من الأقاليم والأوضاع الاقتصادية للدولة، ناهيك عن الكفاءة فى إدارة المشروعات القومية.


وينبغى إذن الا ننظر للتراث كمجرد بقايا أوممارسات أوأنشطة للفرجة والفسح ولكن كنافذة على ديناميكيات المجتمعات السابقة وآليات التنظيم والابداع والتغيير المجتمعى حتى نتمكن من تفهم المسارات التى أدت الى الأوضاع المجتمعية الحالية وكيف يمكن أن نغيرها إلى الأفضل، وإلا نقع أسرى النظرة العتيقة لتراثنا كمجرد «تحف» (التى مازالت تلقى بظلالها على مسمى «المتحف»!) 


ولذلك يستحسن أن ننظر إلى التراث (بكل ابعاده ومكوناته) فى إطار متكامل حول موضوعات ذات أهمية للمجتمعات المعاصرة فى مواجهة الاشكاليات الحالية وفى إطار تشكيل مستقبل افضل. ومن هذا المنطق نرحب بموضوع «التراث والمناخ» كالتيمة الأساسية لاحتفالية 2022 بيوم التراث العالمى، ولكن صفحة هذا الحدث (World Heritage Day 2022: Thee, History , significance and activities) 


تقتصر للأسف على التنويه بالاهتمام بالمحافظة على التراث والوعى به، والقيام بأنشطة عامة كزيارة المواقع الأثرية، والتعرف على القيم الحضارية واكتشاف «اسرار» المواقع التراثية ما لا يبرز الأبعاد الأساسية لعلاقة التراث بتغيير المناخ»،  وفى هذا الصدد تشير الصفحة إلى أهرامات الجيزة «غير المعروفة» (هكذا) والتى تدلنا، حسبما ورد فى الصفحة الرسمية، على التكنولوجيا المتقدمة التى كانت موجودة فى الماضى، ولأهمية موضوع التغير المناخى والاهتمام العالمى به، وخاصة وأن مصر ستستضيف فى 7-18 نوفمبر القادم المؤتمر العالمى UN Climate Change Conference 2022 لتغيير المناخ (UNFCCC COP 27) يجب علينا ان نأخذ فى الاعتبار الدروس المستفادة من تأثير التغيير المناخى على الحضارة المصرية، والاهتمام بشواهد تأثير التغير المناخى كمزارات تثقيفية وتعليمية، واحتمالات تأثير التغيير المناخى على عناصر التراث وعلى السياحة التراثية، خاصة كمساهمة من مصر فى المؤتمر العالمى. 

 


قامت بعض الدول بدراسات هامة فى مجال «السياحة المستدامة» وما يتطلبه من إعادة النظر فى سياسات ونظم السياحة لدعم التكيف مع تغيير المناخ ومنها تعزيز مشاركة الأهالى فى كل مراحل السياحة والمحافظة على البيئة وتأهيل البنية التحتية، وفى هذا الصدد نشير إلى دور التغيير المناخى فى ظهور الحضارة المصرية نتيجة لفترات الجفاف العالمى التى ساهمت فى انتشار الزراعة والانتقال من الصحارى إلى وادى النيل حيث مهد الاعتماد على الزراعة الفيضية إلى ظهور دولة موحدة لمواجهة شح الفيضانات أو زيادتها المفرطة نتيجة للتقلبات المناخية التى تؤثر على كمية الأمطار فى اثيوبيا والهضبة الاستوائية.

 

كما أن الجفاف العالمى فى الفترة من 4200-4000 قبل الوقت الحاضر الذى صاحب مناخا باردا ادى إلى انهيار الدولة المركزية فى الدولة القديمة التى تعرف بعصر الأهرامات والى فترة 200 عام من التفكك والفوضى والصراعات انتهت بظهور الدولة الوسطى التى أعادت لمصر وحدتها من خلال مشروعات مائية قومية، واعادة تنظيم الجهاز الإدارى للدولة، وإرساء أسس منظومة أخلاقية تقوم على الالتزام الحاكم بحياة كريمة لرعايا الدولة ورعاية اليتامى. والأرامل والمعوزين ورفع الظلم عن المستضعفين والتى أصبحت المكون الأساسى لنصوص كتب الحكمة التى سبقت تعاليم الديانات الكبرى بمنطقة الشرق الأدنى. 


