بقلم مصرية يونانية: ماذا عن‭ ‬الصوم قديمًا وحديثًًا‭ ‬

لوحة للفنان: طه قرنى
لوحة للفنان: طه قرنى

‬بيرسا‭ ‬كوموتسى‭ ‬
تقديم‭:‬ غادة‭ ‬جاد

ولدت‭ ‬الكاتبة‭ ‬و‭ ‬المترجمة‭ ‬المصرية‭ ‬اليونانية‭ ‬بيرسا‭ ‬كوموتسى‭ ‬فى‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأتمت دراساتها‭ ‬للأدبين‭ ‬العربى‭ ‬والإنجليزى‭ ‬فى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ - ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭.‬

تعد‭ ‬كوموتسى‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬المترجمين‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬اليونانية،‭ ‬فلها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬عن‭ ‬أربعين‭ ‬عملًا‭ ‬مترجما‭ ‬إلى‭ ‬اليونانية،،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬مجموعات‭ ‬شعرية‭ ‬لشعراء‭ ‬عرب،‭ ‬و‭‬مختارات‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬العربى‭ ‬المعاصر،‭ ‬فضلًا‭ ‬عن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬من‭ ‬أشهرها‭ ‬روايات‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬باللغة‭ ‬اليونانية‭ ‬عن‭ ‬حياة‭ ‬اليونانيين‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ .‬تشغل‭ ‬كوموتسى‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬‮٢٠٢٠‬‭ ‬منصب‭ ‬رئيسة‭ ‬المركز‭ ‬العربى‭ ‬اليونانى‭ ‬للثقافة‭ ‬و‭‬الحضارة‭ ‬باليونان‭.‬ وكتبت خصيصا‭ ‬لأخبار‭ ‬الأدب‭ ‬عن‭ ‬طقوس‭ ‬الصوم‭ ‬و‭‬ذكرياتها‭ ‬عن‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬أيام‭ ‬طفولتها‭ .‬


حتى‭ ‬فى‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬كان‭ ‬الصيام‭ ‬يُمارس‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتطهير‭ ‬والتكفير‭ ‬والتجربة‭ ‬التى‭ ‬تساعد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬التقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭

‮«‬يعد‭ ‬الصوم‭ ‬مؤسسة‭ ‬قديمة‭ ‬قدم‭ ‬الدهر،‭ ‬إنها‭ ‬الوصية‭ ‬الأولى‭ ‬التى‭ ‬أعطاها‭ ‬الله‭ ‬للإنسان‭. ‬نقرأ‭ ‬فى‭ ‬الكتاب‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العهد‭ ‬القديم‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬أمر‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يأكل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شجر‭ ‬الفردوس‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬شجرة‭ ‬معرفة‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭. ‬


حتى‭ ‬فى‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬كان‭ ‬الصيام‭ ‬يُمارس‭ ‬كوسيلة‭ ‬للتطهير‭ ‬والتكفير‭ ‬والتجربة‭ ‬التى‭ ‬تساعد‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬التقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭.‬


صامت‭ ‬الشعوب‭ ‬الآسيوية‭ ‬القديمة‭ ‬لأسباب‭ ‬دينية‭. ‬و‭ ‬صام‭ ‬المصريون‭ ‬القدماء‭ ‬أيضا‭ ‬لأسباب‭ ‬تتعلق‭ ‬بالنظافة‭. ‬و‭ ‬قد‭ ‬اعتبر‭ ‬الإغريق‭ ‬أن‭ ‬الصوم‭ ‬اختبار‭ ‬يساعد‭ ‬فى‭ ‬تقرب‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الإلهة‭ .‬صام‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الكهنة‭ ‬والملوك‭ ‬ورجال‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التضحية‭. ‬كما‭ ‬صام‭ ‬اليونانيون‭ ‬الذين‭ ‬شاركوا‭ ‬فى‭ ‬أعياد‭ ‬‮«‬الإليوسينيون‮»‬‭ ‬والتسموفوريون،‭ ‬واللايدامونيون‭ ‬قبل‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية،‭ ‬كما‭ ‬امتنع‭ ‬كهنة‭ ‬زيوس‭ ‬فى‭ ‬جزيرة‭ ‬كريت‭ ‬عن‭ ‬تناول‭ ‬اللحوم‭ ‬والأسماك‭.‬


أما‭ ‬عن‭ ‬الصوم‭ ‬فى‭ ‬الديانات‭ ‬السماوية‭ ‬فله‭ ‬سمات‭ ‬مشتركة‭ ‬فهو‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الروتين‭ ‬الغذائى‭ ‬والصدقة‭ ‬والصلاة،‭ ‬إذ‭ ‬يتحرر‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الأهواء‭ ‬والتبعيات،‭ ‬لكى‭ ‬يوجه‭ ‬انتباهه‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬ليكون‭ ‬عبادة‭ ‬وممارسة‭ ‬الفضائل،‭ ‬فالإنسان‭ ‬الذى‭ ‬يصوم‭ ‬يقوى‭ ‬إرادته‭ ‬ويفرض‭ ‬نفسه‭ ‬ليجتذب‭ ‬نعمة‭ ‬الله‮»‬‭.‬، وينطبق‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬فى‭ ‬الإسلام‭ ‬مع‭ ‬صيام‭ ‬رمضان‭ ‬فروتين‭ ‬الأكل‭ ‬مصحوب‭ ‬بالامتناع‭ ‬والتأمل‭ ‬والصلاة‭ ‬والتوبة‭.‬