 ومن شواهد هذه الأحداث التى يمكن زيارتها الأدلة على العصور المطيرة فيما قبل التاريخ ومنه تصاوير الفيلة والزرافة على صخور الصحارى المصرية وبقايا البحيرات فى الواحات التى تنتهى ليحل الجفاف منذ حوالى 7 آلاف عام كما تدل عليه بقايا النباتات وتراكم الكثبان الرملية وغياب الأنشطة البشرية فى الصحارى فى الوقت الذى تبدأ فيه سكنى وادى النيل وحواف الدلتا كما فى موقع مرمدة بنى سلامة وعدة مواقع بمنخفض الفيوم. كما أن هناك شواهد جيولوجية على تغيير مناسيب البحيرة التى كانت شواطئها التى يكمن زيارتها حاليا إلى 60-70 مترا فوق مستوى بركة قارون الحالى. 


 ويفسر وجود مقاييس لفيضانات النيل Nilometers منذ بداية ظهور الدولة المصرية pjd العصر الإسلامى اهتمام المصريون بتأثير الفيضانات نتيجة للتغيرات المناخية على الاقتصاد القومى. وهناك مقاييس يمكن زيارتها فى مواقع عديدة فى أسوان والأقصر وإدفو والقاهرة ومنها مقياس النيل بالروضة. كما يمكن زيارة السدود التى أقامها ملوك الدولة الوسطى فى الفيوم وما صاحبها من أهرامات ومدن فى اللاهون وهوارة. كما أن هناك سدا فى اقدم سدود العالم من عصر الأهرامات فى وادى جراوى بمنطقة حلوان لحصد أمطار الوادى ومنع أخطار السيول على المنشآت بوادى النيل. 


ولا نغفل من الناحية التاريخية الشدة المستنصرية فى العصر الفاطمى نتيجة شحة الفيضانات فى فترة جفاف عالمى يمكن التعرف عليها من الوثائق التاريخية وسجلات مقياس النيل بالروضة وهومن أهم مصادر التعرف على تغيير المناخ منذ القرن السابع ميلادى، ومن منطلق التراث الطبيعي، يقدم المتحف بمحمية وادى الحيتان تأثير تغيير المناخ منذ 60 مليون عام على جغرافية مصر وتطور الكائنات بها، وهو من أول المتاحف المعنية بالمناخ فى العالم. 


كما يجب أن ننتبه من خلال هذه الأدلة على التأثير المحتمل للتغير المناخى على فيضانات النيل والامطار فى أعالى النيل وارتفاع منسوب البحر الابيض المتوسط والبحر الأحمر بما لذلك من تأثير على المواقع التراثية من مدن وموانىء ساحلية، كما أن علينا أن ننتبه للآثار المعرضة للسيول، وهناك أدلة لذلك فى مقابر وادى الملوك بالأقصر. 


كما أن التغير المناخ بالتأكيد تأثيرا على السياحة بصورة مباشرة من خلال تأثير الطقس على توجهات ومقاصد زيارات السائحين كما فى تقرير 2007 للجنة التغيير المناخى الدولية مما يستدعى دراسة علمية مفصلة عن تأثير التغييرات المناخية المحتملة على السياحة فى مصر، والتى تشمل أيضا التأثير غير المباشر للتغيرات المناخية على وسائل النقل ومصادر الطاقة والمياه والانبعاثات الحرارية المحيط بالمواقع التراثية. وفى هذا الإطار قامت بعض الدول بدراسات هامة فى مجال «السياحة المستدامة» وما يتطلبه من إعادة النظر فى سياسات ونظم السياحة لدعم التكيف مع تغيير المناخ ومنها تعزيز مشاركة الأهالى فى كل مراحل السياحة والمحافظة على البيئة وتأهيل البنية التحتية. 

اقرأ أيضا | أكاديمية الفنون بروما تحتفل بيوم التراث العالمى