أما‭ ‬عن‭ ‬الصوم‭ ‬الكبير‭ ‬فى‭ ‬الكنيسة‭ ‬الأرثوذكسية‭ ‬التى‭ ‬تأسست‭ ‬فى‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬الميلادي‭. ‬فى‭ ‬البداية‭ ‬استمر‭ ‬ستة‭ ‬أسابيع‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬تمت‭ ‬إضافة‭ ‬الأسبوع‭ ‬السابع‭. ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬‮«‬الصوم‭ ‬الكبير‮»‬‭ ‬لأنه‭ ‬يشمل‭ ‬أربعين‭ ‬يومًا‭ ‬من‭ ‬الصيام،‭ ‬أى،‭ ‬يليه‭ ‬أحد‭ ‬الشعانين‭ ‬وأسبوع‭ ‬الآلام‭. ‬لا‭ ‬يكتسب‭ ‬الصوم‭ ‬الكبير‭ ‬أهميته‭ ‬نظرًا‭ ‬لطول‭ ‬مدته‭ ‬ولكن‭ ‬لارتباطه‭ ‬بذكرى‭ ‬آلام‭ ‬المسيح،‭ ‬إذ‭ ‬يعد‭ ‬تهيئة‭ ‬لنفوس‭ ‬المؤمنين‭ ‬لعيد‭ ‬الفصح‭ ‬لإنها‭ ‬فترة‭ ‬صلاة‭ ‬وصوم‭ ‬وسعى‭ ‬وراء‭ ‬الفضيلة، وفى‭ ‬هذا‭ ‬الصوم‭ ‬يحرم‭ ‬اللحم‭ ‬والسمك‭ ‬والألبان‭ ‬والزيت‭ ‬والنبيذ‭.‬ويُسمح‭ ‬بالزيت‭ ‬والنبيذ‭ ‬فقط‭ ‬فى‭ ‬أيام‭ ‬السبت‭ ‬والأحد،‭ ‬باستثناء‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬المقدس


يلتزم‭ ‬المتدينون‭ ‬دون‭ ‬غيرهم‭ ‬بالصوم‭ ‬لمدة‭ ‬أربعين‭ ‬يومًا،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬من‭ ‬يعتبرها‭ ‬فرصة‭ ‬جيدة‭ ‬للقيام‭ ‬بنظام‭ ‬غذائى‭ ‬للتخلص‭ ‬من‭ ‬الدهون‭ ‬والعناصر‭ ‬الزائدة‭ ‬فى‭ ‬الجسم،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬الالتزام‭ ‬الديني‭.‬أما‭ ‬عن‭ ‬الصوم‭ ‬بالنسبة‭ ‬لى،‭ ‬فقد‭ ‬ارتبط‭ ‬فى‭ ‬ذهنى‭ ‬أساسًا‭ ‬بصوم‭ ‬رمضان،‭ ‬فعندما‭ ‬كنت‭ ‬طفلة،‭ ‬اعتاد‭ ‬والديّ‭ ‬شراء‭ ‬الفوانيس‭ ‬ليّ،‭ ‬وكنت‭ ‬أشاهد‭ ‬فوازير‭ ‬رمضان‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬التليفزيون،‭ ‬كما‭ ‬أحببت‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الأغانى‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمناسبة‭. ‬

و‭ ‬لطالما‭ ‬كنت‭ ‬أتناول‭ ‬الطعام‭ ‬مع‭ ‬الجيران‭ ‬عند‭ ‬سماع‭ ‬مدفع‭ ‬الافطار،‭ ‬وقد‭ ‬أمضينا‭ ‬أوقاتًا‭ ‬ممتعة،‭ ‬لذلك‭ ‬حرصت‭ ‬على‭ ‬الصيام‭ ‬معهم‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أستطيع،‭ ‬وشجعتنى‭ ‬والدتى‭ ‬على‭ ‬تجربته،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬مسلم‭ ‬فى‭ ‬الأسرة‭. ‬لكن‭ ‬كان‭ ‬لدينا‭ ‬احترام‭ ‬كبير‭ ‬وحب‭ ‬لجيراننا‭ ‬وأصدقائنا‭ ‬الذين‭ ‬اعتادوا‭ ‬صيام‭ ‬رمضان‭.‬


فقد‭ ‬أذهل‭ ‬رمضان‭ ‬مخيلتى‭ ‬كطفلة،‭ ‬وأدخل‭ ‬قدرًا‭ ‬كبيرًا‭ ‬من‭ ‬الفرح‭ ‬على‭ ‬قلبى،‭ ‬وتابعت‭ ‬بشغف‭ ‬جميع‭ ‬الأعياد‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وكانت‭ ‬والداتى‭ ‬تصنع‭ ‬الحلويات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بهذه‭ ‬المناسبات،‭ ‬مثل‭ : ‬القطايف،‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تشترى‭ ‬لى‭ ‬الملابس‭ ‬الجديدة‭ ‬كبقية‭ ‬الصغار‭ ‬الآخرين‭. ‬وكذلك‭ ‬فعل‭ ‬معظم‭ ‬اليونانيين‭ ‬الذين‭ ‬ولدوا‭ ‬فى‭ ‬مصر‭ ‬و‭ ‬عاشوا‭ ‬فيها‭ ‬فترة‭ ‬من‭ ‬حياتهم‭. ‬


و‬قد‭ ‬انتهيت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬رواية‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬سيناريو‭ ‬عن‭ ‬طفولة‭ ‬المخرج‭ ‬اليونانى‭ ‬الشهير‭ ‬كوستاس‭ ‬فيريس‭ ‬بعنوان‭ ‬كوبرى‭ ‬الليمون‭ ‬فيها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬إلى‭ ‬رمضان‭. ‬أقتبس‭ ‬مقتطفًا‭ ‬قصيرًا‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬لكم،على‭ ‬النحو‭ ‬التالي‭: ‬


‏‭‬‮«‬فى‭ ‬ظلمة‭ ‬الغرفة،‭ ‬ملقى‭ ‬بين‭ ‬ماكينات‭ ‬الخياطة‭ ‬والقماش‭ ‬والدمى‭ ‬والخيوط‭ ‬فى‭ ‬محل‭ ‬خياطة‭ ‬والدته،‭ ‬الصغير‭ ‬تاكيس‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬النوم‭. ‬فى‭ ‬الخارج،‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الليل‭ ‬يسمع‭ ‬صوت‭ ‬‮«‬المسحراتي‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يوقظ‭ ‬المؤمنين،‭ ‬وهو‭ ‬ينقر‭ ‬بإيقاع‭ ‬على‭ ‬درنته‭ ‬الصغيرة‭. ‬يجب‭ ‬على‭ ‬المؤمنين‭ ‬أن‭ ‬يستيقظوا‭ ‬لتناول‭ ‬الطعام‭ ‬قبل‭ ‬الفجر.

‭ ‬وإلا‭ ‬فإنهم‭ ‬سيفوتون‭ ‬فرصة‭ ‬الأكل‭ ‬ولن‭ ‬يكون‭ ‬اليوم‭ ‬التالى‭ ‬من‭ ‬الصيام‭ ‬سهلاً‭. ‬الزى‭ ‬الغريب‭ ‬للرجل‭ ‬بملابسه‭ ‬التقليدية‭ ‬الطويلة،‭ ‬النظرة‭ ‬التى‭ ‬كانت‭ ‬تتجول‭ ‬دائمًا‭ ‬فى‭ ‬الفراغ‭ ‬ولا‭ ‬تتوقف‭ ‬أبدًا‭ ‬فى‭ ‬مكان‭ ‬معين،‭ ‬صوته‭ ‬اللحن‭ ‬الإلهى،‭ ‬الذى‭ ‬تجاوز‭ ‬حتى‭ ‬صوت‭ ‬أسمهان‭ ‬فى‭ ‬أفضل‭ ‬حالاته،‭ ‬كان‭ ‬دائمًا‭ ‬يلعب‭ ‬دائمًا‭ ‬دورًا‭ ‬خاصًا‭ ‬فى‭ ‬خياله‭ ‬ويدغدغ‭ ‬مخيلته‭. ‬فالأطفال‭ ‬يلغون‭ ‬حدود‭ ‬المنطق.‬فكان‭ ‬الرجل‭ ‬يذكرهم‭ ‬بمخلوق‭ ‬أسطورى‭ ‬غريب‭ ‬مأخوذ‭ ‬من‭ ‬أساطير‭ ‬وحكايات‭ ‬الشرق‭ ‬القديمة‭. ‬استمع‭ ‬الى‭ ‬الإيقاع‭ ‬والصوت‭ ‬الذى‭ ‬كان‭ ‬ينمو‭ ‬ببطء‭ ‬ويصعد‭ ‬اعلى‭ ‬وأعلى،‭ ‬ثم‭ ‬أستمع‭ ‬الى‭ ‬الموسيقى‭ ‬الإلهية‭ ‬تنتشر‭ ‬فى‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬مع‭ ‬المحادثات‭ ‬وعبارات‭ ‬الفرح‭ ‬التى‭ ‬يتردد‭ ‬صداها‭ ‬من‭ ‬النوافذ‭ ‬المضيئة‭ ‬فى‭ ‬فناء‭ ‬منزله‭ ‬الصغير‭ ‬فى‭ ‬قلب‭ ‬القاهرة‭ ‬القديمة‮»‬‭.‬

اقرأ أيضا | «الإفتاء» توضح كيفية تدريب الطفل على الصيام «بدون تخويف».. فيديو